الشعوب تنتفض ضدّ أنظمة الإفقار والفساد والنهب الإمبريالي

يشهد العالم اليوم انتفاضات شعبية عارمة في العديد من البلدان، وبخاصة في أميركا اللاتينية ومنطقتنا العربية. فالبلدان التي ارتبط تكوين اقتصاداتها بعامل السيطرة الخارجية، والتبعية لمراكز الرأسمال العالمي، هي الأكثر إيلاماً وتأثراً بالأزمة الرأسمالية، التي تعمل مواقعها الأقوى، لتصديرها إلى المدى العالمي.

وكما أنّ تطوّر الرأسمالية في المركز، حصل نتيجة الاستغلال الطبقي الشديد داخليّاً، ونهب ثروات الشعوب وعرقها خارجيّاً، تجري اليوم محاولات ترميم أزمتها، بمزيد من الاستغلال ونهب الشعوب. ولا تستثني في ذلك أيّ وسيلة، من العدوان والتدخّل المباشر، إلى الضغوط والعقوبات الاقتصادية والمالية وغيرها... وليست الليبرالية الجديدة، التي تعتمدها الرأسمالية في المرحلة الراهنة، سوى الشكل الذي يتيح استغلالاً واستتباعاً أكبر، للبلدان الضعيفة التطوّر، وحرمان شعوبها من حقّها في التحرّر الاجتماعي والوطني. وهذا ما أدّى إلى ظاهرة تفجّر الانتفاضات الشعبية في بقاعٍ مختلفة من العالم، وإلى اتّخاذها طابعاً تصادميّاً مع الطبقات السلطوية داخليّاً، والرأسمالية العالمية وقمتها الامبريالية الأميركية، خارجيّاً. ومع الأخذ بالاعتبار ظروف وخصوصيّات كل من هذه البلدان، فإنّ ما يجري في لبنان وبلدان عربية أخرى، يحمل الكثير من الشبه بما يجري في بلدان أميركا اللاتينية.

تشيلي
في تشيلي التي يبلغ عدد سكانها 18 مليون نسمة، كان السبب المباشر لاندلاع الغضبة الشعبية فيها في 8 تشرين الثاني الماضي، زيادة سعر بطاقة المترو. لكن الظروف الاجتماعية ـ الاقتصادية، الصعبة والتفاوت الاجتماعي الناجم عن السياسة الليبرالية الجديدة، والحالة المعيشية بالنسبة للعمال والكادحين والفئات الوسطى، جعلت الاضرابات والاعتصامات في الشوارع تستمر منذ أكثر من شهرين، وبمشاركة أوساط شعبية عديدة منها النساء والشباب وجماهير السكان الأصليين. ورغم اضطرار رئيس تشيلي اليميني سيباستيان بينييرا، إلى تعليق الزيادة المذكورة، ووعده بتدابير اجتماعية، فإن الشباب والشابات يصرّون على بقائهم في حراكهم الاحتجاجي. والشعارات الأساسية المرفوعة هي ضد القمع، وإلغاء تركة الديكتاتور بينوشيه، والدخول في مرحلة جديدة بمنحى حل القضية الاجتماعية ـ الاقتصادية في البلاد.
والمعروف أنّ الانقلاب العسكري الدموي على الرئيس الأسبق سلفادور الليندي، الذي جرى بتخطيط من المخابرات المركزية الأميركية، قد قام من خلال سلطة الدكتاتور بينوشيه عبر فتح الباب لشراء السلاح من الكيان الصهيوني، وتغيير موقف تشيلي من مساند للشعب الفلسطيني، إلى الوقوف مع "إسرائيل"، وبالتالي تشجيع، حكومات أخرى في تلك القارة، للعلاقة مع العدو الصهيوني وتغلغل الشبكات الصهيونية ودورها بالتنسيق مع وكالة الاستخبارات المركزية CIA)). ومع أنّ السلطة اليمينية في تشيلي أقدمت على فرض حالة طوارئ في مواجهة الوثبة الشعبية الكبيرة، فإنّ التظاهرات الشعبية وقطع الطرقات يستمر في الشارع، رافعة المطالب الاجتماعية والديمقراطية ضدّ السلطة.

الإكوادور
تتواصل في الإكوادور انتفاضةٌ شعبيةٌ ضخمة، وتشمل معظم مدن ومناطق البلاد، رفضاً لتدابير السلطة برفع سعر البنزين إلى 130%، وإنقاص أيام الفرصة السنوية للعاملين، وغيرها من تدابير تُسمّى بالإصلاح والتي يمليها صندوق النقد الدولي، ليمنح الإكوادور قرضاً ببضعة مليارات من الدولارات. وبرزت في التظاهرات والتحركات المستمرة، المطالبة بالحقوق الاجتماعية للشعب وطبقاته الكادحة، وضد السياسة الليبرالية الجديدة، شعارات التنديد بالرقابة على وسائل الاتصال والإعلام. ويقوم الشباب بدورٍ محوري في هذا الحراك الكبير، ليس بسبب قلة فرص العمل فقط، بل للمستقبل المظلم الذي تؤدّي إليه هذه السياسية "الإصلاحية".

كولومبيا
وتشهد كولومبيا التي يبلغ عدد سكانها 50 مليون نسمة، حالة اضطراب واحتجاجات شعبية عارمة، تنخرط فيها المراكز النقابية للعمال والمنظمات الاجتماعية، رفضاً للأوضاع الاجتماعية وحالة الإفقار، وللسياسة الليبرالية الجديدة لحكومة الرئيس الكولومبي إيفان دوكي، وخصخصة مؤسسات القطاع العام، وفرض ضرائب على الشعب، تصل قيمتها إلى عشرة مليارات بيسو، تلبية لوصفات صندوق النقد الدولي أيضاً، ومُمالأةً لواشنطن سياسيّاً في التآمر ضدّ فنزويلا الجارة لكولومبيا. ويتصاعد السخط الشعبي للنهج السلطوي الذي يخدم مصالح الأوليغارشية المحلية، المالية والتجارية والصناعية وكبار ملّاكي الأراضي (اللاتيفونديّون).
ومع تصاعد حركة الاحتجاجات الشعبية وشمولها معظم مناطق كولومبيا، تلجأ السلطة إلى المناورة وكسب الوقت، بذريعة النقاش الواسع من لجنة إلى أخرى، مستخدمة التضليل من جهة، والقمع من جهة أخرى. ورغم سقوط العديد من القتلى والجرحى والمحتجزين من المنتفضين، لم تتراجع القطاعات الشعبية عن مواصلة تظاهراتها وإضرابها ومطالبها، ضدّ "إصلاحات" السلطة، وضد العنف، وتلبيةً لحقوق العمال والفقراء والطبقة الوسطى. والمعروف أنّ السلطة الكولومبية، من الرئيس السابق ألفارو أوريبي، إلى الحالي دوكي، تسير في ركاب مخططات الولايات المتحدة، التي لها في أراضي كولومبيا، ليس أقل من سبع قواعد عسكرية. وعديدون في تلك القارة، يرون أنّ كولومبيا في المنطقة اللاتينية، هي أشبه بـ "إسرائيل" ثانية. وقد تستخدم تصعيد عدائها ضدّ جارتها فنزويلا، وسيلةً لصرف الاهتمام عن الانتفاضة الشعبية ومطالبها.

هندوراس
وتكشف حالة الفقر الشديد في هندوراس (أميركا الوسطى)، النتائج الوخيمة التي تنجم عن السيطرة الأميركية وشركاتها الرأسمالية والمتعدّدة الجنسيات، واستغلالها الوحشي لثمرة عمل الشعوب وثرواتها، ومنعها من التحرر والتقدم. فالانقلاب العسكري الذي جرى عام 2009 ضدّ حكومة الرئيس اليساري مانويل زيلايا، قد جرى تنفيذه بتخطيط المخابرات المركزية الأميركية، وغرضه إقامة دكتاتورية عسكرية قمعية تمعن في الفساد وإفقار الشعب وتجويعه، وإبقاء هندوراس مكاناً لأكبر قاعدة عسكرية أميركية في اميركا الوسطى. ويكتمل الإطباق الأميركي على فقراء هندوراس وأميركا الوسطى، ببناء جدار ضخم على طول الحدود الاميركية مع المكسيك، لمنع الألوف من فقراء المنطقة المذكورة، من التسلل عبر الأراضي المكسيكية إلى اميركا، سعياً للعمل والعيش. وقد ردّ الرئيس المكسيكي على طلب الرئيس ترامب بقمعهم بقوله إنّ "الفقر لا يُعالج بالقمع".

بوليفيا
وللتظاهرات الشعبية التي لم تتوقف في بوليفيا، طابعٌ آخر. فهي ضدّ الانقلاب الذي جرى على الرئيس ايفو موراليس الذي كان ممثلاً للسكان الأصليين ولأكثرية الشعب، وللديمقراطية، ورمزاً للسكان الأصليين في القارة اللاتينية. فقد أتى موراليس إلى الرئاسة بالانتخاب الشعبي عام 2006. وكان قبل ذلك رئيساً لنقابات مزارعي الكوكا، ومؤسّساً للحركة الاشتراكية. وقد وجد أنّ بلده كغيره من بلدان أميركا اللاتينية، هدفاً ومسرحاً لنهب الشركات الرأسمالية المتعدّدة الجنسيات، وأنّ شعبه بين أفقر شعوب القارة، فأقدم على تأميم الموارد الطبيعيية، وبخاصة شركات التعدين المتعددة الجنسيات، مستخدماً الناتج عنها، لتخفيض مستوى الفقر من 38 في المئة إلى 21 في المئة. وقد حققت حكومته مكتسبات وضمانات اجتماعية صحية وتعليمية لجميع السكان. وفي عام 2014، أقرّت صحيفة فايننشال تايمز، أنّ سياسة موراليس ضاعفت حجم الاقتصاد ثلاث مرّات ورفعت الاحتياطي النقدي الأجنبي إلى مستويات قياسية.
ومن ثروات بوليفيا الطبيعية، إضافة إلى القصدير والفضّة ومعادن أخرى مثل الليتيوم الذي تحتوي أرضها على ثلثي الاحتياطي العالمي منه. وهذه المادة ضرورية لصناعة السيارات الكهربائية. ونظراً للتصنيع المعقّد لها أقدمت سلطتها على التعاون مع شركات صينية. وهذا ما ضاعف عداء واشنطن لسلطة موراليس، إضافة إلى سياسته التحرّرية وتعاونه مع فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا... إلخ.

إنّ أقساماً كبيرة من الشعب البوليفي، ومنهم السكان الأصليّون، تتواصل تظاهراتهم الحاشدة، مطالبين بإعادة موراليس، الذي صرّح من عاصمة الأرجنتين مؤخراً، إن من حقه العودة إلى بوليفيا، ومشاركة حركته الاشتراكية في الانتخابات، دون أن يترشّح هو للرئاسة. ويظهر عدم قبول السلطة حتى الآن بعودته، خوفها من حصوله على تأييد الأكثرية الشعبية. ويبقى الصراع مفتوحاً رغم التآمر والقمع الذي تلجأ إليه السلطة الانقلابية.
إنّ الانتفاضات الشعبية المتنامية في أميركا، تجسّد في أهدافها مطامح شعوب تلك القارة، في التحرر الاجتماعي والوطني، وتحمل بمضمونها طابع مواجهة أنظمة التبعية والفساد والإفقار داخليّاً، ومخططات الهيمنة الامبريالية ونهبها ثروات الشعوب خارجيّاً. وهي بأهدافها ودورها الكفاحي، تلتقي مع انتفاضة ومطامح شعبنا اللبناني والفلسطيني والعربي والشعوب الأخرى.