التقارب السعودي الايراني: سيناريوهات متناقضة

في أواخر الشهر الماضي تحدّث ولي العهد السعودي محمد بن سلمان عن إيران بلهجة مختلفة. إذ أكّد أنها دولة جارة والسعودية تطمح لأفضل العلاقات معها. غير أنه طبعاً أشار في الوقت نفسه إلى تصرفات إيران التي تخلق إشكاليات جمّة قاصداً دعمها الحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان إضافة إلى برنامجها النووي والصواريخ الباليستية. في المقابل كانت إيران تبدأ جولاتها النووية مع الرباعية الأوروبية في ظلّ أجواء تفاؤل تزداد مع تقدم المفاوضات. ما سبق الأمرين زيارة غير متوقعة لرئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إلى السعودية مهّدت لانعطافة سعودية بدل التشدّد السابق ضدّ إيران.

 

سلّط موقع مجلة "فورين بوليسي" الضوء على تصريحات ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، الأخيرة بخصوص "إقامة علاقات جيدة مع إيران"، عازيةً ذلك إلى عدة عوامل أهمها تزايد الدلائل على أن الولايات المتحدة جادة في تحويل تركيزها بعيداً عن الشرق الأوسط، وأن الصراع في المنطقة أجبر قوى المنطقة على استكشاف دبلوماسيتها الخاصة، على عكس التوقعات القاتمة لمؤسسة السياسة الخارجية لواشنطن، إذ لم تنفجر الفوضى بسبب الانسحابات العسكرية الوشيكة للولايات المتحدة من المنطقة، بدلاً من ذلك، اندلعت الدبلوماسية الإقليمية. وكانت تعليقات محمد بن سلمان على الأرجح إشارة إلى محادثات سرية بين إيران وجيرانها العرب (دول الخليج)، في العراق، والتي ذكرت لأول مرة في الفاينانشال تايمز، والتي ّكانت تهدف إلى تخفيف التوترات ووضع حد للحرب في اليمن.

 

وتبين فيما بعد أن قصة "الفاينانشيال تايمز" (لقاء سري سعودي - إيراني) ليست الوحيدة. إذ كشف" أمواج ميديا الإخباري، ومقرّه بريطانيا، أن الحوار لم يقتصر على إيران والسعودية. بل عُقد الاجتماع الأول بين إيران والإمارات في يناير، تلته اجتماعات ضمّت مسؤولين سعوديين وأردنيين ومصريين. وعقدت خمسة اجتماعات من هذا النوع على الأقل منذ بداية العام، بحسب "Amwaj.media".

 

بينما ركزت المحادثات السرية بشكل أساسي على الحرب في اليمن، فقد شملت أيضاً الوضع في سوريا ولبنان. واشترك في المحادثات كبار المسؤولين الأمنيين في دول مختلفة، بما في ذلك لقاء بين قائد فيلق القدس الإيراني، إسماعيل قاآني، ورئيس المخابرات السعودية، خالد الحميدان.

 

أما السبب الثاني لهذا التغيّر المفاجئ، هو أن هذا الحوار الإقليمي بدأ من قِبل القوى الإقليمية نفسها. كما تقوده الدول الإقليمية نفسها، أي أنه لم يُفرض عليهم من قبل قوى كبرى من خارج المنطقة فخلال الحملة الرئاسية لعام 2020، تعهد بايدن بسحب "الغالبية العظمى" من القوات الأميركية من أفغانستان، وقطع المساعدات عن السعودية لحربها في اليمن، وإعادة الانضمام إلى الاتفاق النووي الإيراني، وهي قرارات تتناسب تماماً مع أجندة تقليص دور الولايات المتحدة في المنطقة. وفي الواقع، بمجرد وصوله إلى الرئاسة، تحرك بايدن سريعاً لإنهاء الدعم الأميركي للجانب السعودي في الحرب في اليمن، وأبقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بعيداً، وأعلن الانسحاب الكامل للقوات الأميركية من أفغانستان، وبدأ مفاوضات العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، فبحسب المجلة فإن محور بايدن المنشود بعيدا عن الشرق الأوسط يعني أن خيار الولايات المتحدة هذا، على الأقل، أصبح غير موثوق به. لذلك وفجأة، أصبحت الدبلوماسية الإقليمية الخيار لشرك واشنطن في الشرق الأوسط.

 

ربما شكر بن سلمان ربّه لأنه انتظر ولم يلحق بسرعة بقافلة المطبّعين على الرغم من استعداده لذلك غير أنه كان ينتظر ثمناً ما من الولايات المتحدة التي عاجلته بتصريحات بايدن حول مقتل الصحافي السعودي المعارض جمال الخاشقجي. استشعر بن سلمان الاستهداف وأيقن التحوّل الاميركي الذي لا مفرّ منه؛ فكان موقف الخارجية السعودية على لسان وزيرها فيصل بن فرحان عند اتصاله بنظيره الفلسطيني بنبرة الواثق

مستنكراً الممارسات غير الشرعية لسلطة الاحتلال الاسرائيلي وداعياً إلى وقف التصعيد. إلّا أنه منذ شهر لا أكثر حرّض على الإطاحة بحكم عبد الله الثاني في الأردن للحلول مكانه في الإشراف على الأماكن المقدّسة في القدس غير أن هذا الموقف الى جانب المواقف العربية الأخرى وخصوصاً من دول الخليج الخارجة من نشوة اتفاق ابراهام كاريكاتورياً بامتياز إلّا أنه يُشتم منه جنوحاً ما نحو حفظ الرأس والمصالح؛ فالولايات المتحدة ستبتعد جغرافياً إلّا أن إيران لا زالت الجارة التي لن تتزحزح. وهذا يحيلنا إلى السبب الآخر في الاستدارة السعودية. 

 

تاريخ العلاقات بين البلدين

 

 شاب تاريخ العلاقات بين البلدين فترات من التهدئة والتوتر. سبق أن تنازعت الدولتان على النفوذ في العراق ولبنان وفلسطين، وها هما تتنازعان حالياً للاستئثار بالنفوذ في سوريا (وإلى حدِّ أقلّ في اليمن والدول الخليجية الأصغر) وتقفان وراء جانبيْ الانقسام الطائفي الذي يساعد على تأجيج العديد من الصراعات في المنطقة.

منذ الثورة الإيرانية، شكلت الدولتان قطبين متعارضين: "جمهورية" إسلامية محافظة مقابل "مملكة" إسلامية محافظة، تزعم كلٌّ منهما أنها تمثل "الإسلام" تمثيلاً أكثر شرعية. إن الإنقسام الطائفي بين السنة والشيعة، وحتى الأكثر وضوحاً نظراً للموقف الحاقد المناهض للشيعة الذي يُظهره الوهابيون، يؤدّي ببساطة إلى تفاقم هذا الصراع الأيديولوجي العميق. ويُضاف إلى ذلك، التنافس الجيوسياسي الطبيعي، لنجد أنفسنا أمام معطيات تهيئ لعلاقة ثنائية متوترة. كان الصراع المفتوح سمة فترة الثمانينيات من القرن الماضي عندما صنّف الخميني الحكم الملكي بغير الاسلامي في حين ساعدت المملكة في تمويل حرب العراق ضد إيران تواجهت الدولتان لفترة قصيرة عسكرياً، ثم ساهمت وفاة الخميني ونهاية الحرب الإيرانية-العراقية في تهدئة التوتر بين الدولتين. ساهم اجتياح العراق للكويت في توتر العلاقة بين السعوديين وحليفهم الرئيس العراقي صدام حسين، أكّدت التطورات الحاصلة في أسواق النفط العالمية في أواخر التسعينيات للرياض ضرورة أن تكون قادرة على التعاطي بطريقة عملية مع إيران. حتى بعد انتخاب الرئيس محمود أحمدي نجاد، ظهرت مؤشرات حول إمكانية قيام علاقات طبيعية بين الطرفين. استضاف السعوديون أحمدي نجاد في الرياض في أبريل من العام 2007، في الوقت الذي تعاونت فيه الدولتان على تهدئة العلاقات بين حلفائهم في لبنان في أوائل عام  2000.

 

السيناريوهات المتوقعة

 

أصدر "معهد بروكينغز للأبحاث" تقريراً مفصّلا تضمن التوجهات الداخلية في كلا البلدين وتوظيفها في إمكانية التقارب وليس التحالف إذ أنه غير وارد بحسب التقرير. فمن الجانب الايراني ساهم انتخاب الرئيس روحاني المعتدل في زيادة فرص التقارب الايراني السعودي أما على الجانب السعودي لا تزال التوجّهات الداخلية مبهمة كما التغيير الواضح في السياسات تجاه الموضوع السوري، يدل على أن الرياض تشعر بقلق متزايد إزاء العواقب السياسية الداخلية التي قد تنجم عن استمرار الصراع الطائفي الاقليمي. حلّ وزير الداخلية محمد بن نايف الذي قاد حملة واسعة ضد تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية وفي المملكة السعودية نفسها في سنوات العقد الأول من القرن الحالي مسؤولاُ عن الملف السوري بينما عمد سلفه بندر بن سلطان إلى سياسة عدوانية قدّمت الدعم السعودي للمقاتلين السوريين بما في ذلك الجماعات الجهادية السلفية الذين لا ينتمون رسمياً إلى القاعدة. لذلك بحسب التقرير سيطرت الأمير محمد على الملف السوري يشير الى ان الرياض قد تفكّر في تقليص دعمها للمتمردين في سوريا كما أصدرت المملكة مؤخراً قانوناً يفرض عقوبات قاسية على السعوديين الذين يقاتلون في الخارج وأعلنت جماعة الأخوان المسلمين ضمن المنظمات الإرهابية وهي تضغط على قطر لمنعها من تمويلهم ويستنتج كاتب التقرير أنه طالما الرياض تركز على الأعداء من العالم السني ا٦كثر فستكون على استعداد للتقليل من تركيزها على المواجهة مع إيران.  ويشير التقرير في الختام الى العوائق العميقة داخل البلدين والتي تمنع تحقيق الأهداف المرجوة من هذا التقارب حيث أن الحرس الثوري الايراني لديه أجندة تتعلق بتصدير الثورة مختلفة نوعاً ما عن سياسة الرئيس روحاني أما في السعودية فهناك قيادة مُسّنة وسياسات الخلافة التي تعمل ضد هذا العمل السياسي.

 

تستعجل السعودية عقد جولة إضافية من المحادثات مع المسؤولين الإيرانيين، في إطار التوجّه الجديد الذي أظهرته في الآونة الأخيرة، مدفوعة بجملة أسباب لعلّ أبرزها تبنّي إدارة جو بايدن خيار التخفّف من الأحمال الثقيلة عليها في هذه المنطقة. وبحسب معلومات جريدة الاخبار اللبنانية، فإن «العروض» السعودية المُقدّمة خلال محادثات بغداد تشي بتحوّل كبير، يصل إلى حدّ وقف قطار التطبيع مع إسرائيل. لكن مع ذلك، يظلّ الحذر سائداً خصوصاً في طهران، إذ إن تشابك الخلافات وتراكمها يجعلان من الصعوبة بمكان تطبيع العلاقات بهذه البساطة والسرعة، وتضيف الجريدة أن إبن سلمان فكّر فعلاً بالخيار الإسرائيلي، سعياً إلى تبديل الأولويات الأميركية. لذا عمد إلى تشجيع الإمارات والبحرين والمغرب والسودان على تطبيع علاقاتها مع تل أبيب، لكن تبيّن له أن إسرائيل نفسها تبحث عن حماية في ظلّ الوضع الجديد، وتسعى لدى الأميركيين، من دون نجاح، للتخلّي عن العودة إلى الاتفاق النووي. هكذا، أصبحت المحادثات مع إيران الخيار الأقلّ كلفة والأكثر جدوى بالنسبة إليه، بل أضحت تلك المحادثات مساراً لتحقيق اختراق يُكسبه الشرعية التي ما برح يبحث عنها. ففي الداخل السعودي، تتآكل شرعية ولي العهد، بدل أن تتعزّز مع الوقت؛ ذلك أن وضع السعودية بات أسوأ ممّا كان عليه قبل تولّيه ولاية العهد، ولا سيما على المستوى الاقتصادي، وفق الأرقام التي سعى إلى تجميلها في مقابلته الأخيرة، التي بدا فيها، أيضاً، أنه أخفق في تسجيل أيّ تقدّم في مجال الحصول على مباركة الأسرة، ليَظهر بصورته الانقلابية، وكأنه ما زال في بداية الرحلة، مُهدّداً المعارضين بصورة غير مباشرة بالقتل

وأفاد موقع "ميدل ايست أي" نقلاً عن مصدر عراقي شهد جولات المفاوضات السرية بين الطرفين الأسبوع الماضي أن إيران طلبت من السعودية أن تعيد تصدير نفطها إلى الأسواق الخارجية كما عرضت أن تبيع السعودية نفطها بأقلّ من الأسعار العالمية مقابل تصديره عالمياً. وينقل الموقع عن المصدر العراقي تقديره أن إيران تريد أن تكون في موقع مريح عند مفاوضة الأوروبيين حول العودة إلى الإتفاق النووي كما التخلص من العقوبات التي فرضها الرئيس الاميركي السابق ترامب عقب انسحابه من الاتفاق النووي عام 2018. أما السعودية فجلّ اهتمامها ومطلبها الأساسي يتعلق بوقف ضربات الحوثيين التي تستهدف مرافق حيوية ومنشآت نفط في العمق السعودي، أما جواب إيران في هذا المجال هو بالرجوع إلى قرار الحوثيين.

 

ستستأنف المباحثات الأسبوع المقبل وستضم ممثلين عن المخابرات والحرس الثوري الايرانيين وخبراء من مؤسسات أمنية ايرانية. اللافت أن السعوديين لم يتحدّثوا في الجولة الأخيرة لا عن العراق ولا سوريا ولا لبنان بينما أعربوا في الجلسات السابقة عن قلق إزاء التراجع السني في قيادة القرار العراقي طالببن من إيران المساعدة في هذا الشأن. باختصار الأجواء توحي بنية مشتركة لحلحلة الكثير من الأمور العالقة وتنقية الأجواء نوعاً ما بين الدولتين الكبار في المنطقة.