حكومة تتلطّى خلف "جدار العار"

في اليوم الثالث والثلاثين على التكليف، وبعد مخاض عسير، وصراع محتدم بين قوى الثامن من آذار، تمحور حول إصرار جبران باسيل على الثلث ‏المعطِّل، والحزب "القومي" على التمثّل على أساس طائفي معيّن، وسليمان فرنجية على وزيرين، وطلال ‏أرسلان على وزيرين للدروز. تلك التحاصصات الطائفية والسياسية كادت أن تطيح باحتمالات التأليف نهاراً ولا سيما بعد إعلان رئيس تيار المردة فرنجية أنه خارج الحكومة مانحاً إيّاها ثقته، محمِّلاً باسيل مسؤولية عرقلتها، إلاّ أن الاتصالات المكثّفة بين فرقاء البيت الواحد نجحت مساعيها ونال الجميع ما أرادوا، إلّا "القومي" الذي فضّل الانسحاب.

هكذا، ولدت حكومة العهد الثالثة من لون واحد في 21 كانون الثاني الماضي، برئاسة د. حسان دياب من عشرين وزيراً تحت قناع أنهم "تكنوقراط"، وقد ضمّت 6 نساء للمرة الأولى في تاريخ الحكومات، بعد تنازل دياب عن التمسّك بصيغة الـ 18 وزيراً، تراجع إلى القبول بصيغة العشرين وزيراً، كما تراجع عن تمسكه بدميانوس قطار في وزارة العمل، بإعطائها لتيار المردة وتولّى قطار منصب وزارتي البيئة والشؤون التنمية الإدارية.

تلك الحكومة الهجينة، التي أبصرت النور بعد ثلاثة أشهر على اندلاع "انتفاضة 17 أكتوبر" سارعت مجموعات الحراك الشعبي إلى مواجهتها في كافة المناطق، ولاسيما على مدخل ساحة النجمة، اعتراضاً على متابعة نهج المحاصصة التي يرفضونها. فهي المحاصصة التي اختبأت خلف ‏أسماء معظمها مجهول، والبعض منها شغل سنوات عدة منصب المستشار في الوزارة التي بات الآن وزيرها، مثل ريمون غجر المقرّب من باسيل والذي انتقل من منصبه كمستشار في وزارة الطاقة والمياه إلى منصب الوزارة نفسها التي لم تولد فيها مشاريعه النّور طيلة العشر سنوات الماضية ولا سيما الوعد الأبرز بتأمين الكهرباء 24/24.

بعد إعلان التشكيلة، عقد رئيس الحكومة مؤتمراً صحافياً زعم فيه إن "الحكومة تعبّر عن تطلعات المعتصمين على ‏مساحة الوطن، وسنعمل لترجمة مطالبهم وهي مكوّنة من اختصاصيين ذوي كفاءات،.. ‏إنها حكومة اختصاصيين لا يقيمون حساباً إلّا لمصلحة الوطن، حكومة غير حزبيين لا يتأثّرون بالسياسة ‏وصراعاتها".ومهما أطلق دياب من تسميات على حكومته، أو ادعاءه بعدم وجود حزبيين فيها، طمعاً بحصوله على نيل ثقة الشارع التي فشل فيها حتى الآن، إلّا أنه لم يخفَ على أحدٍ وبخاصة "المنتفضون" منذ 114 يوماً، أن هؤلاء الوزراء اختارتهم الأحزاب الطائفية نفسها التي حكمت البلد أكثر من 30 عاماً، وسيكملون السياسات الاقتصادية والمالية نفسها التي يقرضها البنك الدولي، والذي كانت السبب في إفلاس البلد وتجويع شعبه.

مسرحية الموازنة

على وقع شارع غاضب، تسلّل بعض النواب كاللصوص إلى ساحة النجمة، فارين من شعب أفقروه وأذلّوه بسياسات التحاصص والاقتصاد الريعي، وتحصّنوا خلف "جدار العار" الذي شيّدته الحكومة المخلوعة وأكملت نهجها في البناء وسياسة اللامبالاة حكومة دياب. وأقرّ البرلمان في 27 كانون الثاني الماضي موازنة 2020 التي وضعتها الحكومة السابقة المستقيلة للتبناها الحكومة الجديدة بحضور رئيس المجلس نبيه بري ورئيس مجلس الوزراء وسط غياب ملحوظ لأعضاء الحكومة، بأغلبية 49 صوتاً مقابل اعتراض 13 نائباً وامتناع 8 عن التصويت في جلسة حضرها 76 نائباً من أصل 128 وسط جدل حول دستورية هذه الجلسة واجتهادات من مايسترو المجلس نبيه بري حول الأعراف و"شرعيتها". هكذا نجح مخطط بري بعد إشراك الجيش في بناء "جدار العار"، واختصار المسرحية بثلاث ساعات، علماً أنه كان أعطاها يومين، ومن ثم نصح النواب بعدم الخروج من الجلسة لأن من يغادرها لن يتمكن من العودة.
وتزامناً، مع انعقاد الجلسة شهدت بيروت احتجاجات ومواجهات بين قوات الأمن والمتظاهرين الرافضين لمناقشة الموازنة باعتبارها موازنة للحكومة السابقة التي أسقطها الشارع وأن حكومة دياب لم تنل ثقة البرلمان ولم تشرف على إعداد معطيات هذه الموازنة.
أما أبرز فصل من هذه المسرحية فهو الأول؛ في السجال الذي وقع حول دستورية الجلسة، وأبطالها نواب تيار المستقبل وفي مقدمهم سمير الجسر وبهية الحريري. إذ أن كتلة "المستقبل" أمّنت النصاب باللحظة الأخيرة، ولكن حجبت الصوت على الموازنة التي وضعتها حكومة رئيسها الحريري، الذي أكّد في تغريّد عبر حسابه على "تويتر":"أن كتلة المستقبل لن تكون أداة للمقاطعة وتعطيل المؤسسات".
بدوره، ناور الاشتراكي برفضه الموازنة لكنه أمّن لها النصاب أيضاً، متذرّعاً منح البلاد فسحة للتنفس والتهدئة.
أما العرض البطولي، فكان بتوصيف نائب "القومي" سليم سعادة الموازنة بالـ "لقيطة"، عارضاً نقداً مفصلاً عنها، وفنّد الأزمة بطرافة معلناً انتهاء شهر عسل دام ثلاثين عاماً لا ثلاثين يوماً وأصبحنا على معادلة NO MONEY NO HONEY) )، إلّا انه سبح عكس خطابه وأعطى صوته لـ "اللقيطة".

100يوم على الثورة

احتفالاً بمرور مئة يوم على "انتفاضة 17 أكتوبر"، وتعبيراً عن معارضة المنتفضين لحكومة دياب التي شكّلها يوم الثلاثاء 21 كانون الثاني الماضي، كون الوزراء الجدد هم شخصيات مرتبطة بهذه الطبقة السياسية نفسها المتهمة بالفساد وعدم الكفاءة... نظّم الآلاف من المتظاهرين سلسلة من المسيرات الشعبية يوم السبت 25 كانون الثاني الماضي من أماكن مختلفة في العاصمة بيروت والمناطق المحيطة بها، رافعين شعار "لا ثقة... لن ندفع الثمن". وانطلقت من فردان، ثكنة الحلو، ساحة ساسين، جسر الدورة، وقصر العدل، مروراً بمصرف لبنان، وزارة المالية، وزارة الداخلية، ومؤسسة كهرباء لبنان، والتقت أمام جمعية المصارف، ثم اتجهت نحو مدخل البرلمان في ساحة رياض الصلح.
وافتتحت الحكومة عهدها بقرار الحسم الأمني بدلاً من الحسم السياسي، فتحوّلت المسيرات السلمية إلى صدامات بين المتظاهرين والقوى الأمنية أمام مدخل مجلس النواب، أسفرت عن إصابة العشرات بجروح من كلا الطرفين، ومنها إصابات مباشرة بالرصاص المطاطي أدّت إلى بتر أطراف اليدين لبعض المتظاهرين وانطفاء أعينهم.
في اليوم التالي، شهدت الساحة تظاهرة مماثلة، مما تسبب في وقوع إصابات جديدة. سارعت السلطات إلى تركيب جدران خرسانية أمام جميع المداخل التي تؤدّي إلى مقر البرلمان، استعداداً لجلسة الموازنة.
كذلك، استكملت المسيرات الشعبية الأسبوعية السبت الماضي، تأكيداً على أهميتها، وانطلقت بعنوان "لا ثقة... لن ندفع الثمن" من أمام مصرف لبنان، ساحة ساسين، الاتّحاد العمالي العام، مروراً بوزارة المالية، قصر العدل، وشركة كهرباء لبنان، التقت أمام جمعية المصارف، واختتمت في ساحة رياض الصلح، دون أي مواجهات.

الإجراءات المطلوبة لمواجهة الأزمة المالية والنقدية

عشية إقرار الموازنة المسخ، نفّذت مسيرة احتجاجية الاثنين 28 كانون الثاني الماضي، تحت شعار "من أجل إجراءات لمواجهة الأزمة المالية والنقدية، تحمي حقوق الناس"، انطلقت من أمام المصرف المركزي، مروراً بوزارة المالية وصولاً إلى المجلس النيابي، شارك فيها ممثلون عن: قطاع الشباب والطلاب في الحزب الشيوعي اللبناني، قطاع الشباب والطلاب في التنظيم الشعبي الناصري، الكتلة الوطنية، لحقي، بيروت مدينتي، المرصد الشعبي لمكافحة الفساد ، لبنان عن جديد، التيار النقابي المستقل، اتحاد الشباب الديمقراطي اللبناني، تحالف وطني، مدى، عامية ١٧ تشرين، الحركة الشبابية للتغيير، تيار المجتمع المدني، التجمع الديمقراطي العلماني، ومجموعة القنطاري.
وألقت جوان شاكر بياناً باسم المعتصمين، شدّدت فيه على "إن ما نعيشه اليوم من مظاهر إنهيار اقتصادي هو نتاج عقود من السياسات النقدية والمالية الهدّامة، التي قادت البلاد نحو نموذج اقتصادي غير منتج، يحمل في بنيته أسباب التفجّر والإنهيار. وقد فاقم هذا الأمر أشكال الفساد والنهب المنظّم لموارد الدولة، التي اشتركت فيها كل الأحزاب والتيارات السياسية من خلال الحكم المباشر، بالاشتراك في الحكومات أو تغييب دور المجلس النيابي في المحاسبة خلال ما يزيد على ثلاثين عاماً"، مستنكرةً السياسات النقدية المتبعة من السلطة.

ورأت أن "بداية الحل يكون عبر استبدال الضوابط العشوائية والاستنسابية التي فرضتها المصارف بتدابير عادلة عبر ضوابط تصدر بشكل ٍ رسمي وشفاف من السلطات السياسية والنقدية بما يمنع تهريب رؤوس الأموال إلى الخارج. تأخذ بعين الاعتبار طبيعة الحسابات ووجهة الاستعمال بحيث لا تطال الرواتب وصغار المودعين والحسابات الجارية وودائع الضمان الاجتماعي والحوالات من الخارج وتكون خاضعة لإطار زمني قابل للتجديد. على أن يرافق تلك الضوابط خطة إنقاذ مالية متكاملة لتكون تلك الفترة أقصر الممكن نظراً لتداعياتها السلبية. وترتكز تلك الخطة على الخطوات اللاحقة:

- إطلاق عمليّة إعادة هيكلة شاملة للدين العام الخارجي والداخلي تشمل أصل الدين وخدمته بكافة العملات، وفق آليّة لا تشمل في أي من جوانبها مصالح محدودي الدخل أو ودائع صغار المودعين، وتحميل عبء هذه العمليات لكبار المودعين وأصحاب الأسهم.
- رفض التحويل القسّري لودائع الدولار إلى الليرة اللبنانية، ووضع خطة لإدارة احتياط الدولار المتبقي بشكل استراتيجي اتجاه تأمين المواد الأساسية.
- إعادة رسملة المصارف ضمن إعادة هيكلة شاملة للقطاع ووقف توزيع الأرباح مرحليّاً بما يحمي الائتمان.
- فرض ضريبة تصاعدية استثنائية ولمرة ٍ واحدة على أصل الودائع، على أن تطال كبار المودعين حصراً.
- استعادة المليارات التي حققتها المصارف كأرباح فوريّة في إطار الهندسات الماليّة التي تجري منذ سنة 2016، أو دخول الدولة كشريك مقابل هذه الأموال.
- التحقيق في جميع التحويلات الماليّة الكبرى إلى الخارج التي جرت في آخر سنتين، والعمل على استعادتها بالوسائل القانونيّة المناسبة.ورفعالسرية المصرفية بما يضمن الشفافية والوضوح.
- إلزام جميع المؤسسات العامة والخاصة بتسعير جميع السلع والخدمات والعقود وتقاضي أثمانها على أساس سعر الصرف الرسمي الذي يعلنه مصرف لبنان، وإجبار جميع الشركات على تحرير رساميلها بالليرة اللبنانية، بما في ذلك المستثناة بموجب قوانين عامة أو خاصة. وإتخاذ الإجراءات اللازمة لضبط أعمال الصيرفة.
- تخفيض الفوائد على القروض بالتوازي مع تخفيضها على الودائع وتأجيل دفع القروضلمدة ستة أشهر على الأقل، دون تحميل أصحابها أي أعباء إضافيّة".

وشدّدت على "إن تطبيق هذه الإجراءات يتطلب شفافية ً مطلقة بميزانيات مصرف لبنان والتدقيق بها من قبل شركات موثوق بمهنيتها. وأن تقوم السلطات كافة فعلياً بدورها الرقابي تجاه المصارف. كما أن خطة الإنقاذ المالية يجب أن تتبعها سياسات اقتصادية طويلة المدى بدءاً بإعادة بناء النظام الضريبي وإعادة النظر في بنية الإنفاق العام مع منع التهرب الضريبي والقضاء على مكامن الهدر والفساد".