كليّة الطب في الجامعة اللبنانية: بين بطولات طلابها ومحاولات تدميرها

في أواخر شباط تمّ الكشف عن أول حالة كورونا في لبنان، وتعاملت الدولة بأجهزتها المختلفة مع الموضوع باستهتارٍ كبير ممّا خلق حالة من الهلع لدى اللبنانيين. وفي ظلّ المعمعة الكبيرة انتظم طلاب كلية الطب في الجامعة اللبنانية وبعض من طلاب الطب في الجامعات الخاصة لمواجهة الوباء. هلّل الجميع لهؤلاء الفدائيين الذين قرّروا أن يتحمّلوا وحدهم وبإمكانيات متواضعة جدّاً مسؤولية المعالجة وإنقاذ الوضع، فكلّ بلدٍ يحتاج لهذه الجيوش المضحية في كل المجالات. إلّا أنّ الواقع في لبنان كان مختلفاً فالدولة تجهد في إبادة جيوشها وتجهد في إضعاف كلّ مؤسسة عامّة مثل الجامعة اللبنانية المنتجة للكفاءات العلمية والوطنية، التي تصمد وتقاتل وتبادر في الأزمات.

الصدمة كانت وكما العادة في الجامعة اللبنانية من قرارات رئيس الجامعة فهو وعلى عادته في اللحظات المصيرية يأتي قراره بضرب كل ما هو جيّد فيصدر تعييناته المشبوهة ويسقطها على أنجح كليات الجامعة اللبنانية.

وفي سياقٍ متّصل نعرض ما كتبه مجموعة من طلاب وأطباء كلية العلوم الطبية في الجامعة اللبنانية: نحن طلّاب الجامعة اللبنانيّة  في كليّة العلوم الطبيّة، طلّاب جامعة التعليم العادل، ارتأينا أن نتّخذ منها خياراً وسبيلاً لتحصيل زادنا المعرفي والعلمي، ولم نؤمّن يوماً دونها جامعةً للوطن. نحن طلاب حق، آمنا بقوة وحدتنا، لا نستجدي الحق، وإنّما نقف عنده ونقاتل لأجله. بالأمس فقط كنّا جنوداً نحاول الانتظام لمحاربة الوباء العالمي "كورونا"، آخذين على عاتقنا المسؤولية الإنسانية والوطنية التي تفرضها علينا أخلاقيات هذه المهنة، أمّا اليوم، ها هي كليّتنا، كليّة العلوم الطبيّة في الجامعة اللبنانيّة، توضع، كما هو الحال في الجامعة ككلّ، بين سندان الشّلل الذي يصيب جسمها الاداري وبين مطرقة التعيين السياسي الذي يبدو أنّه لم ينل القسط الكافي من لظى الغضب الشعبي وارتفاع منسوب عدم الرضى عن النزعات الاستئثارية لدى أحزاب السلطة، فقد أصدر رئيس الجامعة اللبنانيّة الدكتور فؤاد ايوب بتاريخ ٢٥ شباط ٢٠٢٠ قراراً يحمل الرقم ٤٥٢، يستند فيه إلى قرار مجلس الجامعة المحلول من قبله -٣٦/١٨٢٥- والذي يمنحه تفويضاً للبتّ في "الحالات الخاصة" المرفوعة من الكليات، يقضي بتعيين رؤساء أقسام أكاديمية جدد في كلية العلوم الطبيّة.

إنّ قرار التعيين هذا، فضلاّ عمّا يحمله من طابعٍ فرماني وما يعكسه من حالة التفرّد التي آلت إليها مجريات اتّخاذ القرار الإداري في الجامعة اللبنانيّة، في ظلّ اعتماد الرئيس فؤاد أيوب صلاحيات حصريّة موسّعة لنفسه واستفادته من وقوع عميد كليّة العلوم الطبيّة الدكتور بطرس يارد تحت رحمته لكونه عميداً بالتكليف لا عميداً بالأصالة. هذا القرار، لم يستند بأي شكلّ من الأشكال إلى معايير أكاديمية واضحة تحدّد الأساتذة الذين يحق لهم رئاسة الأقسام، بل أتى خلافاً لذلك، ليؤكّد على أنّ القرار السياسي في الجامعة ما زال يرجّح الكفة العليا.

ولا يخفى على الضليعين في الأوساط الطبيّة أنّ هذه المواقع تفترض وجود الأساتذة من أصحاب الكفاءات الأكاديمية العالية، والمؤهّلات الموضوعية، التي تشتمل، مثالاً لا حصراً، عدد الأوراق العلميّة المنشورة في رصيد كلٍّ منهم واتّصالاتهم بمراكز التخصّص العالمية؛ هنا نسأل هل يُعقل أن يكون القرار ٤٥٢ قد راعى هذه الخواص وقد أفضى عن تعيين اثني عشر أستاذاً من مستشفى واحد وحزب واحد؟ كما عن تحييد عددٍ كبير من الأساتذة المرموقين في المجتمعات العلمية والذين آثر جزءٌ كبيرٌ منهم تقديم استقالته؟

عليه، إنّ القرار ٤٥٢، بما يحمله من موجبات قانونية مزعومة، هو في الصلب محاولة التفاف على القانون لتمرير مشروع تفريغ سياسي جديد لكليّة العلوم الطبيّة، وهو إذ يستند إلى مطالعات ممسوخة من الدوائر القانونية في الجامعة، فهذا يعني بالضرورة أنّه ليس سوى استكمالاً للمسارات الملتوية التي أمعنت في نهش جسد الجامعة اللبنانية تحت غطاء القوانين "غب الطلب"، وهو مرفوض جملةً وتفصيلاً.

إنّ التطاول على الجامعة اللبنانية بشكل عام  وكليّة العلوم الطبيّة لن يمرّ، فهذه الكليّة  لطالما كانت صرحاً أكاديميّاً يرتقي إلى المستويات العالمية. وعلى حدّ قول طلابها "لن نسمح أن تحيلها التدخلات السياسية إلى فضاءٍ من المحسوبيات والتنفيعات"، وهو ما عملت عليه الأطراف السياسية منذ وقت طويل عبر خطّة ممنهجة لضرب الجامعة الوطنية وجعلها ساحة تنفيعات، محاولةً فرض تبعيّة الطلاب لها وترجمة سياساتها الاستغلالية  في الجامعة اللبنانية، وصولاً إلى شرذمة الجسم الطلابي وإلغاء دور الطلاب الفاعل، محولةً الطلاب من  ضاغط ومحرك أساسي في العملية السياسية والنقابية الذي أدّى سابقاً إلى تأسيس الجامعة اللبنانية نفسها، إلى مجرد أرقام تابعة لمواقفها التي تضرب حقوق الطلاب انفسهم بعرض الحائط... لكنّ أتت انتفاضة 17 تشرين الأول / أكتوبر التي كان للطلاب دورٌ بارزٌ فيها، حيث شارك  آلاف الطلاب الجامعيين، إضافة إلى المهنيين والثانويين في الانتفاضة وكانوا من محركّيها الأساسيين.

هكذا تكافئ السلطة المناضلين في وطننا، وهكذا تكافئ من يجتهد ويدرس ويحمل علمه رسالة إنسانية يرتقي بها عند المحن ليحوّلها خلاصاً للمعذّبين! ولكنّنا بمثل هؤلاء المناضلين سننتصر، بمن يؤمنون بالجامعة الحاملة للثقافة الوطنية، والمنتجة لها، كما المنتجة للمعارف والعلوم في إطار البحوث، والمنتجة لمفهوم المواطنة النابعة أصلاً من نبذ الطائفية وإيجاد وعي طبقي لوجود الطلاب وحركتهم، لا سيّما وأنهم يمثلون الشريحة التي تقع على عاتقها المسؤولية الأكبر ومستقبل الوطن والمجتمع.