مدرجات ثائرة على السياسات النيوليبرالية والاستعمار الجديد: مثال الجزائر

ارتبطت نشأة أندية كرة القدم الجزائرية بحركة التحرر الوطني ضد الاستعمار الفرنسي، إذ كانت الأندية تنشر بين أوساط الشباب مبادئ الوطنية وثقافة الكفاح والأفكار الاستقلالية ومحاربة الفكر الاستعماري على الجبهة الرياضية.


تطغى اليوم إيديولوجيا المال على رياضة كرة القدم ليس في بلدنا فحسب بل في العديد من أرجاء العالم، بعدما حوّلت العولمة الرأسمالية الأندية إلى مؤسسات تجارية واحتكرت وسائل الإعلام الكبرى (التي يسيرها أوليغارشيون) حقوق بث مباريات المنافسات والبطولات المشهورة، القارية منها والعالمية، وبعدما تم تحويل اللاعبين إلى سلع تباع وتشترى. إنه قانون السوق الرأسمالي، وفقا لمنطق الغلبة لصاحب الأموال الطائلة. يكتب إدواردو غاليانو في هذا الصدد أن بنية السلطة في كرة القدم اليوم هي بنية ملكية. حتى بلداننا (بلدان الجنوب) صارت تصدر اللاعبين إلى أوروبا الغربية بعدما تخلت السياسات الرسمية عن تكوين اللاعبين وتطوير الرياضة الوطنية وعن سياسة التنمية المرتكزة على الذات. ولكن على صعيد آخر لم تندثر ثقافة المقاومة هذه بل هي لا تزال حية في مدرجات الملاعب، التي تمثّل أساسا منبرا للمطالب الاجتماعية والتنديد بالفساد والسياسات النيوليبرالية وبالأطماع الاستعمارية الجديدة (الفرنسية بالدرجة الأولى) على وطننا وبحكم الحركى الجدد (مسؤولون خونة وعملاء) المتواطئين مع الاستعمار الجديد ومؤسساته . طبعا، لا يستعمل المناصرون في أناشيدهم مصطلح السياسة النيوليبرالية، وإنّما يصفونها بـ"سياسة المافيا" (وهي كذلك على كل حال) فيعبّرون عن وطأتها عليهم من خلال الحديث عن واقع اجتماعي عنيف: تعاطي المخدرات والمهلوسات بسسب البؤس والأفق المهني المسدود وأزمة السكن الخانقة، البطالة المتفشية، الفقر، عنف البوليس ضد أولاد الطبقات الشعبية، إلخ. وشكلت (ولا تزال تشكّل) بعض الأولتراس المحرك الفعلي لحركة احتجاجية شعبية ذات محتوى اجتماعي، اقتصادي وسياسي، في العاصمة الجزائر، حركة انتقلت من الشارع إلى المدرجات بسبب قمع السلطة الحاكمة في الجزائر لأي مظاهرة شعبية أو احتجاج اجتماعي في الشوارع . حدث ذلك قبل سنوات من اندلاع الحراك الوطني الشعبي في الجزائر .
أعلنت مدرجات ملاعب العاصمة الجزائر عن معارضتها لإعلان السلطة الحاكمة السابقة ترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لعهدة خامسة، عندما هتفت جماهير كبيرة في المدرجات (أنصار نصر حسين داي، شباب بلوزداد ومولودية العاصمة) وصرخت: "يا بوتفليقة ما كانش العهدة الخامسة". وحينما خرجت الجماهير الشعبية الجزائرية في 22 فيفري/شباط 2019 في أكبر مظاهرات شعبية منذ الاستقلال، شهدنا حضوراً قوياً لأنصار الفرق العاصمية الذين كانوا يعارضون منذ سنوات سياسات التفقير النيوليبرالية وتخريب/تدمير الاقتصاد الوطني والمؤسسات العمومية وإضعاف قطاع الخدمات الاجتماعية التي انتهجتها السلطة برئاسة بوتفليقة، بدءا من توليه الحكم سنة 1999. أنصار زحفوا على وسط المدينة وتحدوا عنف البوليس واسترجعوا حقهم الدستوري المسلوب في التظاهر، أنصار جاؤوا من أحياء شعبية تملك تاريخيا ثقافة مقاومة ضد الظلم والاستعمار الفرنسي، كأحياء بلديات بلوزداد، باب الواد، القصبة، حسين داي، الحراش.
نشأت مجموعات الأولتراس العاصمية بدءاً من سنة 2007 (نشأة مجموعة فيردي ليوني التابعة لنادي المولودية صاحب أكبر جمهور في الجزائر) وتلتها سنة 2009 مجموعات الداي بويز (نصر حسين داي) والفاناتيك رادس (شباب بلوزداد) والييلو كاسل (اتحاد الحراش) التي أصبحت فيما بعد غرينتا كورفا. ثم تكونت مجموعات أولتراس أخرى تابعة للمولودية وهي الغرين كورسارز (2012) والتوالفث بلاير و(2011) وأحدثها السكوالو فيردي (2019) ومجموعة ثانية تابعة لنصر حسين داي وهي كرايزي كابيطال (2014). نجحت مجموعات الأولتراس العاصمية، منذ تأسيسها، في إنشاء خطاب مضاد ومقاوم للسياسات النيوليبرالية، خطاب حطّم كل سفسطة أحزاب المعارضة الجزائرية الزائفة وكان أنجع من الأحزاب المحلية التي تدّعي تمثيل مصالح العمال والطبقات الشعبية، كحزب العمال أو الحزب الاشتراكي للعمال، وهي أحزاب فشلت فشلاً ذريعاً في تكوين كتلة سياسية معارِضة وفي إنشاء خطاب يستقطب أبناء الطبقات الشعبية.
من جهة أخرى، ساهمت مجموعات الأولتراس العاصمية التي ذكرناها في تنمية الوعي الجماعي للشباب العاصمي بضرورة مقاومة العنف الطبقي التي سلّطته السلطة الحاكمة السابقة برئاسة بوتفليقة على أبناء وبنات الطبقة المتوسطة وعلى العمال والكادحين. وشكّلت أناشيد مجموعات أنصار المولودية وشباب بلوزداد واتحاد الحراش الخطاب الأكثر راديكالية والأكثر حدة في النقد ضد حكم السلطة الفاسدة والبورجوازية الكومبرادورية . وحاولت السلطات مراراً وتكراراً، طوال حكم الرئيس المخلوع بوتفليقة، تضييق الخناق على أعضاء هذه المجموعات، عبر الاعتقالات والمداهمات، لأن هذه المجموعات من المناصرين كوّنت، مع مرور الزمن، كتلة احتجاج شعبية وقوية، ويجب أن نشير إلى أن هذه الأولتراس ليست تابعة لأي حزب سياسي.
تجدر الإشارة إلى أن أحياء بلوزداد والحراش وحسين داي بالعاصمة هي الأحياء التي عانت كثيراً من السياسات النيوليبرالية، من غلق المصانع والمؤسسات العمومية وتسريح العمّال وهي أحياء عمّالية في الأصل ومناطق صناعية.
يذهب المناصر (المنتمي غالبا إلى الطبقة الكادحة والطبقة المتوسطة) إلى الملعب للتعبير وبصوت عالي عن حبه لحيه (حُومْتُو) أو مدينته أو المنطقة التي ينتمي إليها وتمسكه بقيم معينة ونبيلة كالوفاء إلى ألوان وتاريخ ورمزية نادي القلب. مدرجات الملعب هي متنفس ومنبر المناصر الذي يعبر فيها عن رفضه الطبقي على الظلم الاجتماعي وعلى العنف الاقتصادي الطبقي الذي تمارسه ضده المجموعة السياسية الاقتصادية المسيطرة في بلدنا والمتكونة من أوليغارشيين ومن بروجوازيين عملاء، عن غضبه ومعارضته لسلطة الحقرة وسياسات التفقير والتوزيع غير العادل للعائدات الوطنية من المحروقات كما يعبر عن تعطشه للعدالة الاجتماعية والحرية والحق وارتباطه بذاكرة القادة المجاهدين الثوريين . يمثّل النادي بالنسبة للمناصر معلما هوياتياً واجتماعياً، رغم أن المناصر يعلم جيداً أن مستوى كرة القدم متدني في بلدنا، بسبب سوء التسيير والرشوة التي تنخر عظام الرياضة والمجتمع ككل في بلدنا وأنه لن يشاهد مباراة في القمة. المسألة مسألة شغف.