الهجرة لم تعد خياراً


لو بقي بسام حجّار على قيد الحياة حتى اليوم، لكان ندم على عنوان إختاره يوماً لأحد كتبه "الوقت لا ينقضي"، لكنه قضى. مرّ عام ٢٠٢٠ بسرعة، والكلُّ ينتظر انتهاءه، لرغبة بريئة بإنهاء كلّ ما حدث هذا العام. لكن هذا العام نتيجة لسابقاته، ومحفّز لسنوات مقبلة. عاصفة هبّت فجأة على شعبٍ إعتاد صيفٍ طويل. لكن لا عواصف مفاجئة، وكُثر حذّروا منها.

عاش المجتمع اللبناني حلم "الطبقة الوسطى" منذ تسعينيات القرن الماضي، بات الكلّ بمقدوره تملُّك منزلٍ وسيارة وأحدث حاسوب وخلوي، بقرض من البنك، وبفائدة متدنية. للطبقة الوسطى رنّةْ خاصة، ترفٌ ولّدَ سكرةً عند مجتمعٍ خارج للتوِّ من حربٍ أهلية طويلة. إستفاد الناس من بعض الترف الذي قُدِّم لهم، في وقت استنزفت القلة ثروة البلاد، وخبّأتها في حساباتها في بنوك في الخارج. قُضي على الثروة وشحّ المال وانتهى الحلم، واستفقنا، وبوقاحةٍ لافتة حُمِّلَ فيها سلوكيات الناس الاستهلاكية مسؤولية الانهيار.

يُعرّف لسان العرب الوطن بأنه "المَنزل الذي يُقيمُ الفرد به، وهو محلّ الإنسان وموطنه، وجَمْعُ وطن أوطان، ويُقال أوطان الغنم والبقر أي الأماكن التي تأوي إليها، ويُقال وَطَنَ بالمكان، أي أقام فيه، وأوطن فلان أرض كذا وكذا أي اتّخذَ منها مسكناً ومقاماً". فيما تقدّم تعريفات الوطن الأخرى، واجبات المواطن اتّجاه بلده منها الولاء، العمل، احترام النظام العام، دفع الضرائب... لكن أيضاً "الوطن هو ألا يحدثَ كلّ ذلك"، ألا يتوسّل إلينا ذوينا أن نرحل، وأن نجد أيَّ بلدٍ يُرّحب بنا. تتفكّك الروابط العائلية، وهو ليس بالأمر السيء، بل ضروري وحتمي، إذ أن العلاقات البشرية، بحسب الكسندرا كولونتاي، غير ثابتة، بل أنه "ليس ثمة من عادات أو مؤسسات سياسية أو أعراف وقيم أخلاقية تبقى جامدة ولا تتغيّر، والحال أن الأسرة تغيّرت بتغيّر أطوار حياة البشر". نحن مُشكّلون إجتماعياً، وظروفنا المادية الحالية تُحتّم علينا البحث عن آليات بقائنا، على أمل في أي بقعة من الأرض. يكبّلنا الرابط العاطفي في بقعة جغرافية، يقطنها أهلنا وأصدقاؤنا، وتحمل ذكريات طفولة وشباب بكلّ اضطراباتها، وهذا أقصى ما يجمعنا في الوطن.

فكرة الهجرة مخيفة للكثير من الناس. أن نحمل أمتعتنا ونذهب إلى بلد جديد، لا نعرف سوى لغته أو لا نعرفها، لا نفهم نمط الحياة والسلوكيات والثقافة. غرباء تماماً، في وقت خرجنا من بيئة إجتماعية أكثر من المطلوب. نهاب فكرة العيش بأنفسنا ولأنفسنا، لا وسط عائلة نذوب فيها، حتى باتت حركاتنا محسوبة على العائلة والعكس. إعتدنا الذوبان في مجموعات، ولسنا قادرين على مواجهة العالم، فهذا ينطوي على قوة وجرأة، أو يأس غمر المجتمع. نطمح للرحيل غريزيّاً، لنبقى ونستمرّ، لا لنكبر ونجمع المال.

الهجرة آخر حلمٍ لنا، في ما الهجرة الحقيقية سهلة لمن امتلك ثمنها، أو شهادات عليا. الأكثرية الفقيرة ستبقى هنا، وإمّا تلجأ للهجرة غير الشرعية، غير المضمونة. إنطلقت رحلات الأمل – الموت من بحر طرابلس. المدينة التي تُعَدُّ الأكثر فقراً بين مدن البحر الأبيض المتوسط، إذ أنه يعيش أكثر من نصف سكانها تحت خط الفقر. في تلك اللحظات التي يقرّر فيها أب أن يبيع كلَّ ما يملك، يحمل أطفاله ممسكاً يد زوجته، متوجّهين إلى قارب للسحر بهم إلى المجهول. أن يغدو المجهول آخر أملٍ، وآخر نفس قبل الغرق، يظهر مدى عبثية ما نعيشه. بين واقعٍ مدمَّرٍ ومستقبل ضبابي، تجلس عائلة وسط مياه لا ترحم. عادوا جثثاً، ومنهم من بقي يتنفّس، لكنه خسر كلّ شيء، من أجل آخر فرصة لواقع يؤمّن له أبسط مقوّمات الحياة البشرية.

فقدنا كلّ شيءٍ هنا، وترف الهجرة غير متوفّر للجميع، والناس حكماً... لا عودة إلى الشارع إلا بعد أعوام. سنبقى ندور وندور في مكاننا، نراقب حركة صعود وهبوط سعر الصرف، نواكب موجات عنفٍ بين الفينة والأخرى، نترقّب حرباً محتملة، وفيروساً لم نفهمه حتى الآن ألزَمَنا منازلنا، وجلَّ ما خرجنا منه أن هناك رجلاً في الصين تناول وطواطاً.

يوم 4 آب، إنفجر المرفأ، قتل حينها 190 شخصاً وأصيب 6000 آخرين، ولا يزال عدد من الجرحى في المستشفيات، دٌمّر نصف المدينة، وحتى الآن لم تُظهر التحقيقات أيّاً من المذنبين. كُثرٌ انتفضوا بهدف الرحيل، وهي ردّة فعل طبيعية، لحظة إكتشاف أننا نعيش فوق قنبلة موقوتة. في تقرير لوكالة "رويترز" أشار نقيب الأطباء شرف أبو شرف الى أنه 400 طبيب غادروا البلاد، ممّا سيولّد مشكلة خاصة بالنسبة للمستشفيات الجامعية، في وقت تعيش البلاد أزمة صحية جرّاء إنتشار فيروس كورونا وعدم توفّر أسرّة للحالات الخطرة، إضافة إلى الدمار الذي أصاب عدداً من المستشفيات جرّاء الإنفجار.

الرحيل حقٌّ، تسلبنا إيّاه "حدودٌ"... اعتادت ذُلَّ الناس، يومَ تُحدّد معايير وشروط الدخول... قبل الدخول، وتفتّش من تشكّ بأنه "إرهابي"، ومن يحمل جواز سفر لا يناسب الرجل الأبيض. تلك الحدود التي قسّمتها الأنظمة لتبني سلطاتها ونفوذها، تمنع دخول المهاجرين، في وقت لم يعد يوجد اليوم عرق صافي، فجميع الدول بشكلها الحالي هي نتيجة إحتلالات وحروب وموجات هجرة.

في أقسى درجات اليأس، نستذكر ما قاله ناظم حكمت "ولتحيا على الأرض/ كما لو كان العالم بيت أبيك/ ثِقْ في الحُبِّ وفي الأرض وفي البحر/ ولتمنح ثقتك قبل الأشياء الأخرى للإنسان".