فلسطين الجرح النازف

لم تهنأ فلسطين منذ العام 1948 وحتى يومنا هذا، بسبب الإحتلال الإسرائيلي، وهي الدولة الوحيدة في العالم التي ما تزال تعيش تحت الإحتلال، وشعبها مشتت في أصقاع العالم، أو في مخيمات تفتقد الحد الأدنى من الحياة الإنسانية، وما بقي منهم تحت الإحتلال يتعرَّض لأبشع أنواع التنكيل اليومي والإعتقال وتدمير قراه ومدنه، ومع ذلك كانوا يقاومون بالحجر والسكين ومواجهة الرصاص بالصدور العارية، وتجلّى ذلك بالإنتفاضة الثالثة في العام 2015 - 2016، وسُمّيت حينذاك بإنتفاضة السكاكين.

غابت أخبار فلسطين التي كانت الأبرز إعلامياً منذ عقود نتيجة الركود في مسارات التسوية التي تخترقها القرارات الإسرائيلية عبر الإستيطان أحياناً أو عبر عمليات القضم المنظم للأراضي والممتلكات الفلسطينية، ولعل آخرها الإستيلاء على مدينة القدس وإعلانها عاصمة لها في 6 كانون الأول من العام 2017 عندما اعترف الرئيس ترامب رسمياً بالقدس عاصمة لإسرائيل، كما أردف بأنه سيتم نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، للدلالة على تكريس هذا الواقع.

 هذا الإعتراف الذي عجزت إسرائيل عن تحقيقه طوال عقود، بقيت دول العالم خلالها ممتنعة وبشدّة من تحقيق هذا الحلم الأبديّ لدولة الإحتلال لما يحمله من خطورة في تغيير المفهوم التاريخي للمنطقة التي بقيت رغم مراحل الإحتلالات التي تعاقبت على المدينة المقدّسة، إلّا أنها بقيت رمزاً للتعايش بين جميع الأديان، وخارج الموضوع الديني وأهميته العاطفية والقومية العربية والإسلامية والمسيحية واليهودية، هناك العامل الجغرافي الذي سوف يتيح للإحتلال السيطرة على المزيد من الأراضي، وضمّها ضمن قوانين البلديات التي يعمل بها الإحتلال. ليأتي القرار الأميركي تزامناً مع الذكرى المئوية لوعد بلفور المشؤوم عبر تنفيذ ترامب وعده المخزي بإعلان القدس عاصمة لـ"إسرائيل" في ظلّ حروب شرذّمت العالم العربي الغائب أصلاً عن قضيته الأساسية، مُتَلهياً بصراعاته الداخلية، المذهبية تارةً والعرقية تارةً أخرى. هذا القرار وعلى رغم خطورته وإلتباسه، إلّا أنه قد يعيد تفجير الوعي الوطني لدى الشعوب العربية التي أنهكتها الحروب الدينية وأفكارها العقيمة والسوداوية وحوَّلت فلسطين إلى فولكلور للمزايدات بين دول المنطقة الطامحة للتوسّع، تحت شعار فلسطين عبر وسائل الإعلام أو عبر الفتاوى التي تطلق في عملية تزوير واضحة لتاريخ المنطقة وشعوبها. والجماهير التي خرجت رافضة للقرار الأميركي، لم تكن تنادي بعروبة أو فلسطينية القدس، إنما بفلسطينية فلسطين، إنه حلم جديد يخرج من كهوف الحركات الدينية التي كادت أن تطيح بفلسطين كاملة من خارطة الوطن، وجعلت من الطريق إلى فلسطين متشعّبة ومتعدّدة المصالح وضلَّلت الإنسان العربي في خياراته من أجل الاستحواذ على جوهر المعنى لشعار فلسطين وقضيتها النبيلة.

القضية الفلسطينية التي كادت أن تندثر من صفحات الأحداث المهمة كادت أن تتحوّل إلى قصائد من الحنين لأمجاد عبرت في تاريخ الأمة... عادت هذه القضية لتتصدّر قاموس الأولويات وتفتح على خيارات متعدّدة قد تكون هذه الإنتفاضة الرابعة أحد عناوينها. فلسطين هذه السيدة الجميلة، التي يُستباح شرفها وتُنتهك حُرماتها على مرأى من العالم أجمعين. هذه اللوحة التي تتزين أراضيها وحقولها بالبساتين وشجر الزيتون… عادت لترفض من أزقتها، وعبر أطفالها ونسائها وشبابها وشيبيها، كلّ قرارت الإستيلاء والهيمنة. لَغريبٌ هذا الشعب المثابر على قضيته المؤمن بالنصر الموعود.. يبذل الروح والدّمَ، يرسم بسمةً جميلة على فاهِ كلِّ معتقل ومعتقلة، وإشارات النصر من تحت الردمِ شهاداتٌ تزيدنا إصراراً على أن الآتي هو التحرير دون شك، وأن القضية التي هزَّت شعوب العالم، والتي كفرت بزعمائها تنظر بعين الفخر لشعب يرفض الذلّ ويؤمن أن الشهادة من أجل وطنه واجب مقدّس.

اليوم نحن في خضم الإنتفاضة المتميزة عن سابقاتها... لم يلغى الحجر ولم تزرر قمصان الفدائيين، بل رمت الأهداف بصواريخ الكرامة والعزة والإباء، وعادت عيوننا ترحل إليها كل يوم. لكن هل سيأتي اليوم الذي سيرحل فيه عن أعيننا هذا الإحتلال. فلسطين ستبقين أنتِ الحكاية بالأمس واليوم والمستقبل القريب.

 *من أسرة النداء