نبض البرتغال وقرنفل الثورة

في البرتغال البلد الذي تتقاطع فيه الحضارات اللاتينية، الإغريقية والرومانيّة نشأت موسيقى "الفادو" وتحوّلت مع الوقت إلى تراث وطني يحاكي تاريخ هذا البلد الممزوج بمعاناة شعبه وتوقه الدّائم للحريّة.
 القدر أو المصير، وهو ما يعنيه مصطلح El Fado في اللغة البرتغالية، بحيث تنوّعت موضوعاتها الغنائيّة، لتنقل المعاناة الحياتيّة لفقراء البرتغال والمنبوذين من أبناء الأحياء الشعبيّة.

إنّها مزيجٌ من الإيقاع الزّنجي السّريع ودفء الموسيقى الأندلسيّة والفلامنكو تتولّد من تقاطع إيقاعات آلات التشيللو والغيتار الكلاسيكي والبرتغالي.

مسكونة برذاذ البحر ومراكب الصّيادين، عبّرت الفادو عن الحب والفقد والخيبة وهموم الطبقة العاملة والهجرة... ما جعلها تلامس الوجدان الإنساني بكل حالاته لذلك وُصفت بموسيقى الرّوح.
في البدء كان هذا اللون الغنائي حكراً على طبقة المُهمّشين والفقراء وسمةً من سمات الأحياء التي تنتشر فيها الجريمة والدعارة، ثمّ تنامى وتعاظم في القرن العشرين ليصبح موسيقى الشعب البرتغالي بمختلف أطيافه وطبقاته.

هذا التحوّل النوعي جاء بعد إنتاج فيلم بعنوان "ماريا سيفيرا" في مطلع ثلاثينيّات القرن العشرين، وكانت قصته تدور حول مغنية غجرية مومس وقع في غرامها أحد الكونتات. وهكذا بدأت تتبلور هذه الموسيقى في الوعي الشعبي وتُستغل في الإنتاج الرأسمالي سواءً من خلال الحفلات أو إنتاج الأفلام. وبعد عامٍ تحديداً، في عام 1933، بدأ أطول عهد ديكتاتوري في تاريخ أوروبا الغربيّة، حين تولّى أنطونيو سالازار الحكم.

حاول سالازار التّقليل من شأن الفادو بحجة أنّها موسيقى الماضي والحنين والبكاء على الأطلال حيث أرعبه تأثيرها الكبير في النّفوس. لكنّه ما لبث أن رضخ لسطوتها الجماهيرية فاعترف نظامه الفاشي الجديد بكونها الموسيقى التي تعبّر عن الرّوح القوميّة للأمة. وبالرغم من ذلك، أخضعَها لرقابة صارمة أفرغتها من قيمتها النضاليّة التي تلامس شؤون وشجون الطبقة العاملة وحصرَها ضمن موضوعاتٍ هامشيّة جعلتها أكثر تناغماً مع سياسة الدولة السّاعية لتلميع صورتها الخارجيّة ولإشاعة فكرة أنّ الفقر المدقع الذي يحياه المواطن البرتغالي لا يمنعه من العيش بسعادة.

تمكنت أماليا رودريغز، ملكة الفادو، بحضورها الآسر وصوتها السّاحر من نقل موسيقى وأغاني الفادو من إطارها المحلي إلى العالمية.
عشقت رودريغز سالازار وارتبط اسمها بالنظام، ما أحدث استياءً شعبيّاً عارماً، تُرجم بمقاطعة أغنياتها.
ضاق اليساريون، من ضباط وجنود ذرعاً بنظام أمعن في إفقار الشعب والتضييق عليه وتوريط البلاد في حروب لا طائل منها، فأسّسوا تنظيماً أسموه "حركة القوات المسلحة" كتمهيد لثورة تطيح بالنظام الديكتاتوري.

لعبت موسيقى "الفادو" دوراَ بارزاَ في حركة التحرّر الوطني وأيقظت الوعي الشعبي على ضرورة محاربة الظلم والقمع اللذين أغرقا البلاد.

بثّت الإذاعة في 25 نيسان عام 1974 أغنية كانت محظورة لسنوات عنوانها "غراندولا، فيلا مورينا" التي كتبها وغنّاها زيكا أفونسو،الذي عانى من مطاردة السلطة بسبب التزامه السياسي، فطُرد من عمله كمدرّس في التعليم العالي وتعرّض للقمع ومُنعت أغنياته من التّداول وسُجِن.
كانت إحدى أغنياته "غراندولا فيلا موريتا" بمثابة إشارة لإعلان بداية الثّورة التي أطاحت بديكتاتورية عمّرت أكثر من أربعين عاماً.
فيما يلي كلمات الأغنية :

"غراندولا،
المدينة السّمراء
أرض الأخوّة
والشّعب الحاكم
في دواخلك أيّتها المدينة،
يكثر الأصدقاء
وتتساوى الوجوه
وفي ظلّ شجر البلوط
الذي لا يعرف عمره
أقسمت أن أتخذك رفيقتي؛
رهن إرادتك".

أدرك البرتغاليون لاحقاً أنّ رودريغز كانت تقدّم العون والمساعدة للمعارضين وكانت تعمل لتقويض حكم سالازار بسريّة مطلقة. فتحول بيتها في لشبونة إلى متحف يقصده الباحثون وعشاق الفادو.

سيليستي كايرو هي المرأة التي قامت في 25 نيسان 1974 بالترويج لتوزيع أزهار القرنفل على الجيش الذي كان مسؤولاً عن الانقلاب الثوري.

كانت سيليستي تعمل في مطعم في لشبونة. المطعم، الذي تم افتتاحه قبل عامٍ بالتحديد، أي قبل عام من الثّورة، قرّرت إدارته تقديم الزهور للزبائن في ذكرى افتتاحه. بسبب الاحداث السياسية، أُقفل المطعم  وكانت الزهور من نصيب العاملات.

في طريق العودة، حملت كايرو حزمةً من القرنفل الأحمر والأبيض. واجهت على الفور الدبابات التي استخدمها الثوار، وعند الاقتراب من إحداها، سألت عمّا حدث، فأجابها جندي: "إنّها الثورة!"، وطلب منها سيجارة، لكن كايرو لم يكن معها سوى القرنفل. فأعطته الشيء الوحيد الذي تملكه، القرنفل.
علق الجندي الزهرة في فوّهة البندقية ثمّ أكملت كايرو توزيع القرنفل على الجنود ، ما شجّع موزّعي الزهور على تقليدها. ولهذا السّبب، أصبحت الثورة تُعرف باسم "ثورة القرنفل".

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 355
`


لينا الحسيني