جدّي.. خلف زجاج لا ينكسر

قبل أيام وأنا في زيارته، كنت أحاول العمل على أرشيف الذاكرة الفلسطينية، سألته، لكنّي ظننت بعدها أنه سؤالٌ ساذج: برأيك سنعود يا جدي؟! فأجاب بنبرة قوية صلبة وبلكنته الفلسطينية: "ااااه أكيد، راجعين لو زحف، بدناش نضل هيك لاجئين، بس يمكن هالمرة بظهركم انتو".

وراء الزجاج زجاج عازل، بعد أمتار نظرةٌ مجهولة، ودمعة تدق باب الجفون بعد كل رمشة، وشريط مليء بسنين منذ الطفولة حتى اليوم وذكريات تتلوها على كل الزائرين، بين ضحكته الطيبة، وكلماته ومزاحه وخفته، ولقبٍ لاسمي خاص به، وحده من كان يناديني باسمٍ غريب، لصعوبة اسمي كما كان يقول، ولباس لم أكن أعلم لماذا عليّ ارتداءه، كل ما في الأمر أن الممرض أمرني بذلك، وأجهزة إلكترونية لا أفهم بها غير خطوط دقات القلب، وكنت أدعو بتمتمات، بأن لا يرتسم الخط الثابت الذي يرمز إلى عدم استمرار الحياة، غير أنّي لا اريد لفظ كلمة "الموت" القاسية على اللسان، وتتبعها كلمات "بعيد الشر"، أقف وساقيّ ترتجفان وأشد على الأرض لتسندني قليلاً حتى ينتهي موعد الزيارة، ويداي لا أعلم ماذا افعل بهما وأين أضعهما، وبدأت بلعن اللحظة التي شاهدته فيها بهذا الشكل الحائر، ليتني قريبة لألمس وجهه الأسمر كقمحة نبتت في"الغابسية" وتجاعيد فنية كأنه رسمها بأنامله، قبل تلك اللحظة.
جاءني صدىً لصوته يردد عليّ حديثه الدائم عن قرية الغابسية، وكيف كان شجر الصبار لعبته، وصراخ امه خوفاً من أن تجرحها أشواكها، لكن القرية مليئة بالصبار. ولم يكفّ عن اللعب بالطين، وكيف خرج ابن الثاني عشرة أعوام من تلك القرية الصغيرة قسراً مجبراً، باتت وحدها في مخيلته. لم يكن يعلم أن لعبة الطين ستكون مهنته، بعد أن أصبح بنّاءً استطاع أن يبني جدران للمخيم، وسقفاً واحداً يحمي الجميع، ودون مقابل مادي للفقراء فهو واحد من الكادحين.
كان الكتاب صديقه ويسمع شكواه، سألته حينها، كيف؟ أجاب: كنت أقرأه ثم أعيد ترميمه من جديد، وأضع في مكتبتي ليظل بأمان حتى الألوان كانت من صنعه هو، كان يقول الفن مقاومة والقراءة مقاومة.

كان الخناق يضيق على أبناء الخيام، بين وجع الحنين وقساوة العيش. الجميع ينتظر ولادة "الفدائي" الذي كان رمزاً للكرامة وعنواناً للأمل وهو النبي المُخلص من براثن اللجوء والضياع والنكبة. وحين كانت معركة الكرامة الاختبار الأول للفدائي الذي يثأر من نكسة الـ٦٧، حيث فشلت الجيوش العربية وانهزمت أمام العدو، وكانت السلطة تستفرد بقمعها للمخيمات، فشلت قبضتها في إسكات الأحرار ، يوم انطلقت الثورة من مخيمات البؤس لتعلن الانتقال من خيمة اللاجئ إلى خيمة الثائر، وعلى حد قول غسان كنفاني "خيمة عن خيمة بتفرق". وكان لجدي قسطاً من هذا الانتقال، فهو البنّاء والكادح الذي تطوّع لبناء مركز للفدائيين في المخيم. أبى إلّا أن يكون أوّل من يضع حجر الأساس في أول مكتب علني، وظلّ يفتخر كيف اقتيد يومها إلى السجن، وحين انتفض المخيم ليطلق سراحه مع عدد من الرفاق كان يرويها بفخر واعتزاز وبغير أسف على هذا العمل البطولي مهما كانت نتائج عمله. يقول لي مثله الشعبي المحبب: يا جدي زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون.

قبل أيام وأنا في زيارته، كنت أحاول العمل على أرشيف الذاكرة الفلسطينية، سألته، لكنّي ظننت بعدها أنه سؤالٌ ساذج: برأيك سنعود يا جدي؟! فأجاب بنبرة قوية صلبة وبلكنته الفلسطينية: "ااااه أكيد، راجعين لو زحف، بدناش نضل هيك لاجئين، بس يمكن هالمرة بظهركم انتو".
وكأني أخذت ما يكفي من جرعات الأمل، لتشدني قدماي على الأرض وأوعده أني سأكمل الطريق.
لن يعود... هي جملة كفيلة بأن ترعبنا من الموت حين يأتي بسواده قاصداً أحدهم، لكن هذا السواد قصد هذه المرة رجل الألوان.

الخط يرتسم على الجهاز
في صباح يوم الخميس الحادي عشر من شهر تشرين الاول عام 2018، شهري الذي ولدت فيه، الصباح الذي أحبه جلسنا جميعا نضحك، كنت أعتقد أن الصباحات هي بداية نهار جميل وهذا يعكس المشهد الآتي، يقاطعنا صوت هاتف أبي باتصالٍ مفاجئ، لا نلتفت للموضوع، ثمّ أنظر إليه وإذ بنظاراته تمتزج مع الدموع. حينها سمعت أسوأ كلمة في حياتي، وكم كانت قاسية! لم تعد كل مصطلحات اللغة اللاذعة لها معنى، لكن قلب أبي استطاع لفظها، وصوته يرتجف. أذني ما زالت ترددها حتى اللحظة، "مات أبوي" ، كانت أكثر الكلمات التي لا يمكن لسمعي إدراكها، وأكثرها بشاعة على أذناي.

ما أقسى رحيل الأجداد، وكم تحزننا دموع الآباء. كان علي أن أصنع من ضلوعي جبلاً قويّاً صلباً لأحمي دموع والدي أو أبني له بيتاً دافئاً بين كتفاي، لكي لا أجعله يشعر لحظة أنه فقد والده، أو فقد قوته. قبل ليلة كانت كل أحلامي ترسل لي بعض الإشارات تبلغني بما بلّغ الاتصال المفاجئ أبي. اعتبرت حينها أن تلك الأحلام كانت الحاسة السادسة لي ورسالة لمستقبل أمامي. طالما استيقظت مسرعة نحو الهاتف لأفسر حلم مر بي ليلاً، لكن حلمي حينها لم يحتاج إلى مفسر فجميعنا على علم بما يُقال حول الأحلام التي تبلغنا خبر وفاة "بين القبور، وقلع الضرس والاسنان". وكلها أقوال خرافية أمام أنفاسك الأخيرة!

الشهيق والزفير أمر لم نكن نعلم أهميته إلّا في كتاب العلوم في الصف الرابع، لكن جدي حين أخذ منا شهيق الحب لم يرجعه إلينا زفيراً، يبدو أنّه احتفظ بالحب في قلبه وأغلق أبوابه، ورحل. جدّي، صرت مليئاً بالحب حتى اكتفيت وصرنا ممتلئين بالحنين إليك.
ربما عدت إلى الغابسية قبلنا، فهي الجنة الموعودة ومن يكافح أكثر يعود ويرجع مطمئناً، لأن الفدائي لا ينكسر، وحدها شجرة الصبار لن تنكره!

 

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 365
`


شذى عبد العال