فمع تفاقم أزمة النظام الرأسمالي، وفي ظل هذه الأزمة، تمرّ شعوب العالم بمرحلة تتعاظم فيها المخاطر الوجودية، ومعها تزداد معاناتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، جرّاء لجوء الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها إلى الحروب العدوانية للحفاظ على هيمنتها ومنع قيام نظام عالمي جديد متعدد المراكز القطبية. لقد كان، ولا يزال، لمنطقتنا العربية الحصّة الأكبر من هذه الحروب العدوانية، فهي دفعت ولا تزال تدفع أثماناً باهظة من دماء وضحايا وتضحيات وكوارث، في النزوح والهجرات واللجوء والجوع وسوء التغذية والأوبئة والبطالة والمديونية… التي تفضح بمعظمها حالة الهمجية المتوحّشة التي نراها في حرب الإبادة الجماعية على الشعب الفلسطيني، المستمرّة من دون توقف منذ أحد عشر شهراً، والتي يشنّها العدو الصهيوني، بمشاركة فعلية من الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الأطلسيين، سواء عبر الدعم المباشر بأحدث أنواع الأسلحة التي توصّل إليها التطوّر العلمي والتكنولوجي الخاضع لاحتكارها، أو بحشد السفن والأساطيل، أو بالمعطيات الاستخبارية، أو بالتغطية السياسية في المحافل الدولية والقضائية، ويتم ذلك بتواطؤ أنظمة التطبيع العربي وقوى الرأسمال والتبعية.
في مواجهة الغطرسة الأميركية، والمجازر الصهيونية، كان لصمود الشعب الفلسطيني ومقاومته أثراً بالغاً على شعوب العالم، حيث شهدت المجتمعات الأوروبية والأميركية تحوّلات كبيرة لا سيما لدى الطلاب والشباب، وانعكاساً على مواقف العديد من القوى السياسية والأحزاب والتجمعات، تضامناً مع الشعب الفلسطيني ووقوفاً ضد قوى اليمين المتطرف. رغم أن ميزان القوى العالمي، ومع كل التغيّرات الإيجابية، ما زال راجحاً لمصلحة الإمبريالية.
وفي هذا السياق، تستمرّ حكومة الكيان الصهيوني بتصعيد عدوانها على غزة وبارتكاب المزيد من المجازر الدموية، كما تصعّد حملتها العسكرية والسياسية في الضفة الغربية، وتقرّ ضم المنطقة “باء” إلى المنطقة “جيم” من ضمن احتلالها لتوسيع الاستيطان، بحيث لم يبقَ من أراضي الضفة الغربية، تحت “سيادة” السلطة الفلسطينية سوى 18% منها، ويهدف العدو إلى ضمّ الضفة كلها وتهجير ثلاثة ملايين فلسطيني إلى الأردن، بعدما أقرّ الكنيست رفض فكرة دولة فلسطينية مستقلة ضمن ما يُعرف بحلّ الدولتين.
ولم يكن خطاب رئيس الحكومة الصهيونية نتنياهو في الكونغرس الأميركي سوى تمهيد لاستكمال حرب الإبادة وتصعيدها، علّه يحقق صورة النصر الواضح. حيث أعلن بأن “إسرائيل” هي من تحمي مصالح الولايات المتحدة ومصالح “العالم المتحضّر” ضد “الهمجية”. أما مواقف المرشحين هاريس وترامب فكانت خلال لقائه مع كل منهما مواقف انتخابية، أما القرار الفعلي فكان الاستمرار بإعطائه المزيد من الوقت لتحقيق أهدافه. ومن المعروف أن السياسات الخارجية للحزبين الجمهوري والديمقراطي، تلتقي على دعم الكيان الصهيوني باعتباره القاعدة المتقدّمة للإمبريالية في المنطقة. وقد تجلّى ذلك في كل الحروب العدوانية التي خاضها هذا الكيان وكذلك في موقف واشنطن من القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، وفي استخدامها المتكرّر لحقّ النقض (الفيتو)، دون إغفال المساعدات العسكرية والمالية المقدّمة سنوياً للكيان، ومعها ترسانة الأسلحة الموضوعة بتصرّفه.
وبناء على هذا الدعم، جاءت عمليتا الاغتيال في الضاحية الجنوبية لبيروت وفي طهران ليحقّق نتنياهو إنجازاً سياسياً وأمنياً، سياسياً في وقف الصفقة وإبراز صورة المنتصر، وأمنياً في نجاح العمليتين. كما استفاد نتنياهو من هذه الاغتيالات داخلياً، من خلال تعزيز موقعه أمام خصومه، وخارجياً بإعطاء الأميركي هامشاً في المفاوضات للضغط دولياً وعربياً على المقاومة لفرض المزيد من التنازلات.
كانت التقديرات عند قوى “الإسناد” أن الموقف “الإسرائيلي” وصل إلى الذروة، وما يقوم به الإسرائيلي ليس أكثر من تهديد وانه لو استطاع لفعل ذلك قبل انقضاء العشرة أشهر. وأن دور الجبهة في الجنوب اللبناني هو الإسناد، وأن العدو الإسرائيلي لا يريد توسيع الحرب مع لبنان، وأنه ملتزم بقواعد الاشتباك، وأن عملياته الأمنية ستبقى على هذه الوتيرة. لقد بقيت هذه التقديرات على ما هي عليه بعد خطاب الكونغرس التصعيدي، وبعد مجزرة مجدل شمس.
تزامنت هذه التقديرات السياسية، أيضاً، مع خديعة بايدن لوقف الحرب التي أقرّت في مجلس الأمن من جهة، وترافقت مع إعطاء الفرصة للعدو من جهة ثانية للقيام بعمليات كبيرة كمثل اغتيال قادة حماس في غزة، لكن نتنياهو استخدم هذه الفرصة لارتكاب الاغتيالات بهدف جرّ الولايات المتحدة إلى المعركة مع إيران و”حزب الله”. لقد أرسلت الولايات المتحدة المزيد من البوارج والسفن الحربية إلى المتوسط والبحر الأحمر مؤكّدة موقفها بحماية إسرائيل من الضربات التي قد تأتي من قوى “المحور”، وهو ما ترك أثره المباشر على تأخير الردّ. يضاف إلى ما تقدّم أن السياسات الإيرانية الأساسية، المتّبعة منذ فترة، تقوم على التفاهمات ربطاً بمصالح إيران الثابتة، وعلى دعم القوى الحليفة من جهة والتفاوض مع الأميركي من جهة أخرى.
هكذا تظهر الإستراتيجية الأميركية – الأطلسية، المنطلقة من العمل لاستعادة “هيبة إسرائيل وقوتها الردعية”، والحفاظ على وظيفتها عبر دعمها تكنولوجياً وتسليحياً وسياسياً، ومساعدتها في تحقيق الانتصار، عبر النجاح في توجيه الضربات وحمايتها من ضربات المقاومة وبمشاركة دول التطبيع العربي المنخرطة في المعركة لتظهر ضربات إيران وجبهات الإسناد العربية في لبنان واليمن والعراق وكأنها فاشلة وعاجزة عن مواجهة “إسرائيل” وعن إعادة تثبيت معادلة “توازن الردع”.
هكذا تبدو الآن المعركة طويلة وأقسى ممَّا سبقها.. ومن المتوقع أن يصبح الشرق الأوسط أكثر تسليحاً وعنفاً. لقد حشدت واشنطن المزيد من قواها، بحجّة أن “لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها”. إن المعركة الآن، رغم توسّعها، لا تزال مضبوطة تحت سقف الحرب الشاملة التي لا يمكن ضمان عدم الدخول فيها إن تدحرجت الضربات.
*****
في هذه الظروف، نستعيد ذكرى انطلاقة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، ففي السادس عشر من أيلول/ سبتمبر من العام 1982، وبعد أن اجتاح جيش العدو الصهيوني أجزاء واسعة من لبنان، وصولاً إلى احتلال العاصمة بيروت، وارتكاب المجازر الوحشية بحق المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين في مخيمي صبرا وشاتيلا، وبعد المواجهات البطولية التي خاضتها مجموعات من الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية مع الغزاة في عدة مناطق ومحاور، من أقصى الجنوب إلى مشارف ومداخل العاصمة، صدر البيان التاريخي الذي أعلنه الأمين العام الأسبق للحزب الشيوعي اللبناني الشهيد جورج حاوي، وأمين عام منظمة العمل الشيوعي الراحل محسن إبراهيم، معلناً ولادة “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية” وداعياً إلى حمل السلاح “تنظيماً للمقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال، وتحريراً لأرض لبنان من رجسه على امتداد هذه الأرض من أقصى الوطن إلى أقصاه”.
كان البيان ردّاً ثورياً على مروّجي طروحات الهزيمة والاستسلام، كما كان دعوة لأن “تنتظم صفوف الوطنيين اللبنانيين كافة، وبغضّ النظر عن انتماءاتهم السابقة وعن الاختلافات الإيديولوجية والطائفية والطبقية، في جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي، كسراً للقيد الذي تحاول أن تفرضه اليوم أميركا وإسرائيل على عنق شعبنا الحرّ، ورفعاً لراية التحرّر الحقيقي لشعبنا العظيم”.
تلت البيان سلسلة من العمليات العسكرية ضد الاحتلال بدءاً بالعملية الأولى قرب “صيدلية بسترس”، ومروراً بمجموعة من العمليات الشجاعة ضد جنود العدو ومواقعه وآلياته في شوارع العاصمة، وأحيائها ممّا أجبره على الانسحاب منها، مطلقاً العنان لمكبّرات الصوت التي تنادي “يا أهالي بيروت لا تطلقوا النار نحن منسحبون”. انسحب جيش العدو الصهيوني مرغماً من العاصمة، بعد إثني عشر يوماً على احتلالها، بعد أن أسقطت “جمول” عنه صفة “الجيش الذي لا يُقهر”.
واستمرت عمليات جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية تلاحق العدو في مراكز تجمّعه الثابتة والمتنقّلة من الحواجز إلى الدوريات الراجلة والمؤلّلة إلى القوافل، كما طاولت العملاء في مختلف المناطق المحتلة، في مقاومة عابرة للطوائف والمناطق وبمشاركة أطراف متعدّدة يسارية وقومية ودينية، وترافقت مع انتفاضات شعبية ومعارك مواجهة، ممّا اضطرّه للانسحاب مرغماً من الجبل والشوف وصيدا والبقاع الغربي ومناطق واسعة من الجنوب، خلال أقلّ من ثلاث سنوات، مندحراً إلى منطقة جزين والشريط الحدودي ومحاولاً التحصّن فيهما. حيث بلغت مساحة الأرض المحرّرة، منذ 16 أيلول/ سبتمبر 1982 وحتى نيسان/ أبريل 1985، حوالي 2600 كلم مربّع من المساحة التي احتلها العدو والبالغة 3450 كلم مربّع.
ولا بد من الإشارة إلى أن تطوّر عمل المقاومة أدّى إلى تغييرات في ميزان القوى، من أبرز نتائجها انسحاب القوات المتعدّدة الجنسية وأساطيلها، وإسقاط اتفاق 17 أيار/ مايو 1983، الذي عقدته السلطة المتخاذلة مع العدو الصهيوني، قبل المصادقة عليه.
لم يكن طريق المقاومة مفروشاً بالورود، بل أنه ترافق مع التضحيات الكبيرة من الشهداء والجرحى والمعتقلين والتهجير القسري والتشريد والتدمير والمضايقات، لكن التجارب المستمرة تؤكّد على الاحتضان الشعبي والمساندة والاندفاع والانخراط المتزايد تحت لواء النضال والكفاح الثوري.
ورغم أن عمل جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية شهد تراجعاً نتيجة ضغوط وعراقيل مختلفة، ونشوء ظروف موضوعية وذاتية، وتحوّلات دولية، حالت دون توفّر الإمكانيات العملية، إضافة إلى عوامل محلية وإقليمية، إلاّ أن مسيرة العمل المقاوم استمرت مع “المقاومة الإسلامية” بشكل أساسي، وصولاً إلى إجبار جيش الاحتلال على الانسحاب شبه الكامل من الأراضي اللبنانية في الخامس والعشرين من أيار/ مايو 2000 دون قيد أو شرط، في إنجاز غير مسبوق في مسار الصراع العربي – الصهيوني، مع بقاء الاحتلال في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا.
ولا بد، في هذا المجال، من الإشارة إلى أنه بعد التحرير، تصدّى أبطال جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، إلى جانب المقاومين الآخرين للعدوان الصهيوني على لبنان عام 2006 رغم الإمكانيات التسليحية المحدودة وقدّموا العديد من الشهداء في الجنوب والبقاع.
وفي ظل الوضع الحالي، أطلقت اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي اللبناني نداءً إلى اللبنانيين والشيوعيين واليساريين والوطنيين، لفتت فيه إلى أنهم “أمام عدوان أميركي ـــ أطلسي، على منطقتنا ولبنان جزء منها”، مؤكدةً أن “مقاومته، واجب وطني وقومي واجتماعي وإنساني، وأن كسر عدوانه، مهمة مقدّسة لا تحتمل التأجيل والمساءلة” وشدّد الحزب على أنه سيبقى يحمل “اليوم وكل يوم، راية جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، جبهة للتحرّر الوطني والاجتماعي، جبهة عابرة للطوائف والمناطق، دفاعاً عن لبنان ولكل لبنان، جبهة حاضرة في كل قضايا شعبنا الوطنية والسياسية والاقتصادية ـــ الاجتماعية”، داعياً إلى “الانخراط في صفوفها، شباباً وشابات، رجالاً ونساء، مقاومةً للعدوان وللاحتلال الصهيوني متى تعرّض لبنان له”. ويعمل الحزب بما لديه من إمكانيات وما يسعى لتوفيره من مستلزمات لتنفيذ موجبات النداء.
ولا شكّ أن المقاومة الوطنية لم تنطلق من نقطة الصفر؛ فقد استلهمت من تجارب الحركات التحررية في العالم، ومن الحركات الشعبية التي قاومت الاحتلالين الفرنسي والإنكليزي في المشرق العربي قبل الاستقلال، وتصدّت للعصابات الصهيونية، قبل ومنذ قيام “الكيان الإسرائيلي” على أرض فلسطين، كما أن جذورها تعود إلى المواجهات المسلحة ضد الاعتداءات الصهيونية المتكرّرة على القرى الحدودية في الجنوب اللبناني، وإلى المعارك المشتركة التي خاضتها القوى الوطنية دفاعاً عن الثورة الفلسطينية، ومن أجل حق شعب فلسطين في العودة إلى أرضه؛ ومروراً بإنشاء “الحرس الشعبي” للدفاع عن القرى الحدودية ضد الاعتداءات الإسرائيلية، و”قوات الأنصار” بمشاركة الأحزاب الشيوعية العربية.. لكن “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية” مثلت تطوراً ثورياً نوعياً من حيث تركيبتها وقواها الطبقية ومضمونها ونهجها، حيث شكّلت نموذجاً يحتذى به في النضال الوطني الثوري التحرري، في لبنان، وعلى امتداد العالم العربي، لكافة القوى التقدمية والوطنية والديمقراطية.
ومن المهم الإشارة إلى أن الحزب الشيوعي اللبناني يؤكّد على ضرورة الترابط بين التحرير والتغيير الوطني الديمقراطي في لبنان، من حيث أنّهما قضية واحدة للتحرّر الوطني والاجتماعي، أي أنها عملية لتحرير الأرض من الاحتلال، مثلما هي عملية لتحرير الإنسان من الاستغلال الطبقي. وبالتالي فإنّ رؤيته للمقاومة، تتمايز عن سواها. إن حركات المقاومة الأخرى، بما فيها التي تنطلق من خلفيات إيديولوجية دينية، تفصل عملية التحرير عن عملية التغيير السياسي، وتقع في تناقض بين الانخراط في مواجهة مع المشروع الأميركي ذي الطابع الإمبريالي، وبين تبنّي الرأسمالية التبعية، فيما يرى الحزب أن المواجهة هي مع الإمبريالية والرأسمالية التبعية والنظام الطائفي مع ما يستتبع ذلك من تباين في المقاربات حول القضايا الاقتصادية والاجتماعية والأحوال الشخصية والحريات وحقوق المرأة والتعليم الرسمي ونظم الحماية الاجتماعية والحركة النقابية والمسائل الثقافية. إنّ فرص حماية منجزات التحرير تبقى هشّة، ما لم يتمّ إحداث تغيير قاعدي على مستوى البنية السياسية، أي على مستوى الدولة والنظام.. لكن التباين في المنطلقات الفكرية والمشروع السياسي ومفهوم المقاومة، لا يمنع من التقاطع حول مقاومة الاحتلال الصهيوني، وحول الموقف من الكيان العنصري المغتصب لفلسطين والذي يشكّل موقعاً متقدماً للإمبريالية في سعيها للسيطرة على المنطقة بمشاركة أدواتها.
فالمعركة هي معركة وطنية ومصيرية تطال لبنان وشعبه. إن وطنية المعركة تفرض الانطلاق من مشروع وطني، فإضافة إلى مقاومة العدو، ينبغي تحميل السلطة السياسية مسؤولية الواقع المتردي الذي نعيشه والذي يؤشر إلى مخاطر وجودية للبنان، فلا يجوز تغطيتها والسكوت عنها بحجة الانهيار فهي من تسببت به وعليها دفع الثمن في وجوب تغييرها. وتغييرها يمر عبر إعطاء المعركة طابعها الوطني والشعبي لوقف العدوان على الجنوب وعلى الشعب الفلسطيني وإقامة دولة علمانية ديمقراطية مقاومة قادرة على تسليح جيشها وتعبئة شعبها بكل قواه وتوفير كل مستلزمات الدفاع عن لبنان تسليحاً وتدريباً.
لقد أفقدت السلطة السياسية لبنان من كل مقوّمات المقاومة والصمود بنهبها للمال العام، ولأموال صغار المودعين، وبتعطيل العدالة وعدم محاكمة أي مسؤول عن الجرائم المرتكبة، وتسبّبها بالانهيار الشامل على كافة المستويات، فمؤسسات الدولة يهيمن عليها الفراغ والشعب اللبناني يعيش حالة العوز والهجرة والبطالة والتجويع وسوء الخدمات الصحية والتربوية مع انهيار الرواتب والأجور وارتفاع أسعار المواد الغذائية، وبعض الأطراف السياسية اللبنانية لديها حالياً رهان على حرب غزة والجنوب لتغيير موازين القوى في الداخل، حيث يستمر الخطاب الطائفي، وترويج مشاريع الفدرلة والتقسيم.
ونشير إلى أن السلطة السياسية في لبنان، الممثلة لكل قوى النظام، تخلّت للعدو الصهيوني، عن جزء كبير من الثروة النفطية والغازية، عبر تخليها عن الخط 29، بما أدّى إلى خسارة 1420 كلم مربّع من حدود لبنان البحرية، وعبر قبول وساطة المبعوث الأميركي – الإسرائيلي عاموس هوكشتاين المنحازة كلّياً للعدو، فيما سمّي بالترسيم البحري، وما يستتبعه من تطبيع اقتصادي.
ومن خلال التهديدات المبطّنة والإغراءات المالية والاقتصادية، المنقولة عبر “الوسيط”، يتم السعي لتوسيع القرار 1701 لإقامة منطقة عازلة على الحدود مع فلسطين المحتلة، لحماية أمن العدو ومستوطناته الشمالية وفرض خارطة ترسيم للحدود البرية شبيهة بتلك التي رسمت بموجبها الحدود البحرية، علماً أن حدود لبنان مع فلسطين المحتلة هي الحدود البرية المعترف بها دولياً منذ العام 1926، والتي كرّسها “اتفاق الهدنة” في 23 آذار/ مارس 1949.
*****
هذه المسائل وغيرها تدفعنا للقول إن مسألة المقاومة ليست للتاريخ، بل إنها قضية الحاضر والمستقبل.. إنها تتعلق بمواجهة المشروع الإمبريالي الأميركي – الصهيوني في إطار مقاومة عربية شاملة يلعب فيها اليسار دوراً واضحاً ومميزاً ومتقاطعاً مع قوى المقاومة الأخرى. ومفهوم المقاومة الشاملة يشير إلى أنها تشمل كل الساحات في منطقتنا العربية، وبالأشكال الممكنة والمناسبة، ذلك أن الحرب العدوانية الصهيونية المدعومة أميركياً، والمنضوية في إطار المشاريع الإمبريالية، تستهدف كل المنطقة. والمقاومة الشاملة تعني المواجهة بمشروع وطني تحرري مقاوم يتضمّن كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويجمع بين التحرّر من الإمبريالية ومرتكزها الصهيوني وبين التغيير الديمقراطي والسياسي داخل البلدان العربية.
تنشر بالتزامن مع مجلة تقدّم الكويتية