من «أوسلو» إلى «الصفقة»: قفزة في الفراغ... ونحو الهاوية!


يضجّ الفضاء الإعلامي بشتّى أنواع القراءات والتحليلات الخاصة بما أسماه ترامب «اتفاقاً تاريخياً» بين الإمارات والكيان الصهيوني، والذي جرى إعلانه يوم الخميس 13/8/2020. وكانت الضجة أكبر بما لا يقاس مع الإعلان عن «صفقة القرن» نهاية الشهر الأول من هذا العام.


مساطر قديمة وواقع جديد
في التعامل مع القراءة التي سنحاول تقديمها هنا، أو مع أيٍ من القراءات الخاصة بالموضوع، نعتقد أنّ أول ما ينبغي التخلص منه للاقتراب من قراءة موضوعية للمسألة هو مساطر القياس القديمة التي ما عادت تصلح لقراءة الواقع الجديد؛ إذ يرى المتابع بين أكوام التحليلات، أقساماً عريضة منها ترى في التطبيع الإماراتي وفي «صفقة القرن»، استمراراً لمسار واحد هو ذاك الذي بدأ مع كامب ديفيد ثم وادي عربة وأوسلو والتنسيق الأمني، أي استمراراً لمسار تعاني فيه القضية الفلسطينية خسارة تلو أخرى، وتراجعاً وراء تراجع...
وإذا كان الثابت عبر «الصفقات» المختلفة، أنّ الشعب الفلسطيني لم يتراجع خطوة واحدة إلى الوراء وبقي متمترساً في خندقه النضالي التحرري، فإنّ الفارق الهائل بين كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو وما شابهها من جهة، وبين «الصفقات المعاصرة» من جهة ثانية، لا يُحسب بالسنوات فقط، بل وأهم من ذلك، بطبيعة التوازن الدولي الذي يحكم كلاً منها؛ فصفقات النصف الثاني من القرن العشرين جرت في ظل توازن دولي كان الراجح ضمنه هو معسكر الولايات المتحدة وحلفائها (بشكل نسبي منذ السبعينيات ومطلق منذ التسعينيات).
ولكن خلال العقدين الأخيرين، والسنوات القليلة الماضية بشكل خاص، فإن العالم يعيش مرحلة تحول كبرى في ميزان القوى الدولي، مرحلة نزعم أنها ترقى في عمقها لأن تكون انعطافاً تاريخياً من النمط الذي يجري كل بضعة قرون مرة واحدة. انعطافاً نحو عالم جديد ليس عالم «ما بعد أمريكا» فحسب، بل وعالم ما بعد المنظومة الغربية بأسرها...
ولأن المجال لا يتسع هنا للاستفاضة في دعم هذا الزعم بما يتطلبه من حقائق، كنت قد كتبت عدّة مقالات تتعلق بالمتغيرات العالمية والإقليمية التي من شأنها أن تؤثر على مجرى الصراع العربي-الصهيوني. هذه المقالات موجودة على موقع " قاسيون".
فسنلحق بالنسخة الإلكترونية من هذه المادة أربعة روابط لمقالات حول الموضوع، ونكتفي هنا بإشارات برقية لغيض من فيض المؤشرات والوقائع:
● الحزام والطريق والمشروع الأوراسي ومنظومة بريكس ومنظومة أستانا، وما يرافقها من إزاحة متصاعدة للدولار من التبادلات البينية ومن تكريس متصاعد للامركزة الطاقة ولعمليات الإحلال التدريجي لمنظومة مالية عالمية بديلة تستغني عن الدولار نهائياً.
● الانقسامات العميقة في معسكر الحلفاء المقربين من الولايات المتحدة، سواء بين الدول، أو ضمنها: (العلاقة الأمريكية الأوروبية، البريطانية الأوروبية، الأمريكية الألمانية، الأمريكية مع أستراليا ونيوزيلاندا، الأمريكية التركية... إلخ).
● الميل الثابت نحو التحسّن التدريجي للعلاقات الروسية الصينية مع «حلفاء تقليديين» للولايات المتحدة؛ تركيا، الخليج العربي، اليابان، ألمانيا... وغيرها.
● كورونا وآليات التعامل معها على المستويات المختلفة وما خلفته من تعرية لحجم الأزمة والتهتك ضمن البنية الغربية، مادياً وأخلاقياً.
● خلال الأشهر الخمسة الماضية فقط، انسحبت الولايات المتحدة من (6 قواعد عسكرية في العراق- وبات انسحابها الكامل منه قاب قوسين، وبما سينتجه ذلك من انسحاب إجباري من سورية)، (5 قواعد في أفغانستان)، (12000 جندي من ألمانيا).
● انكمش الاقتصاد الأمريكي بين نيسان وحزيران بمعدل سنوي قدره 9%، وهو أكبر انخفاض حاد في تاريخ الولايات المتحدة. أكثر من ذلك، فإنّ التقديرات الأمريكية «المتشائمة» التي كانت تقول سابقاً بأنّ الاقتصاد الصيني سيتجاوز الاقتصاد الأمريكي في وقت ما بين 2025 و2030، باتت قديمة جداً... لأنّ الصين قد تجاوزت الولايات المتحدة فعلاً. وفقاً لمقياس GDP(PPP) لعام 2020 فالصين متقدمة بأكثر من 7.5 ترليون دولار عن الولايات المتحدة وبنسبة تزيد عن 37%: (توقعات صندوق النقد الدولي لعام 2020: الولايات المتحدة 20.29 ترليون، الصين 27.8 ترليون، أي أكثر من مرة وثلث من الاقتصاد الأمريكي).
● انخفض الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي خلال الأشهر الستة الأولى من 2020 بنسبة 11%... أي ما يقارب انخفاض الناتج الروسي خلال تفكك الاتحاد السوفييتي.
● في تموز، ارتفع عدد العمال الذين يطالبون بإعانات البطالة المستمرة إلى 17 مليون، وأفاد حوالي 30 مليون أمريكي بأنه لم يكن لديهم ما يكفيهم من طعام.
● تشير التقديرات إلى انخفاض أجور الملايين من العمال الأمريكيين بمقدار الثلثين، من وسطي 921 دولار أسبوعياً، إلى 321 دولار أسبوعياً.

الميزان الدولي والمهام المطروحة
وإذا كنا قد استهلكنا في الكلام السابق عن الميزان الدولي مساحة واسعة من هذه المادة، فلاعتقاد راسخ لدينا بأنّ فهم «الاتفاق» الجديد غير ممكن دون ذلك. وربما الأهم أنّ المساطر العتيقة للميزان الدولي السابق، والتي لا يزال البعض يستخدمها حتى الآن، تحمل مخاطر كارثية على الفهم من جهة، وعلى صياغة المهام من جهة ثانية؛ فبناءً على المساطر العتيقة، نرى أن سقف مواقف العديد من القوى المناصرة للقضية الفلسطينية بات محصوراً في «مقاومة تصفية القضية الفلسطينية»، وللمصادفة العجيبة، فإنّ هذه القوى نفسها كانت ترفع أيام التوازن الدولي السابق شعار «تحرير فلسطين من البحر إلى النهر»... أي أنّ الأمر يبدو معكوساً: أيام التراجع الفعلي للحركة الثورية حول العالم وتقدم الأمريكي وحلفائه كانت الشعارات أعلى من الوقائع، واليوم نشهد حالة معاكسة!


كلمة حول صفقة القرن
تأسيساً على ما سبق ذكره، وقبل أن نعرض تصورنا حول معنى «الاتفاق التاريخي»، نشير إلى قناعتنا بخطأ القول بأنّ هذا الاتفاق هو استكمال لصفقة القرن وجزء من مندرجاتها، وهو أمر سنحاول إثباته فيما يلي. بداية، فإنّ صفقة القرن نفسها، ومن حيث الجوهر، تستهدف لا توسيع النفوذ والامتداد «الإسرائيلي»، و«تصفية القضية الفلسطينية»، بل على العكس من ذلك، تستهدف تثبيت وضع الكيان الصهيوني وحمايته من التصفية بما هو كيان عنصري احتلالي؛ فمع الانسحاب الأمريكي الإلزامي من المنطقة بأسرها، والذي بدأ فعلياً وسيتسارع في الفترة القريبة القادمة، ومع التراجع الغربي العام، فإنّ المشروع الصهيوني في «إسرائيل» والذي نشأ أساساً كاستطالة للمشروع الغربي في منطقتنا، سيقف أمام سؤال الوجود. وبعبارة أخرى، فإنّ المصلحة الأمريكية- الإسرائيلية المتبادلة في صفقة القرن تتلخص بالتالي: الولايات المتحدة المضطرة إلى الانسحاب من المنطقة تريد الحفاظ على قلعتها الأساسية فيها لكي يبقى لها بعض نفوذ في المنطقة، وإسرائيل التي ستنسحب راعيتها الأولى من المنطقة بحاجة إلى تعزيزات مضاعفة أمنية وعسكرية ومالية، وأهم من ذلك سياسية (عبر جملة صفقات)، لحماية استمراريتها واستمرار احتلالها لفلسطين. وبكلمة مختصرة، يمكننا القول إنّ «صفقة القرن» وإنْ كانت بظاهرها خطوة هجومية من المعسكر الغربي، فإنها في جوهرها خطوة دفاعية وانكفائية غاية ما تسعى إليه هو محاولة تدعيم الكيان أمام مستقبل قريب شديد الخطورة على استمراره.

قفزة في الفراغ
لأنّ عملية التراجع والانكفاء الأمريكي، هي عملية سريعة ومتسارعة بالمعنى التاريخي، فإنّ خطوة الإعلان عن صفقة القرن مطلع هذا العام، والتي جاءت تحت ضغط الزمن والتراجع المتسارع للأمريكي والأزمات الداخلية العميقة التي يعيشها الكيان، فإنها قد مثّلت بالمعنى العملي قفزة في الفراغ؛ فمجرد الإعلان عنها هدم اتفاق أوسلو إلى غير رجعة، ولكن في الوقت نفسه، لم يسمح الإعلان بتنفيذ الصفقة، ولم يسمح تالياً بالاستقرار عند نقطة جديدة بعد أوسلو. وإذا كان من بين النتائج الإيجابية حقاً، لإعلان صفقة القرن، أنه حطم اتفاق أوسلو سيئ الذكر والصيت، فإنه فتح الطريق أيضاً لإعادة تنظيم صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية بعيداً عن الثنائية الوهمية بين فتح وحماس والتي لعبت دوراً هداماً طوال العقدين السابقين… إعادة تنظيم وتوحيد الصفوف الذي من شأنه أن يشكل وحده عقبة كأداء في وجه شتى أشكال الصفقات والتطبيع.

العلاقة بين «الصفقة» و«الاتفاق»
عندّ هذا الحد، يمكننا القول إنّ التخبط الذي نجم عن القفز في الفراغ، هو بالذات ما أنتج «الاتفاق التاريخي» بين الإمارات والكيان الصهيوني؛ فليس خافياً على أحد أنّ الاتفاق بحد ذاته قد لا يغير بالمعنى العملي سوى أشياء قليلة جداً في طبيعة العلاقة بين الإمارات والكيان، لأنّ العلاقة بينهما مطبّعة أصلاً... ولذا فإنّ الضجة الإعلامية السياسية المرافقة للاتفاق، هي بالضبط ما كان الصهيوني محتاجاً إليه.أي أنّ توقيع هذا الاتفاق –باعتقادنا- ليس جزءاً من صفقة القرن، بل هو جزء من جملة خطوات يسعى الأمريكي والصهيوني للقيام بها، بالضبط كبديل عن صفقة القرن التي دفنت في مهدها. أي أننا الآن أمام خطة (ب)، وربما (ج)، لها الهدف الأساسي نفسه للخطة (أ)، أي تقليل آثار الانسحاب الأمريكي على «إسرائيل».
ولعلنا سنشهد تنقلات سريعة نحو خطط جديدة، لأنّ القوى المتراجعة تغير خططها باستمرار وبسرعة كبيرة، وتنتقل من فشل إلى فشل أكبر...هل يبدو كلامنا بأسره ضرباً من «التفاؤل التاريخي»؟ حسناً، فلنقرأ إذاً ما تنشره مراكز أبحاث العدو نفسه... وعندها ربما نبدو أقل تفاؤلاً مما ينبغي أن نكون عليه.
* أمين مجلس حزب الإرادة الشعبية- سورية

 

   1"سباق أميركا العجوز مع الزمن.. كيف تحضّر أميركا لانسحابها من سوريا؟"، و"حرب الناقلات وخطوط التجارة الدولية"، و" عن مستقبل ( دول الأطراف) .. العربية ضمناً "، و" تجاوب حاد وانهيار يلوح في الأفق". 

 

 

للمزيد:
سباق أمريكا العجوز مع الزمن... كيف تحضر أمريكا لانسحابها من سورية؟
.............
حرب الناقلات وخطوط التجارة الدولية
.............
عن مستقبل (دول الأطراف)... العربية ضمناً
...........
«تجاوب حادّ»... وانهيار يلوح في الأفق!
..........