في الذكرى الـ 150 لميلادها روزا لوكسمبورغ .. النسر المحلق

كانت روزا لوكسمبورغ، المولودة في مدينة زاموسك البولندية الصغيرة يوم 5 آذار 1871، واحدة من أبرز ممثلي الفكر الماركسي والنشاط الاشتراكي الديمقراطي في أوروبا. وسوية مع كارل ليبنخت كانت المعبرة الأهم عن المواقف الأممية المناهضة للنزعة العسكرية في الحزب الاشتراكي الديمقراطي في ألمانيا. وكانت ناقدة لا ترحم للرأسمالية، ومن هذا النقد استمدت نفوذها في العمل الثوري. ورحبت، مفعمة بالأمل، بالثورة الروسية، غير أنها كديمقراطية ثورية كانت على مسافة منها واتسم موقفها بالاحتراس والمرونة.

وكانت لوكسمبورغ قد واجهت، منذ مطلع شبابها، التهديد باعتقالها بسبب نشاطها الثوري، حيث التحقت في صباها بمنظمة "البروليتاريا"، وهي واحدة من أولى منظمات الماركسيين البولنديين، مما اضطرها الى الهرب الى سويسرا عبر ألمانيا. وفي جامعة زيوريخ درست العلوم الطبيعية، ثم القانون والاقتصاد. وفي عام 1897 حصلت على الدكتوراه في وقت ندر فيه دخول النساء الى الجامعات، وكانت رسالتها حول (تطور بولندا الصناعي). وكانت هذه المرأة، التي تتقن أربع لغات، موضع اعجاب باعتبارها الوحيدة بين أبناء الملاكين وأصحاب المصانع والموظفين التي تمتعت بتلك المكانة.

كراسة "جانيوس"

وفي زيوريخ، وفي عام 1890، التقت روزا لوكسمبورغ بالثوري البولندي ليو جوغيشيز، الذي أصبح رفيقها وحبيبها خلال السنوات السبع عشرة التالية، وظل صديقاً حميماً حتى آخر حياتها. وكان جوغيشيز، الذي التحق بالحركة الاشتراكية في فيلنا عام 1885، ستراتيجياً ومنظماً بارزاً في الحركات الثورية البولندية والروسية والألمانية لاحقاً. وعمل، على نحو وثيق، مع لوكسمبورغ، في الكثير من الجبهات، من تقديم التعليقات البناءة على مسودات مقالاتها، حتى نشر أفكارهما عبر عمل تنظيمي لا يكل خلف الكواليس في العمل الثوري السري. وكما لاحظ فيلكس تايش، وهو أحد أهم الباحثين في لوكسمبورغ، فانه جرى التقليل من أهمية إسهامات جوغيشيز لأسباب بينها أنه لم ينشر سوى القليل باسمه الصريح. (1) غير أنه كان، هو الآخر، شخصية أصيلة. وقد لاحظت كلارا زيتكين، النسوية الاشتراكية البارزة والصديقة الحميمة لروزا لوكسمبورغ، أن جوغيشيز "كان واحداً من تلك الشخصيات الذكورية التي كان بوسعها التسامح مع شخصية نسائية عظيمة". (2) وتكشف العلاقة المتقدة والعاصفة بين لوكسمبورغ وجوغيشيز، خلال وبعد فترة صلاتهما الحميمة، الكثير عن لوكسمبورغ كامرأة ومفكرة وثورية. ومن بالغ الدلالة أنها اشارت ذات مرة قائلة "إنني متمسكة بفكرة أن شخصية المرأة لا تظهر نفسها عندما يبدأ الحب، وإنما عندما ينتهي". (3) 

وفي عام 1893 شاركت في تأسيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي في مملكة بولندا، الذي أعاد تسمية نفسه في عام 1900 الى الحزب الاشتراكي الديمقراطي في مملكة بولندا وليتوانيا. وفي آب 1893، وكانت في عمر الثانية والعشرين، جسدت أول ظهور بارز لها في الحركة العمالية الأممية. ففي المؤتمر الثالث للأممية الثانية في زيوريخ ، حيث التقت فردريك انجلز، رفيق ماركس، وجيورجي بليخانوف، مؤسس الماركسية الروسية، صارعت، في خطاب جريء، من أجل تفويض لنفسها ولحزبها الفتي، وهو ما لم يحظ بالقبول في حينه. وفي ذلك المؤتمر جادلت ضد تقرير المصير القومي لبولندا، مؤكدة، بدلاً من ذلك، على الأممية البروليتارية "الصارمة"، وهو موقف وضعها في معارضة مباشرة لأبرز الشخصيات الاشتراكية لعصرها، وكذلك لكتابات ماركس حول بولندا. 

وفي عام 1898 أقامت روزا لوكسمبورغ ثانية في ألمانيا. ومنذئذ كافحت من أجل الاشتراكية الديمقراطية الألمانية في مؤتمرات الحزب والمؤتمرات الأممية وفي مقالاتها وكتبها. وفي مؤتمر الأممية الاشتراكية عام 1900 بررت الحاجة الى أفعال أممية ضد الامبريالية والنزعة العسكرية والسياسات الكولونيالية. 

وفي الفترة من 1904 حتى 1914 مثلت الحزب الاشتراكي الديمقراطي في مملكة بولندا وليتوانيا في المكتب الاشتراكي الأممي. ومنذ نهاية كانون الأول 1905 حتى آذار 1906 شاركت في الثورة في الجزء البولندي المحتل من جانب روسيا، واعتقلت، وأطلق سراحها بكفالة في حزيران 1906. وبينما كانت في برلين استخلصت دروساً للطبقة العاملة الألمانية من تجارب الثورة الروسية 1905 ـ 1907، ودافعت عن الاضراب السياسي الجماهيري كوسيلة للكفاح الثوري، وحققت لنفسها المكانة القيادية في الاتجاه اليساري في الحركة الاشتراكية الديمقراطية الألمانية.

وفي عام 1907 أعدت مع لينين ومارتوف برنامجا للحركة العمالية العالمية مناهضاً للحرب.

وفي شباط 1914 حكم عليها بالسجن بسبب خطاباتها المناهضة للحرب. وفي عام 1915 وتحت الاسم المستعار "جانيوس" كتبت كراسة ضد الحرب التي اندلعت عام 1914، اشتهرت باسم "كراسة جانيوس".

الراية الحمراء

وفي نهاية 1915 أسست، مع كارل ليبنخت وخصوم آخرين للحرب في الحركة الاشتراكية الديمقراطية، عصبة "الأممية" التي انبثقت عنها عصبة سبارتاكوس عام 1916.

وخلال الفترة من تموز 1916 وتشرين الثاني 1918 كانت روزا لوكسمبورغ معتقلة في برلين ورونكه وبريسلاو. وفي عام 1917 دعمت، في مقالات من السجن، ثورتي شباط وأكتوبر في روسيا، ولكنها حذرت، في الوقت نفسه، من دكتاتورية للبلاشفة. ولم ينشر مقالها حول الثورة الروسية، الذي تضمن هذا التحذير، إلا عام 1922، وفيه جاء إنه "بدون انتخابات عامة، وصحافة حرة، وحرية تجمع، وصراع حر للأفكار، تصبح الحياة في أية مؤسسة زائفة بل وميتة ..."

وعندما أخرجت من السجن في التاسع من تشرين الثاني 1918 انغمرت، بكل طاقاتها، في ثورة نوفمبر. وأصدرت، سوية مع كارل ليبنخت، صحيفة "الراية الحمراء"، وكافحت في سبيل انتفاضة اجتماعية شاملة. وكانت في أواخر 1918 وأوائل 1919 من مؤسسي الحزب الشيوعي في ألمانيا. 

شهيدة الثورة  

وروزا لوكسمبورغ شهيدة الثورة الألمانية. فقد جرى اغتيالها، مع كارل ليبنخت، يوم 15  كانون الثاني 1919 على يد قتلة ينتمون الى تلك الدوائر التي دعمت، في وقت لاحق، تسليم السلطة الى هتلر، وامعاناً في الوحشية ألقوا بجسدها في قناة لاندفيهركانال، ولم يعثر عليها الا بعد أربعة أشهر.

وخلال العقود الأربعة الأخيرة تجدد الاهتمام بروزا لوكسمبورغ، سوية مع ظهور قضايا قديمة وجديدة مثيرة للجدل. ويمكن القول إن سيرة حياتها التي كتبها جي. بي. نيتل وصدرت في بريطانيا بجزءين عام 1966 كانت أول كتاب شامل عن حياتها منذ عام 1940. ومنذئذ ظهرت مجموعات من مقالاتها وكراساتها وخطاباتها في عدد من البلدان. وظلت نظرياتها تدرس من جانب الماركسيين وغير الماركسيين على حد سواء.

وخلال فترة حياتها، وعلى الرغم من كونها معروفة في اطار الحركة الاشتراكية في العالم، فانها لم تحصد الشهرة التي تمتع بها الكثيرون من معاصريها. فقد فاقها في هذا الاطار منظرون من أمثال أوغست بيبل وكارل كاوتسكي وإدوارد بيرنشتاين في ألمانيا، وجان جاوريس في فرنسا، وجيورجي بليخانوف في روسيا. غير أن هذه الأسماء معروفة اليوم من جانب الباحثين بشكل رئيسي، بينما يجتذب اسم لوكسمبورغ اهتماما أوسع نطاقاً. فقد أصبحت لوكسمبورغ بالنسبة لكثيرين رمزاً لحلم لم يتحقق بعد.

وكان هناك أيضاً سبب سياسي لابتعادها عن دائرة الضوء منذ سنوات الثلاثينات. ففي عام 1931 اتهمها ستالين بتحويل مفهوم ماركس حول الثورة الى "كاريكاتور". وكان هذا الحكم مساوياً لاقصاء لوكسمبورغ من معيار الآيديولوجيا الماركسية في الشرق والغرب. غير أن رحيل ستالين وإعادة تقييم مفهوم لوكسمبورغ للاشتراكية أعادا أعمالها ثانية الى دائرة الاهتمام العام.

ولكن الى جانب الثورية الشهيرة هناك لوكسمبورغ أخرى غير معروفة الى حد كبير. وقد كرست سيرة الحياة التي كتبتها إلزبيتيا إتنغر في كتابها (حياة روزا لوكسمبورغ)، الصادر بالانجليزية عام 1987، الكثير لاضاءة هذا الجانب من شخصية لوكسمبورغ. فما أن نعرف أحلامها وصراعاتها، سرعان ما تصبح معاصرتنا، امرأة تثق بأن السعادة الشخصية يمكن بلوغها دون الاضطرار الى التضحية بالحياة العامة، امرأة كان كفاحها من أجل الحياة الشخصية والحياة العامة كفاحاً شاقاً وعنيداً ومثمراً.

ومن نواحٍ كثيرة كانت لوكسمبورغ ممثلة لجيلها، وفي نواحٍ أخرى كانت استثنائية. فلم تكن رغبتها الجارفة في أن يكون لديها طفل ورجل تحبه وعائلة، وفي الوقت نفسه رغبتها في أن تكون قائدة في الحركة الاشتراكية الأممية، شيئاً مألوفاً. فقد كانت للرجال زوجات يعتنين بهم وبالأطفال والأسرة ومساعدتهم في عملهم. وغالباً ما كانت النساء يضحين بحياتهن الشخصية من أجل هذه القضية. لكن هذا لم يكن شأن لوكسمبورغ. فلم تكن تؤمن بأن على النساء أن يقمن، بالضرورة، بمثل هذه الخيارات. كانت تثق بأن بوسعهن وعليهن القيام بالمهمتين.

لقد حدد مفهوم لوكسمبورغ للحياة "الجديرة بأن تعاش" مصيرها. فالحب والعمل، اللذان لا ينفصمان، يخلقان الحياة الحقيقية. وكانت في السابعة والأربعين، وهي في السجن، تعاني من المرض، عندما كتبت تقول إنه "بالنسبة الي أيضاً يظل الحب دائماً أكثر أهمية وقدسية من الشخص الذي يحفزه. لأن الحب يحول العالم الذي يحيط بنا الى حكاية بهية متألقة، ويطلق فينا الأسمى والأجمل، ويدع المرء يعيش بجذل ونشوة".

مفكرة ألمعية وجريئة

كان همها الكفاح من أجل العدالة الاجتماعية. وكان الاضطهاد يحفز ذلك الكفاح، وقد واصلته في أفضل تقليد لأسلافها، مؤكدة، على الدوام، استقلاليتها الفكرية، ومعبرة عن الاحترام للمطامح الروحية، ومتسائلة عن السلطة الأخلاقية.

لقد عاشت وأحبت وحققت الكثير من السعادة وواجهت الكثير من التعاسة، لكنها كانت، على الدوام، مفعمة بالحيوية. كانت تمزقها المشاعر المتناقضة الناجمة عن واقعها المعاش وطبيعتها ومعتقداتها الهادفة الى تغيير هذه الواقع. كان عقلها يحلق بعيداً عن الراهن بينما كانت حاجاتها وميولها أسيرة تقاليد ذلك الراهن. كانت امرأة ذات مشاعر متقدة عارمة، وهو ما أسهم في جعل حياتها الشخصية والعامة حياة شاقة. غير أنها لم تفقد الأمل أبداً، إذ واصلت كفاحها، حتى عندما كانت تشعر بأنها وحيدة، مصممة على أن تعيش بطريقتها الخاصة وتحقق أفكارها وأحلامها.

إن صورة روزا لوكسمبورغ ، الثورية الجريئة، التي عاشت وضحت بحياتها من أجل "القضية"، ليست فقط صورة أحادية الجانب، وإنما مشوهة أيضاً. فالمرأة التي تظهر من خلال الرسائل التي كتبتها عائلتها في وارشو، وكتبتها هي الى من أحبتهم، هي إنسانة من لحم ودم، لديها نقاط قوة ونقاط ضعف، ومآثر وكوابيس. وكانت هذه المرأة الألمعية والشجاعة، تعاني من الشكوك والقلق وخيبات الأمل الحتمية في حياة امرأة تجاوزت زمنها.

من المؤكد أن العصر الذي عاشت وعملت فيه روزا لوكسمبورغ بعيد عن عصرنا، لا تاريخياً حسب، وإنما مفاهيمياً أيضاً. فقد رحلت قبل أن ترى تحول الثورة الروسية الى مجتمع استبدادي، ناهيكم عن انهياره. ولم تعش لترى الثورات المناهضة للامبريالية في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. وماتت قبل نشر طائفة من كتابات ماركس التي مكنت أجيالاً لاحقة من الفهم الأعمق لأفق وبصيرة تفكيره. وكان اكتشاف (مخطوطات 1844 الاقتصادية والفلسفية) و(الغروندريسه) وكتابات عقده الأخير حول المجتمعات المتطورة تكنولوجياً، اكتشافاً مرتبطاً بالمستقبل. غير أنه على الرغم من المحدوديات التاريخية والمفاهيمية للزمن الذي عاشت فيه، طورت لوكسمبورغ مفهوماً عن الثورة والحرية مقنعاً بالنسبة لنا اليوم، على الرغم من ظروفنا المختلفة جذرياً.

ويقدم التزامها الحالم بالديمقراطية الاشتراكية والتحرر الانساني، ومعارضتها الشديدة للبيروقراطية والمركزية المفرطة والنخبوية، يقدم تحدياً دائماً لأولئك الذين يضيّقون الكفاح ضد الرأسمالية ويحيلونه الى إصلاحات تدريجية أو مساومات غير مبدئية مع الاتجاهات الرجعية. وعبر عملها عن الحاجة الى شكل أعمق من الديمقراطية، الديمقراطية الاشتراكية القائمة على أساس النظرة الانسانية والمتحررة من النزعة الاستبدادية والزعم بأن أية محاولة لتجاوز الآفاق الضيقة للديمقراطية الرأسمالية ستنتهي، بالضرورة، الى فوضى أو استبداد.

وفضلاً عن ذلك فان نقدها للحرب الامبريالية ما تزال أصداؤه تتردد، كما هو حال اندماجها العميق مع أولئك الذي يعانون أعظم معاناة في ظل هيمنة الرأسمالية المعولمة، من النساء العاملات، حتى أولئك الخاضعين لبربرية الحكم الكولونيالي.

دافعت روزا لوكسمبورغ بلا مساومة وبصوت عالٍ عن قناعاتها. وبدفء إنساني ومزاج متقد كانت قادرة على كسب جميع من تعاملوا معها دون تعصبات. غير أنها واجهت الاذلال والحقد من أولئك الذين كانوا يحسدونها. ولم يفقد كفاحها المتفاني ضد الحرب، والراديكالية التي أصرت بها على الآصرة بين الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية، أي شيء من قوتهما اليوم، حيث نحن بأمس الحاجة الى إعادة قراءة روزا لوكسمبورغ واستيعاب فكرها العميق وسجل حياتها الساطع. وهذا هو ما سعينا إليه مساهمة متواضعة في إعادة القراءة والتقييم لمثال روزا لوكسمبورغ الملهم وأصدرنا كتابنا الموسوم (النسر المحلق) عام 2010، في أعقاب نشر مقالات عدة في الذكرى التسعين لاغتيالها. 

ولعله من بليغ الدلالة أن نتذكر تقييم لينين لهذه المنظّرة الماركسية والثورية اللامعة إذ قال: "لقد أخطأت روزا ... لكن على الرغم من كل أخطائها، فقد كانت - وستظل بالنسبة لنا - نسراً محلّقاً. ولن يحفظ الشيوعيون حيثما كانوا ذكراها حسب، بل إن سيرة حياتها ومؤلفاتها الكاملة ستكون، أيضاً، دليلاً لتدريب أجيال من الشيوعيين في كل أنحاء العالم".

هوامش:

  1. أنظر مقدمة تايش للوكسمبورغ عن جوغيشيز فرنكفورت، 1971، في (مختارات روزا لوكسمبورغ)، تحرير بيتر هوديس وكيفن أندرسون مونثلي ريفيو برس، 2004، ص 9 (وهو بالانجليزية شأن المصدرين التاليين)
  2. مقتبس من بول فروليش (روزا لوكسمبورغ: حياتها وعملها) ، نيويورك، مونثلي ريفيو برس، 1972
  3. رسالة الى ماتيلدا جاكوب في 9 نيسان 1915، (رسائل روزا لوكسمبورغ)، ويستفيو برس، 1978، ص 163

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"طريق الشعب" – 4 آذار 2021