بين الجد واللعب

حكومة مثل الأهل المبذرين لا حلّ معها إلا الحجر القانوني عبر الشارع

منذ تشكيل الحكومة الأولى بعد الانتخابات النيابية دأب رئيسها وأعضاؤها على القول أن الإصلاحات الاقتصادية والمالية ستكون "مؤلمة" وطبعاً لم يفصح أي من المسؤولين لمن سيكون الألم في هذه الإصلاحات، إلى أن دقّت الساعة وبدأت تتسرّب إلى الأعلام معالم مشروع الموازنة، ليتكشّف أن ما يسمى بالإصلاحات المعتزمة ما هي إلا مجموعة من قوانين تشليح وتشبيح وخوّة على ذوي الدخل المحدود في القطاع العام من متقاعدين وموظفين ومعلمين.

لم يتسرّب إلى الأعلام أي خبر ولو صغير أن الحكومة ستفرض ضرائب على الأرباح الخيالية التي تحققها المصارف من سندات الخزينة والفوائد العالية التي تتقاضاها مثلاً، ولا عن توقيف عمل مؤسسات قطاع عام غير موجودة أصلاً منذ أكثر من نصف قرن (سكك الحديد مثلاً)، ولا عن فرض ضرائب على الطائرات الخاصة التي يمتلكها المسؤولون، ولا عن تخفيض سفر المسؤولين، ولا عن فتح ملفّات موظفين في القطاع العام أقاموا أعراساً لأبنائهم في بيروت والخارج بملايين الدولارات، وعن وعن وعن...

حكومة الهدر والفساد عندنا مثل والدين مبذرين من ذوي الدخل المحدود لديهم خمسة أولاد، الأب يلعب القمار ويتعاطى المخدرات والأم تصرف معظم مصروف البيت في صالات التجميل والحلاقة، وبطبيعة الحال لم يكن دخل الأب والأم ليكفي العائلة مع هكذا إدارة مالية للبيت، فاضطرا للاستدانة بفائدة عالية في البداية من أجل تسيير شؤونهم الحياتية اليومية. تراكم الدين وتراكمت فوائده وبات لا بد من من تدابير مالية مختلفة، فقرّر الأبوان تخفيف وجبات الأكل من ثلاث إلى واحدة وعدم إرسال ثلاثة من أولادهم إلى المدرسة، فيما أرسلا الآخرين إلى شارع "سيدر" للشحادة من دون أن يكلّف الأبوان خاطرهما بوقف القمار والمخدرات وصالات التجميل، ونعم الأهل ونعم الحكومة. ماذا فعل الاولاد؟ أقاموا الحجر القانوني على أهلهم، إما شعبنا... إلى الشارع در.

الصراع في شمال إفريقيا رغم تداخل عوامله هو صراع شعب ضد العسكر

خلال أقل من شهر أسقطت التظاهرات الشعبية الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة والرئيس السوداني عمر البشير، للوهلة الاولى يبدو وكأن سيناريو ما حصل في مصر قبل أربعة اعوام يتكرر اليوم في كل من الجزائر والسودان. إذ في الاولى وقف العسكر في وجه بوتفليقة و"استقالوه" وتركوا الخطوات الدستورية تسري بصورة سلسة بانتظار أن يتّفقوا على مرشّح لخوض الانتخابات بعد بضعة أشهر. وفي الثانية انقض العسكر على البشير واعتقلوه وجرّبوا أن يفرضوا بديلاً عسكريّاً ينهي الثورة الشعبية فلم ينجحوا.

وفي الحالتين، لم تكن أيدي السعودية بعيدة عن خطوات العسكر عبر المخابرات المصرية التي تشكّل نموذجاً يُحتذى به، لا سيّما مع الاستفتاء الجاري على التعديلات الدستورية في مصر التي تضمن للجنرال عبد الفتاح السياسي عشر سنوات إضافية على الاقل في الرئاسة، ولكن ثوار الجزائر والسودان لم يبلعوا انقضاض العسكر على ثورتهم حتى الآن، وصمدوا في وجه التهديد والترغيب، ولا زالوا صامدين في اعتصاماتهم في شوارع الخرطوم والجزائر، متكاتفين متضامنين موحّدين بشعارات واضحة، كل السلطة للمدنيين... والعدل أساس الملك.

إن تمكّن ثوّار السودان والجزائر من الانتصار، فإن العسكر لن يخرج خاوي الوفاض في شمال إفريقيا، لأن عسكر ليبيا يتقدّم ولو ببطء في طرابلس لإنهاء حكومة الوفاق المعترف بها من الأمم المتحدة ووضع اليد على ليبيا موحدة بدعم واضح من مصر والسعودية والإمارات وفرنسا وروسيا. من الواضح أن أوضاع ليبيا لم تنضج لثورة شعبية بعد.

مفجوعو كنيسة نوتردام ممالقين للغرب لن يحترمهم الغرب يوماً

فجع العالم المسيحي كما عالم الفن والثقافة والآثار خلال النصف الأوّل من شهر نيسان بحريق كنيسة نوتردام الباريسية التي تبلغ من العمر أكثر من 1200 سنة، وبطبيعة الحال فإن خسارة معلم تاريخي كهذا تثير الألم والأسى ولكن المبالغة في التعبير إلى حد التملق تثير الاشمئزاز والقرف.

من يقرأ صفحات وسائل التواصل الاجتماعي يتحول لديه شعور الألم على الكنيسة إلى شعور يصل إلى حد الشماتة، فليس بين هذا النوع من المتعاطفين مع الكنيسة مكان لأصحاب الانتماء الفعلي للثقافة والفنون، إذ وصل الأمر مثلاً بالنائب نديم الجميل أن يطلق حملة تبرعات لإعادة بناء الكنيسة، في بلد تحاول الحكومة فيه أن تقتطع رواتب المتقاعدين لسد القليل من العجز في ميزانيتها.

خلال أقل من أربع وعشرين ساعة جمع أكثر من مليار يورو لإعادة إعمار كنيسة نوتردام وهو مبلغ يفوق بكثير كلفة إعادة إعمارها، بينما كل المعالم الأثرية التاريخية للعراق وسوريا في نينوى وتدمر وحلب والتي عمرها يفوق عمر كنيسة نوتردام بمئات أو آلاف السنين لم تحظَ بجملة تضامن على صفحات التواصل الاجتماعي. شعبٌ بلا هوية يمالق الغرب لن يحترمه الغرب يوما ولو كان كوازيمودو (أحدب نوتردام) حيّاً لبكى لحالنا.

لتعليقاتكم على البريد الالكتروني: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

  • العدد رقم: 356
`


ماهر أبي نادر