أفغانستان: من نار الاحتلال إلى نير الاستبداد

شكّلت التطورات الأخيرة في أفغانستان وخاصة إعلان الانسحاب الأميركي منها، ومعها قوات دول حلف شمال الأطلسي السائرة دوماً على خطاها، وما رافقها من هجمات وتفجيرات لاحقت المنسحبين، ومن صور المواطنين الأفغان الهاربين مع المحتلّين، الحدث الأبرز على الساحة الدولية خلال الأسابيع الأخيرة.

ولا شكّ أنّ هذا الحدث سيترك انعكاسات سياسية وأمنية وتغيرات جيوسياسية في طبيعة الاصطفافات والتحالفات القائمة في منطقة آسيا الوسطى، وسيلقي بظلاله على مصير الشعب الأفغاني تحت حكم طالبان، وعلى الدول المحيطة وتحديداً الصين والهند وباكستان وروسيا وايران ودول أخرى في المنطقة.

وقبل الدخول في الانعكاسات المتوقعة، لا بدّ من الاشارة إلى أن هذا الانسحاب يحصل في ظلّ فترة تتميّز بتراجع نسبي للولايات المتحدة الأميركية ودورها في العالم، وانحسار قدرتها أن تلعب وحدها دور شرطي العالم الذي مارسته بشكل أحادي لحوالي العقدين من الزمن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكيّة. وتمظهر ذلك في عهد أوباما بلجوئه إلى عقيدة خوض الحروب بأرواح الآخرين، تحت شعار عدم الزج بالجنود الأميركيين وخسارة القتلى والجرحى المباشرين، واستبدال ذلك بالحروب التي تشنّها جيوش الدول الحليفة والمرتزقة والجماعات الارهابية وغيرها، المسلّحة والممولة من دول وسيطة وتابعة. ثمّ تبعه عهد ترامب الذي مال إلى الاستثمار المكثّف في الحروب الاقتصادية والحصار والعقوبات على الخصوم كما على الأصدقاء لترويضهم، وشهد عهده انكفاءاً عن الحروب المباشرة، ليأتي عهد بايدن الداعي إلى الانسحاب من حروب أفغانستان والعراق التي كلّفت بلاده آلاف القتلى وتريليونات الدولارات، ووضع كل الطاقات باتجاه الشرق الأقصى ومواجهة الصعود الصيني بالدرجة الأولى، وغلّف ذلك بشعارات انتخابية "ربّيحة" في أجواء ناخبي حزبه الديمقراطي حول وقف الحروب الخارجية.

لكنّ الانسحاب من أفغانستان بالشكل الذي تمّ فيه يخفي خلفه حسابات وصفقات أخرى غير تلك التي تعلنها أميركا أو طالبان. فأميركا، التي تكبّدت حوالي 2.3 تريليون دولار وأكثر من 2200 قتيل و 21 ألف جريح من جنودها خلال عشرين عاماً من الاحتلال، دخلت الحرب تحت عنوان القضاء على الإرهاب وهزيمة حركة طالبان، وخرجت من البلاد تحت عنوان تسليم السلطة إلى طالبان بعد مفاوضات سياسية وأمنية استمرت لأعوام برعاية قطريّة، وشارك فيها قادة من المخابرات الأميركية. وأظهرت الأشهر الأخيرة أن طالبان ركّزت هجماتها على الجيش الأفغاني والشرطة ووسّعت نطاق سيطرتها الميدانية تحت أنظار الأميركيين الذين سلّموا عملياً بعدم قدرتهم على إدارة البلاد عبر أدوات كرتونية فشلت رهاناتهم عليها، وسلّموا البلاد إلى طالبان تحت غطاء اتفاقات ضمنيّة حيّدت عنهم المواجهة التي كان من الممكن أن يتكبدّوها خلال الانسحاب.

وفي هذه الحسبة الأميركية رهان على خلق برميل بارود تحت رماد حكم طالبان، حيث تتقي هي شرّها وتسلمها مفاتيح الحكم وتترك لها كميات وافرة من السلاح والعتاد بالاضافة إلى كميات وافرة سيطرت عليها من عتاد الجيش الأفغاني الكرتوني المنهار. في هذا الإطار قدّر أحد مسؤولي مبيعات السلاح في الجيش الأميركي "بيرس مورغان" أن طالبان استحوذت على ما قيمته 85 مليار دولار من السلاح الأميركي ومن ضمنها 75 ألف عربة عسكرية و200 طائرة ومروحية وأكثر من 600 ألف رشاش. إنّ ذلك هو أبعد ما يكون عن الصدفة أو الخطأ. إنّه ثمن لصفقة خرجت فيها قوات الاحتلال الأميركي مقابل "إعطاء الأمان" لطالبان وتثبيت اتفاق طويل معها وجعلها قنبلة موقوتةّ قابلة للانفجار باتجاه خصومها في المنطقة، حيث تترك لهم بؤرة متفجرة ليتحمّلوها هم. وبهذا السياق، ورغم مرارة الهزيمة والانسحاب على الجمهور الأميركي والتداعيات التي يتركها على صورة بايدن كرئيس ضعيف وعلى صورة أميركا كقوّة متراجعة لا تستطيع إحكام سيطرتها وفرض ما تريده في بلد احتلته لعشرين عاماً في ظل مقاومة شعبه لها، إلّا أنّ رهان الادارة والجيش والمخابرات يبقى قائماً على فكرة الانسحاب التكتيكي لتفادي المزيد من الاستنزاف، وترك القنبلة الموقوتة لتنفجر بوجه المحيط الأفغاني، حيث أن إشعال نار الفتن والتوترات والحروب والفوضى عند الخصوم هو أكثر ما يمكن أن يفيد أميركا في ظلّ الوضعية القائمة في منطقة آسيا الوسطى حالياً.

وفي هذا السياق، يمكن الاستنتاج أن جانباً كبيراً ممّا حصل مؤخراً يقع في خانة التسلّم والتسليم بين الاحتلال الأميركي وبين حركة طالبان التي عاشت 20 عاماً تحت سلطة الاحتلال وظلت القوة السياسية والعسكرية الأولى في البلاد دون منازع، وتمّ تسليمها تركة الجيش الأفغاني الأميركية الصنع بحسب الأميركيين أنفسهم. 

لا تواجه الولايات المتّحدة أية معضلة أخلاقية في التعاون مع المجموعات المتطرّفة ومنها طالبان، وهي تستطيع بسهولة أن تستوعب وتتعامل مع رجعيّتها المفرطة وأحقادها الطائفية والاثنية وعدائيتها ضد الحضارة والعلم وممارساتها ضد النساء وقمعها للشعب الافغاني طالما كانت تلك الممارسات لا تتعارض مع المصالح الأميركية، حيث تضمّ لائحة أصدقاء أميركا العديد من الدول التي لديها سجل رجعي وقمعي ومتخلّف تماماً كما طالبان.

هذه هي طالبان نفسها التي دعمها الأميركيون وحلفائهم الأطلسيون والخليجيون بالمال والسلاح والدعاية والمقاتلين خلال الثمانينات من أجل مواجهة الاتحاد السوفياتي وقواته التي كانت متواجدة في البلاد، ولمواجهة حكم حزب الشعب الديمقراطي الذي كان يحكم أفعانستان في حينه، والذي قرّب البلاد إلى المنظومة الاشتراكية وأطلق خطط التنمية ومكافحة الفقر، وحرّر النساء من سطوة القوانين والعادات الاجتماعية التسلطيّة المتوارثة، وعمّم التعليم وأطلق دورات محو الأمية، وأرسل عشرات ألاف الطلاب الأفغان في منح إلى الدول الاشتراكية. وهي طالبان نفسها اليوم التي ينقل الاحتلال لها سلاحه وعتاده كي تمسك السلطة وتحكم سيطرتها على البلاد والعباد.

وفي هذا المناخ، لا يمكن اختزال طالبان كأداة أميركية، بل هي حركة لها امتداد شعبي ومصالح وسياسات تتقاطع ووتعارض مع الأميركي وتتقاطع وتتعارض مع غيره أيضاً. كما لا يمكن اختزال الشعب الأفغاني بحركة طالبان، فهو شعب متنوع توجد فيه عشرات القوى والاتجاهات السياسية ويوجد بينه خط تقدمي وطني له إرث تاريخي، حتى لو تمكن الأميركيون وطالبان معاً من إسكاته وإضعافه وتحييده عن المشهد السياسي. والخط الوطني الأفغاني الذي رفض الاحتلال الأميركي وقاومه هو خط أوسع من طالبان، ذات المصالح السياسية الانتهازية كالعديد من قوى الاسلام السياسي، التي تسعى لاستلام السلطة لتحقيق استبدال سياسي دون تحقيق تغيير فعلي يمسّ ببنية النظم القائمة أو بالسياسات الاقتصادية، لمصلحة الفئات الاجتماعية الأكثر حاجة.

في هذه الأجواء، تكثر الأسئلة والتكهنات حول احتمال قيام الولايات المتحدة بانسحابات مشابهة من بؤر توتر أخرى تتواجد فيها منذ سنوات، ومنها العراق وسوريا وغيرها، ومدى تأثير صورة انفجار المطار والانسحاب المتسرّع سلباً على هذا الاحتمال. كما تبرز مجدداً عودة تنظيم "داعش" إلى واجهة الأحداث بعد انفجار المطار حيث قد يكون إحدى الأوراق التي يريد الأميركيون اليوم استنهاضها من أجل إغراق منطقة آسيا الوسطى كما منطقتنا بجولة جديدة من الصراعات والحروب، للتغطية على عملية انسحابهم من جهة ولضمان إشغال دول المنطقة بها خلال توجه أميركا لتركيز مجهودها الحربي والسياسي في منطقة الشرق الآسيوي.

كذلك، تشكّل هذه التطورات تحديات مختلفة لدول المنطقة. ففي باكستان تشكّل عودة طالبان إلى حكم جارتها تحدياً وجودياً لمدى قدرة الجيش على ضبط الحركات الدينية والانفصالية عنده، حيث ينمو الشعور لدى هذه الحركات أنها قادرة على إلحاق هزيمة بالجيش الباكستاني، فإذا كانت طالبان أطاحت بالجيش الأفعاني، فلماذا لا يستطيعون هم فعل ذلك في باكستان، الدولة النووية الكبيرة. ومع ذلك، يبقى لباكستان دور مستقبلي أكبر من غيرها، حيث نسجت مخابراتها على مدى عقود علاقات واسعة مع مختلف القوى الأفغانية وهي التي تولت مهمة تجهيز وتدريب طالبان خلال الثمانينات، وبالتالي تشكل لها الأزمة سيفاً ذا حدين. الهند خصم لحركة طالبان، وليست لديها مكتسبات من التغيرات الحاصلة، أمّا روسيا والصين، فترتاحان لخروج القوات الأميركية من أفغانستان وستسعيان إلى المزيد من تقليص النفوذ الأميركي في آسيا الوسطى، لكنهما تخشيان من امكانية استعمال الجماعات الجهادية التي تستظلّ بطالبان والتي ستنعم بغطاء سياسي وأمني داخل أفغانستان للتأثير على الداخل الروسي والصيني (الأويغور)، وربما الاستثمار الأمني بهذه الجماعات لافتعال مشكلات أمنية داخل البلدين أو على مسار طرق التجارة التي تمر عبر جمهوريات آسيا الوسطى الواقعة شمال أفغانستان (وأكبرها كازاخستان). لكنّ هذه التغيرات هي ايضاً استحقاق أمام البلدين حول مدى قدرتهما على ادارة الأزمات وعلى التنسيق فيما بينهما ومع مختلف دول المنطقة وحول امكانية استيعاب طالبان بأقلّ الخسائر كقوّة شرعية في افغانستان. والملف الأهم أمام الصين هو الحفاظ على خطوط التجارة البرية وطريق الحرير مع دول آسيا الوسطى وهو ما يتطلب استقراراً أمنياً واجتماعياً في هذه المنطقة. ايران من جهتها تخشى التداخل الديمغرافي في المحافظات الحدودية وعلاقاتها مع طالبان لها أوجه متعدّدة بين التعاون في ملفات والمواجهة في ملفات أخرى، وبالتالي تشكّل عودة طالبان تراجعاً لدورها في افغانستان بعد أن وثقت علاقاتها مع الحكومة السابقة، وتثير لديها خشيةً على الصعيد الأمني الداخلي. أمّا تركيا، فترى نفسها جسر العبور بين دول حلف شمال الأطلسي وطالبان التي حافظت على علاقات مستدامة معها، وتطمح بالتالي لمضاعفة دورها السياسي في آسيا الوسطى من دون أن تكون لديها هواجس أمنية سلبية بسبب بعدها الجغرافي وعلاقتها الوثيقة مع التنظيمات الاسلامية عموماً، لذلك تعتبر من الدول الرابحة في ظلّ هذه المتغيرات.

وفي ظلّ هذه المروحة من الحسابات والمصالح والاحتمالات، يبقى الخاسر الأكبر في الحالتين هو الشعب الأفغاني الذي دفع أثمان صعود القاعدة وطالبان في نهاية الثمانينات وتكاليف الاحتلال الأميركي – الأطلسي منذ مطلع الألفية، ويعود اليوم ليترك للمعاناة تحت حكم طالبان مجدداً. هذا الشعب الذي حقق مكتسبات اجتماعية وسياسية واسعة في ظل نهوض وحكم التيار التقدمي والاشتراكي قبل أربعين عاماً، يجد نفسه أمام المعضلة التي تواجهها شعوب كثيرة تجد نفسها بين نار الاحتلال الأجنبي ونير الاستبداد الداخلي، دون ان تكون لها القدرة (الآن) على رسم مسار مختلف قائم على التقدم والعدالة والتحرر، لكنّ المستقبل سيكون لتقدّم وتحرّر الشعوب، ولو بعد حين.

 

د. عمر الديب

مسؤول العلاقات الخارجية في المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني