العنف الأسري: الأسباب والنتائج

 في غضون بضعة أيام وقعت ثلاثة جرائم استهدفت ثلاث نساء في عدة مناطق لبنانية، ليرتفع عداد ضحاياهن من سبعة قبل الكورونا الى عشرة في خلالها بحسب إحصاءات المديرية لعامة لقوى الأمن الداخلي.

قتلها ثم اغتصبه!!
بيّنت المعطيات المتوافرة لغاية اللحظة، أن أسباب الجرائم المذكورة تراوحت بين اعتداء جنسي وطلاق وسرقة؛ فقد اعترف: م. م. (مواليد عام ۱۹۸۹، سوري) بأنه قتل زوجة خاله لرفضها تلبية رغبته الجنسية التي حقّقها في جثتها، ومن ثمّ سرق خاتماً ذهبياً من يدها وهاتفها الخليويّ. أما الجريمة الأخرى فقد طالت اللاجئة الفلسطينية وداد محمد كامل حسون في مخيم نهر البارد، وفيما تحدّثت المعلومات عن أن سبب القتل هو السرقة فإن فرضية الاعتداء الجنسي عليها غير مستبعدة بحسب مصدر خاص، بينما قتل إ. غ. زوجته زينة كنجو خنقاً وهي التي كانت قد رفعت دعوى قضائية ضده بجرم السرقة والتعنيف طالبةً الطلاق. برغم تعدد أسباب العنف ضدّ السيدات فإن المؤكد أن النساء يتعرّضن للتعنيف بشكل شبه متصاعد، والقتل هو ذروة ذلك التعنيف الذي يأخذ أشكالاً مختلفة ويرتكبه ليس الأزواج فحسب، بل عدة أشخاص بينهم الأب والأخ والابن وحتى الوالدة أيضاً، فضلاً عن آخرين.

وإذا تابعنا الجرائم التي تُرتكب ضدّ النساء والفتيات في لبنان والمنطقة العربية نرى أن نسبتها ارتفعت في خلال أزمة جائحة كوفيد 19؛ فالمشكلة بحسب السيدة علياء عواضة المديرة التنفيذية بالشراكة لجمعية Fe-MALE، تكمن في عدم تشديد العقوبات في قضايا قتل النساء وسيادة سياسة التراخي، فضلاً عن أن التحقيقات تطول قبل إصدار الأحكام القضائية التي غالباً ما تمنح أعذاراً مخفّفة للمجرمين والمعتدين. وبسبب ازدياد هذه الظاهرة أنشئ في 6 تشرين أول عام 2018 خط ساخن (1745) للاستقبال شكاوى العنف الأُسري في لبنان الذي ترافق بعد فترة ليست كبيرة، مع مفصلين تاريخيين هامين في الحياة الاجتماعية اللبنانية، وهما انتفاضة 17 تشرين وجائحة كورونا، ولكلا المفصلين خصوصيات تؤثّر في تزايد العنف الأسري في المجتمعات وبخاصة في المجتمع اللبناني.


أسباب العنف الأسري...
إنّ تمضية معظم أفراد الأسرة وقتاً طويلاً خارج المنزل هو أحد أسباب عدم وقوع خلافات فيما بينهم، حيث يبدو، بحسب المعالجة النفسية "لُما أمهز جوليان"، أن الانتفاضة شكّلت ما يمكن تسميته بالتفريغ النفسي لدى شرائح كثيرة من الناس الذين أخرجوا في خلالها مكبوتاتهم بشكل كبير وعبّروا عنها بأشكال مختلفة، ومن ثَمَّ جاءت جائحة كورونا لتحجزهم في المنازل، الأمر الذي ساهم بشكلٍ جائر وقاسي، بتفاقم الحالة النفسية لديهم؛ فتفجّرت بما يمكن تسميته العدوانية التي تأخذ أشكالاً متعدّدة العنف: قتل، شتم، تهديد إلخ. فضلاً عن الآثار التي خلّفها التردّي الاقتصادي والاجتماعي والبطالة على لدى المجتمع ككل.

ما هي العدوانية؟

هي جزء من التفاعل الإنساني ما بين الذات بجميع خفاياها ومكبوتاتها وخبراتها الواعية وغير المدركة؛ لذلك تضيف أمهز، يجب أن ينصبَّ التركيز على معرفة ميكانيزمات التفاعل الداخلي وطرق الاستجابات على المحفّزات الخارجية. وبالتالي هي نتاج تشابك معقّد من الأسباب المباشرة وغير المباشرة والأسباب الخارجية والذاتية الخاصة بالفرد ووضعيته. وقد تُشكّل شخصية الفرد وخصائصها النفسية، رادعاً في كبح السلوك العدواني أو قد تسمح بحصوله. فالعدوانية إذاً تأتي كحلٍّ لصراع داخلي يعيشه الفرد ناتج عن عدم القدرة على التكيّف. ونجد من المنظور النفسي المعرفي السلوكي، أن ردّات الفعل الانفعالية وحدها غير كافية لحصول الجريمة إلّا إذا تماشت مع مخطّطات فكرية مغلوطة. وتضيف أمهز، يعتبر المنظور النفسي التحليلي أن شخصية الفرد تستند الى ثلاثة عناصر أساسية متصارعة ومتناقضة هي: الــــ "هو" و"الأنا" و" والأنا الأعلى"؛ فـ "الهو" تمثل الدوافع الفطرية والغرائز البدائية التي تبحث عن الإشباع السريع لرغباتها بأيِّ طريقةٍ كانت، وتتميز بالنزعة الأنانية والسعي نحو اللذة وإرضاء الشهوات حتى لو عن طريق العدوانية. أما "الأنا العليا" التي تمثّل ما فوق الشعور لدى الفرد، أي إنها تعبّر عن تقمّصات الشخصية، في خلال مراحل نموّها، للقيم الاجتماعية والثقافية والفضائل الأخلاقية المحيطة، أي إنها بمثابة الضمير الحي والوازع المثالي داخل شخصية الفرد. أما "الأنا" وهي الذات في صورها العاقلة المسؤولة عن التعامل مع الواقع، فمن مسؤولياتها كبح جماح "الأنا العليا" من جهة، والــ "هو" من جهة أخرى. وبالتالي فهي تمثل الإدراك والوعي لدى الفرد، وهي تتعرّض بشكل دائم ومستمر لضغوطات، وهدفها التوفيق ما بين المثالية والغريزة في التعامل مع الواقع والمحيط، فإذا عجزت عن أداء دورها السوي وقع الإنسان في صراع داخلي يغلّب فيه أحد طرفيْ الصراع. فإمّا يتوجّه الفرد بذلك إلى الزهد والتعبّد في حال فوز "الأنا الأعلى"، أو تفرض الـ “هو" سيطرتها على الشخصية وبذلك يتجه الفرد الى إشباع رغباته وشهواته وملذاته وعدوانيته بدون قيد أو حدود وبكلّ الطرق المتاحة لديه.

وتختم لُما أمهز، يبقى السؤال قائماً حول الأسباب المباشرة أو العوامل التي قد تساهم في حصول العدوانية.. ومنها، العوامل الخارجية المتمثّلة بالبيئة المتفكّكة والمتزعزعة، وتاريخ الشخصية المعبّر عن طفولة قاسية يسودها الحرمان على جميع الصعد وعدم النضج العاطفي الخاص بالفرد. وعلى الرغم من أن الأسباب الكامنة وراء السلوك العدواني هي نتاج الضغوطات الاجتماعية والطفولة البائسة، غير أننا لا نستطيع تعميم هذه الفرضية، لأن هناك العديد من الأشخاص الذين اختبروا طفولة مماثلة لكنهم لم يتحوّلوا الى مجرمين.

تبرير مجتمعي للجريمة!

تلفت السيدة علياء الى أنه يجري تبرير جرائم قتل النساء مجتمعياً بطريقة جداً غريبة؛ فهن دائماً السبب باغتصابهن وبقتلهن ولا يتم النظر للجريمة كجريمة، أو أن هناك كائن حي تم سلبه الحياة، بل ينظر إليهن كزوجات مملوكات لأحدٍ ما، وبالتالي يُعطَى العذر والتبرير ليقتلها. للأسف هذا ليس فقط في لبنان فقد شهدنا في خلال هذه الفترة ارتفاعاً كبيراً لنسب التعنيف والقتل، فمنذ أيام قليلة قتلت فتاة سعودية لأنها استخدمت "سناب شات”، وفي الأردن قتلت أخرى لأنها كانت تتحدث مع زميلها في الجامعة، وغيرها الكثير من جرائم القتل التي ترتفع بنسبة مخيفة والتي هي مرتبطة بالنظام الأبوي. وختمت عواضة أنظمتنا العربية أنظمة أبوية تقوم على السلطة وتعتبر النساء ملكيات خاصة وحق تقرير مصيرهن يظلّ خاضعاً لمنظومة قانونية غير قادرة على حمايتهن كما يجب. هناك ظروف أخرى تقول أمهز.. في لبنان تزيد من الخلافات بين أفراد الأسرة، وهي ظروف التركيبة السياسية والطائفية والمذهبية وحتى العائلية المعقّدة للمجتمع اللبناني وقواه السياسية التي تتفق في الأنا العليا وتسعّر الخلافات في الأنا الدنيا.

ماذا في الأرقام؟

لقد ارتُكِبت في لبنان منذ بدء استقبال شكاوى العنف الأسري نهاية سنة 2018 ما يزيد عن 3330 اعتداءً أسرياً، بينهم 126 وقعوا في خلال أشهر قليلة من سنة 2018 ليرتفع العدد الى 716 سنة 2019 غير أن الرقم تضاعف بشكل كبير جداً سنة 2020 ليصل الى 1487، أي بزيادة بلغت أكثر من 107 بالمئة عن سنة 2019، الأمر الذي يعزوه عارفون الى عنصرين:
الأول: قبل إنشاء الخط الساخن كانت الاعتداءات تحصل في البيوت، ولكن لم يكن هناك طريقة لإحصائها أو الاعلان عنها.
الثاني: ارتفاع نسبة الوعي عند النساء خصوصاً وشعورهن بأن هناك من يناصرهن في المجتمع ليس عبر الجمعيات وحسب، بل من خلال وسائل إعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بموازاة سرعة استجابة القوى الأمنية للشكاوى التي ترد إليها.

توزّعت هذه الشكاوى بين عدة جنسيات، ففي حين سُجّل خلال السنة المنصرمة 1204 اتصال من لبنانيين للتبليغ عن حوادث عنف أسري؛ فإنه سجل 172 اتصالًا تقدم بها سوريون، وتتوزّع سائر الشكاوى الأخرى بين جميع الجنسيات المقيمة في لبنان.

وتعدّدت أشكال العنف وشخصياته، بحيث توزّعت صفة المعتدي بين عدة مرتكبين. فمن أصل 1487 اعتداءً وقع سنة 2020 تبيّن أن 889 منه ارتكبها الأزواج بما نسبته أربعين بالمئة من مجموع الاعتداءات، يليها ارتكاب الأب 189 اعتداءً فالشقيق 135 اعتداءً. ليتبيّن ايضاً ان معظم أفراد الأسرة يشاركون في تنفيذ تلك الاعتداءات، ويتوزّعون بين الابن وزوجة الأب والأم والطليق والشقيقة إلخ. وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدلّ على أن العلاقات الاجتماعية متداخلة فيما بين العائلات الى حدٍّ كبير، وأن مضاعفات تلك العلاقات تأخذ أشكالاً تصادمية داخل المجتمع ككل.

من هم المبلّغون؟

اللافت هو أن صفة المبلّغ كانت جيدة لكون 896 شكوى وردت ممن تعرضن للتعنيف، يليها 209 اعتداءات بلّغ عنها الجيران فيما نحو 90 اعتداءً بلّغ عنها الأشقاء و87 الأمهات.

العبرة في تطبيق القوانين...

تحصل كلّ هذه الجرائم التي تدخل في باب العنف الأسري بالرغم من إقرار المجلس النيابي بتاريخ 21/12/2020 قانون تجريم التحرش الجنسي وتأهيل ضحاياه، وبعض تعديلات قانون "حماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري"، حيث تبقى العِبرة بتطبيق مندرجاته وعدم التغاضي عنها مهما كانت الأسباب.