حول السيرورات الثورية في الوطن العربي من خلال الموجة الثورية الثانية (2/2)

2-2- المسار اللبناني/ العراقي: خصوصية المطالب وجذرية الممارسة.
تتمثّل خصوصية المطالب في المسار الثوري بلبنان والعراق من خلال خصوصية المسألة الديمقراطية في البلدين، إذ لا زالت الطائفية والمذهبية سمة للمجتمعين بفعل السياسات الرجعية لأنظمة الحكم وللطبقات الطفيلية المسيطرة والتي تتغذّى من المُعطى الطائفي لمواصلة تنفذها وهيمنتها على المجتمع ومقدّراته.

لقد ظلّت هذه المجتمعات محتكمة إلى مفارقة هي مفارقة نمط الإنتاج الرأسمالي الهجين في بلداننا. فهذا النمط الذي يدّعي التقدّمية مقارنة بالعصر الإقطاعي، لا زال يجرّ وراءه أهم سمات الإقطاع وهي بنيته الفوقية الموغلة في الرجعية والقِدم مثل القبلية والعائلية والأبوية والاعتبارات العرقية والدينية والمذهبية. إن هذه السمة لا زالت تسِمْ مجتمعات الشرق العربي ثنائية المذاهب (السنة/الشيعة)، وقد تحوّلت الورقة الطائفية إلى ورقة في الصراع الطبقي والسياسي المحلي والإقليمي والدولي، فالسعودية "زعيمة" العالم السني وإيران "زعيمة" العالم الشيعي تتدخل هنا وهناك وتتآمر اعتماداً على الورقة الطائفية، لذلك تعتبر لبنان والعراق نموذجين للمجتمعات "المخترقة طائفيا"، فالحكام السنيون في البلدين مسنودون من السعودية، أما الحكام الشيعة فهم مسنودون إيرانياً، فيما تعاني الجماهير الواسعة من أوضاع البؤس على مختلف الصعد بما فيها ضرب النسيج المجتمعي وافتعال الفتن والنزاعات صلبه. ويعتبر نضال القوى الثورية في هذين القطرين متأصلاً منذ الربع الأول من القرن الماضي، ولعبت الأحزاب "الشيوعية" دوراً هاماً وحيوياً في الحركة الوطنية والحركة النقابية والمدنية. وهي اليوم تعتبر لاعباً أساسياً في الحراك الشعبي، ففي لبنان، كان الحزب الشيوعي ذا التاريخ المجيد في النضال الوطني التحرّري ورغم تراجع وزنه منذ التسعينيات، كان في صدارة الاحتجاج الذي انطلق في لبنان قبل أكتوبر 2019 بمدة وكان الحزب في طليعته. ولعب الحزب ومنظماته دوراً نشيطاً لا في التحرك الميداني، بل وأساساً من خلال التأثير الواضح في الانتقال بالمطالب من المستوى الاجتماعي الجزئي إلى المستوى السياسي وتحديداً حول الطبيعة الطبقية للقوى الطائفية المهيمنة على منظومة الحكم، لذلك كانت مطالب الشارع تتمحور لا حول إسقاط الحكومة فحسب، بل إسقاط كامل المنظومة الطائفية الرجعية السائدة خاصة منذ "اتفاق الطائف" سنة 1990 بالسعودية والذي أنهى الحرب الأهلية وصاغ منظومة تقسيم السلطة على أساس ضمان هيمنة مصالح الأوليغارشية الطائفية/العائلية التي لم تكرّس فقط هيمنة الطبقات الطفيلية المحلية بل حوّلت البلاد إلى فضاء للصراع بين القوى الإقليمية. اتّسم المسار الثوري اللبناني باحتلال الفضاءات والساحات العامة واستهداف رموز السيادة سواء قصر الرئاسة أو الحكومة أو البرلمان أو المؤسسة البنكية، إذ هيمن شعار "يسقط حكم المصرف" على مجمل الحراك بعد أن اتخذ البنك المركزي قراراً بعدم صرف الأجور والاكتفاء بمدّ الأجراء فقط بمبالغ صغيرة تحدّدها إدارته ورئيسه الذي وقع استهدافه من الحراك الشعبي أحياناً أكثر من رموز الحكومة. وتمكّن الحراك في لبنان كما في العراق من اختراق النسيج الطائفي، وشاركت فيه جماهير واسعة من كل الطوائف ومن كل المدن والقطاعات. لقد ركّز المنتفضون في القطرين على الربط العضوي بين المنظومة الطبقية/ الطائفية المسيطرة وأوضاع الجماهير، لذلك كان شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" شعاراً محورياً، والنظام ليس فقط النظام السياسي القائم، بل مجمل المنظومة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية السائدة والتي حكمت على هذين البلدين أن يبقيا ضحية للفساد والاستبداد والمنظومات الإقطاعية البالية مثل مجالس العشائر في العراق، ومجالس الطوائف في لبنان. وقد تمكّن الحراكيون من إسقاط حكومتيْ لبنان والعراق، وفي البلدين تتواصل الأزمة السياسية العميقة، فالرجعية المسيطرة لم تستطع تسمية حكومة إلى الآن في العراق، وفي لبنان تمكّن المحتجون من منع البرلمان من الانعقاد بمنع نوابه من الوصول برغم الحضور العسكري والأمني الرهيب، وقد اضطر البرلمان للمصادقة على تمرير الحكومة الجديدة دون نصاب قانوني مما شكّل فضيحة كبرى وعلامة على عمق الأزمة، ولا زالت الاحتجاجات تتواصل رفضاُ للخيارات والإجراءات الاقتصادية والمالية التي أعلنتها الحكومة بتعليمات من صندوق النقد الدولي، ولا زال مطلب الجماهير هو إسقاط المنظومة السياسية الحاكمة و تعيين حكومة من قلب الحراك الشعبي، تتولى المراجعة الجذرية للمنظومة السائدة بما فيها حلّ الأحزاب العائلية/الطائفية وتتجه لانتخابات عامة ديمقراطية تؤسس للمواطنة و لا تحتكم للمنطق القديم، وهو ذات المطلب في العراق التي تلعب فيها القوى اليسارية دوراً نشيطاً وهي التي انحازت للانتفاضة من لحظتها الأولى وانخرطت في مطالبها وتنظيمها. صحيح أن قوى اليسار مشتّتة، وصحيح أن الحزب "الشيوعي" انقلب على ماضيه النضالي حين ساند احتلال العراق سنة 2003 بعد إسقاط نظام صدام حسين من قبل الامبريالية الأميركية، وبل وشارك أمينه العام في مجلس الحكم الذي شكله بريمر إبّان الاحتلال، وشارك في كلّ "المسار السياسي" المنبثق عن الوضع الجديد، وقد فقد هذا الحزب إشعاعه السابق ونفوذه وانشقت عنه عديد التيارات. لكن أغلب هذه التيارات تنخرط في الحراك وتحاول التأثير فيه خاصة من جهة التصدّي للطائفية. لقد خلق الحراك أطر تنظيمه الخاصة مثل الحالة اللبنانية لكنها ما زالت هشة، وتتجه القوى التقدمية في الحالتين للاستفادة من دروس تجربة تونس والسودان، ففي لبنان تم تشكيل "تجمع المهنيين" (تأثرا بالتجربة السودانية) لتجميع القوى النقابية والاجتماعية التي تعاني الضعف والمحدودية والاحتكام للمنطق الطائفي السائد، وفي العراق بعثت ائتلافات وتحالفات قطاعية وجهوية لتقوية الحركة النقابية كي تلعب دوراً بارزاً في الحراك. ولا يزال الحراك الحزبي ضعيفاً رغم أهمية الدور الذي يضطلع به الحزب الشيوعي اللبناني وحلقات اليسار وفصائله خاصة من المثقفين والمبدعين. فيما لا يزال الجانب الذاتي في الحالة العراقية أضعف رغم أهمية الحراك وصموده مما يجعله عرضة للاختراق خاصة من قبل قوى متنفذة محلية وإقليمية تريد توظيفه في الصراع الدائر مع إيران من خلال استهداف أعوانها حكام العراق اليوم.
إنّ المسار الثوري في لبنان والعراق ورغم غياب قيادة سياسية عنه خلافاً للنموذج السوداني، فإنه بصدد الاتّساع والتواصل وبصدد تحقيق مكاسب مهمة ليس أقلها تقوية التيار العلماني التقدمي، فشعار الدولة الديمقراطية العلمانية أصبح شعاراً من شعارات الجماهير، والتصدّي الجريء للطائفية ولرموزها التقليدية أصبح مكسباً نوعياً لم يكن متاحاً قبل أشهر من الآن. كما أن الحفاظ على السلمية والجماهيرية يعد في حد ذاته معطىً مهماً في أوضاع ملغومة ومحكومة بفوضى السلاح وبعنف التدخل الإقليمي والدولي (المثال السوري)، والجماهير لم تنسَ لحظة مطالبها في تحرير الأراضي اللبنانية من الاحتلال الصهيوني، وطرد الغزاة الأميركيين وقواعدهم العسكرية من العراق، فضلاً عن رفض التدخل الإقليمي الإيراني والسعودي. إن الأوضاع بالمنطقة دقيقة وحساسة جداً، لذلك فإن مجهوداً عظيماً ما زال ينتظر القوى الثورية حاضراً ومستقبلاً كي تحقق هذه المسارات بعضاً من أهدافها إن لم يكن كلها. إن إنتاج القيادة الثورية من رحم المسار الثوري هي أوكد المهمات اليوم، لذلك على القوى الثورية في المنطقة وفي العالم تحمّل مسؤوليتها اتجاه ما يجري من أجل تصويب الرماية وتحصين المسارات حتى تنتصر.


2-3-المثال الجزائري: نقاط القوة ونقاط الضعف.
انطلق الحراك الشعبي في الجزائر منذ لحظته الأولى سياسياً، إذ خرجت الجماهير رفضاً للعهدة الخامسة التي كان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ينوي الترشّح إليها، وهي طبعاً مضمونة بمقتضى هيمنة النظام على مجمل مفاصل الحياة العامة في الجزائر منذ استقلالها سنة 1963، وكان الحكام إلى حدود نهاية ثمانينيات القرن الماضي من رموز المؤسسة العسكرية، وبدخول البلاد لـ"المسلسل الديمقراطي" بداية التسعينيات، فقد حكم الجزائر مدنيون محكومون بإرادة العسكر ومنهم بوتفليقة الذي استمر في الحكم عقدين متتاليين حتى بلغ أرذل العمر وأصبح مُقعداً. خرجت الجماهير في تحركات جماهيرية على طول الجزائر وعرضها مما خلق "حرجاً" لنظام الحكم حين مارس القمع الذي لم يُثنِ الملايين من الخروج والاحتجاج، ممّا حدا بالجيش عبر قائده الذي هو الحاكم الفعلي للبلاد، إلى اعتبار العسكر مسؤولاً عن أمن المتظاهرين. وقد نجح الحراك الشعبي في فرض انسحاب بوتفليقة لا من الترشح بل أيضاً من إكمال عهدته إذ قدّم استقالته بعد أن رفضت الجماهير "مسرحية" الانسحاب من الرئاسة بعد ستة أشهر من بلوغها بعد إجراء حوار وطني وتعديل للدستور ينص على عهدتين رئاسيتين فقط. إثر انسحاب بوتفليقة في لحظة تاريخية مهيبة، قررت الجماهير مواصلة الحركة من أجل إصلاحات عميقة في منظومة الحكم وفي الخيارات الاقتصادية والاجتماعية، وقد عبّأت التحركات قطاعات واسعة من الشعب الجزائري التي رفعت شعارات ذات مضمون سياسي واجتماعي تقدمي. إن ما يميز الحراك الجزائري هو رفضه لمشاركة الأحزاب منذ اللحظة الأولى، بل وقع طرد وحتى الاعتداء على بعض قادة الأحزاب الذين أرادوا المشاركة في الحراك أو حتى مساندته. كما أن مشاركة القوى المحسوبة على التيار الإسلامي بمختلف فصائله (القريب من السلطة أو المعارض لها) ظلت منعدمة على الأقل في بداية التحركات. لقد اعتمد الحراك الجزائري التنظم الأفقي من خلال القطاعات الأساسية التي لعبت دوراً وهم الطلاب والمحامون (ثم القضاة والأطباء...) والجماهير الشعبية التي انتقلت إلى تنظيم "جمعة التحركات" بعد رحيل بوتفليقة، وهو تحرك أسبوعي يكون يوم الجمعة (يوم العطلة الرسمية بالجزائر) تشارك فيه أعداد ضخمة من الناس بمن فيهم جمهور المساجد الذي ينطلق بعد "صلاة الجمعة"، فيما حافظ الطلاب وبدرجة أقل بقية قطاعات النخبة على "تحركات الثلاثاء" وهي التحركات التي تنطلق من الجامعات ومن المحاكم والساحات النقابية. لقد حافظت التحركات حتى وقت قريب على زخمها رغم تناقص أعداد المشاركين، وعلى وضوح مطالبها والمتمحورة حول رحيل كل منظومة الحكم وتغييرها بالدولة المدنية الديمقراطية، لكن نقطة غموضها بقيت حول قيادتها بما يرجح تحليلنا إلى أن القوى التي تقف وراء الحركة فيها جزء من النظام القائم في إطار صراع الأجنحة، وهو ما يشكل نقطة الضعف الكبرى التي تستفحل بالضعف الكبير للحركة الثورية المنظمة، ففصائل اليسار المختلفة (تروتسكية، اشتراكية ديمقراطية،..) كلها تعاني الضعف والتشتت، بل أن لويزة حنون زعيمة حزب العمال (التروتسكي) قضت قرابة العام سجناً في إطار محاكمة رموز نظام بوتفليقة بتهم الفساد، وأطلق سراحها بتبرئتها مؤخراً بعد الحكم عليها ابتدائياً بـ 15 سنة سجناً.
إنّ الحراك الشعبي الجزائري رغم مشروعية مطالبه وقدرته على تعبئة قطاع واسع من الجماهير، إلاّ أن غياب القيادة ووضوح البرنامج يظل نقطة الضعف التي تستغلها أو يمكن أن تستغلها قوى رجعية لتحويل الحراك عن أهدافه الأصلية التي هي أهداف ديمقراطية تقدمية.


3- السيرورة الثورية العربية، إلى أين؟
إن منطقتنا العربية ليست الأسوأ عالمياً من جهة أوضاع شعوبها وتخلّف أنظمتها السياسية واستفحال مظاهر الاستعمار والتبعية فحسب، بل هي من أكثر مناطق العالم سوءا في ضعف القوى الثورية والشيوعية. ففيما عدا أقطار قليلة توجد بها أحزاب ثورية ماركسية لينينية، مكافحة ومناضلة، فإن أغلب أقطارنا عرفت أساساً الأحزاب "الشيوعية" القديمة التي تفسخ أغلبها واندثر وتحوّل إلى جزء من المنظومة السائدة كما هو الحال في المغرب وتونس، فيما بقي البعض يناضل ويعبّر عن مواقف منحازة للجماهير كما هو الحال في لبنان إذ رغم تراجعه الكبير على كل الأصعدة، بقي الحزب "الشيوعي" يعبر عن مواقف سياسية راديكالية وسليمة في العموم، وهو ذات الأمر تقريباً مع الحزب السوداني الذي رغم أخطائه في الماضي (مساندة انقلاب 1964، مساندة انقلاب 1983...) إلاّ أنه بقي عموما حزباً مكافحاً ومناضلاً ومنحازاً للشعب خاصة منذ وصل الديكتاتور البشير إلى الحكم سنة 1989 إذ لعب الحزب دوراً محورياً في الحفاظ على جذوة النضال والمقاومة ولعب دوراً مشرّفاً في الثورة. لذلك لا غرابة في الأمر إن لعب هذان الحزبان دوراُ محترما ًفي مسار ثورات السودان ولبنان، وهما لا ينكران ذلك بل يمارسانه على الأرض. ومع ذلك يبقى ضعف هذه الأحزاب وضعف الجبهات الثورية وغياب التنظيمات الطبقية الماركسية اللينينية التي تنبذ التردد والارتباك وتسير بالمسار إلى أقصاه وتعبّئ من أجل إنجاحه كل قدراتها السياسية والعملية. إن هذه الثورات هي بارقة أمل في محيط عربي موحش. فكما أعطت ثورة تونس إشارة انطلاق لثورات في أغلب الأقطار العربية المجاورة، فقد أعطت ثورة شعب السودان إشارة انطلاق الموجة الثانية التي كانت أكثر جذرية وأكثر حذراً وأعمق وضوحاً، إنها مسارات ثورية لم تشارك فيها التنظيمات الإخوانية بل هي ضدها وضد منظومات حكمها السائدة في السودان ولبنان والعراق (الأحزاب الدينية الحاكمة)، إنها ثورات ديمقراطية رافضة للدولة الدينية وللطائفية والمذهبية. إنها ثورات تشارك فيها بأقدار مختلفة القوى الثورية واليسارية والتقدمية. إنها ثورات تلعب فيها النساء دوراً نشيطاً وفاعلاً في محيط ثقافي وحضاري لا زالت النساء فيه غالباً خارج المشاركة في الفضاء العام.
ورغم نقاط الاختلاف المذكورة بين الموجتين، يبقى المشترك الكبير بينهما هو ضعف القوة والقيادة الثورية أو حتى غيابها لصالح قوى مدنية غير منظّمة في الغالب ولا يتجاوز أفقها تحقيق إصلاحات عميقة أو إحداث تغيير على شكل السلطة دون الذهاب عميقاً في قلب علاقات الإنتاج الاستغلالية القائمة. وفي خضم الموجتين لا زالت الثورة الفلسطينية تحافظ على ألقها رغم نقاط الضعف الكبيرة التي لا زالت تعانيها.
• عضو اللجنة المركزية لحزب العمال – تونس.

  • العدد رقم: 378
`


علي الجلولي