صراع الجنرالات يهدد وحدة السودان

يضع البعض للصراع في السودان عنواناً يتلخص في أن بقاء الدولة مرهون بدعم البرهان، أما انتصار حميدتي أو الوصول لتسوية تسمح لميليشيا الدعم السريع بالبقاء ككيان مستقل يعني الانتقاص من سيادة الدولة السودانية أو فشلها.

يمتد هذا الطرح تاريخياً إلى العداء المزمن للانتفاضة السودانية باعتبارها موجة جديدة من "ربيع عربي" مدفوع غربياً لتدمير البلاد العربية. تلك المغالطات المترابطة إنما تقودنا إلى فخاخ لا مناص من كشفها، لأن الطرح الداعم للدولة السودانية يتوهم أنه كذلك بالفعل لمجرد دعمه لمؤسسة يُفترض نظرياً أن من واجبها حماية الدولة، لكن بالتدقيق في الدور الذي لعبه الجيش السوداني إبان الانتفاضة فإننا نرى دور حماية الدولة وقد دُفع للمقعد الأخير بينما برزت على سطح المشهد مصالح الجنرالات السودانيين الذين بالتحالف مع الجزار حميدتي تخلصوا من البشير، فقط لأن بقاء الجماهير في الشوارع كان يعني المزيد من الخطر على مصالح النخبة السودانية.
ليس حميدتي نبتاً شيطانياً ظهر على ضفاف النيل مؤخراً، إنه ابن الدولة السودانية بالتبني، تلك الدولة التي انتدبته كمرتزق ووضعت تحت إمرته ميليشيا وصل تعدادها إلى 100 ألف من الجنجويد مسلحين بكل ما يلزم لقتال الشوارع، تحت مرأى ومسمع الجيش السوداني للقتال في دارفور وارتكاب مجازر تضاهي تلك التي ارتكبها الأمريكيون في العراق وأفغانستان وفيتنام وتلك التي مارسها الإنجليز في مستعمراتهم السابقة، باختصار كان حميدتي هو أيدي الدولة السودانية الأكثر قذارة، وقد استمر في القيام بدوره بكل إخلاص حماية لـ"الدولة" السودانية، منقوصاً منها جنوبها، ولازال غربها يقاتل للانفصال بينما الشرق على وشك الانسلاخ، تلك هي الدولة التي اتُهمت الانتفاضة السودانية بأنها ربيع عبري صُنع خصيصاً لتفكيكها. وتلك هي الدولة التي لأجلها، ذبح حميدتي بالاتفاق المباشر مع غريمه في الصراع الحالي ما يزيد على 150 متظاهر وجرح عدة مئات أخرى في مجزرة القيادة العامة.
الدولة السودانية في خطر، هذا صحيح إطلاقاً، لكن ليس أقل صحة أن البرهان وحميدتي يشكلان جزءاً من هذا الخطر الوجودي. لقد كان مسار إسقاط البشير كما قلنا هو مسار الحفاظ على جوهر الأمور عن طريق عزل الجماهير الشعبية السودانية عن المعادلة، وكان تفكيك قحت جزءاً من هذا المسار إذ بمجرد أن سقط البشير تصدعت قحت التي لا يقل خوفها من جماهير الشارع عن خوف البرهان وحميدتي ورعاتهما. إن استمرار الوجود الجماهيري المنظم في الشوارع يمثل عاملاً في المعادلة تصعب السيطرة عليه، وكلما طال بقاء تلك الجماهير متلاحمة في الشوارع والميادين كلما زاد تجذر ميولها الثورية، تلك خبرة تاريخية على جهة الشارع، توازيها على جهة الحكم الرجعي خبرات مورست بأشكال مختلفة كان هدفها الدائم كسر وحدة الشارع وكسر لُحمة الجماهير عبر تحقيق هدف شكلاني كإزاحة رأس النظام، إزاحة تحقق الهدف الاستراتيجي الأهم: حماية البنية القديمة أو تعديلها بانقلابات قصور.
ولعل انقلابات القصور تلك تحيلنا مباشرة إلى حقيقة هامة، ليس الربيع العربي هو المؤامرة على السودان، لم تكن ولن تكون انتفاضة الجماهير السودانية سوى أمل السودان الوحيد للفكاك من تبعيته للمحاور الإقليمية والدولية، أما المؤامرة المفضوحة على السودان فهي عبدالفتاح البرهان وهي حميدتي وهي حمدوك، وهي قوى قحت التي تحصنت بالعسكر ضد الجماهير التي خلقت الظروف لإنجاز انقلاب ثوري حقيقي في الوضع السوداني.
اليوم والأمس وغداً، لا يمثل البرهان الدولة السودانية بل أحط ما فيها، يمثل نهايتها بنفس القدر الذي يمثل به حميدتي خطراً على وحدة ما تبقى من السودان. إن المصالح المحتشدة خلف كلا المعسكرين ليست هي مصالح الشعب السوداني، بل هي مصالح محوري الخليج المتصارعين، ومصالح القوى العالمية الصاعدة والمتراجعة، اليوم تلعب في السودان لعبة الأمم ولا يمكن الرهان على أي من طرفي الصراع لأنهما يمثلان كل ما هو معادي للشعب السوداني. قد يبدو دعم الجيش خياراً مرضياً للضمير، لكن أليس لنا أن نتساءل كي نوفر لضمائرنا المزيد من الراحة: ألم ينشب هذا الصراع أساساً على خلفية صراع على السلطة بين الطرفين أي صراع على الثروة التي حُرم منها الشعب السوداني وأقطعت ثروات بلاده لشيوخ الحروب؟ هل أدرك البرهان فجأة أن وجود ميليشيا غير نظامية بقيادة مستقلة يمثل خطراً على الدولة السودانية المزعومة؟ أم أن البرهان، تماما كدقلو، بإيعاز من رعاتهم قد قرروا شن الحرب لحسم ازدواج السلطة في السودان؟ ليس دعم الجيش سهلاً، فرغم أنه ينطوي على فائدة شكلية تتمثل في الحفاظ المزعوم على الدولة السودانية إلا أن تلك الفائدة من السهل كشف تهافتها، فالجيش السوداني لا يمكنه بالفعل الحفاظ على بقاء الدولة السودانية إلا بردها لأصحابها، لجماهير السودان الشعبية التي ملأت الشوارع على مدار ثلاث سنوات، لا يمكن للجيش السوداني أن يقوم بأي دور حقيقي في صيانة وحدة ما تبقى من التراب السوداني إلا إذا صار جيش الشعب السوداني، وهذا ما لا يتوفر الآن، فالبرهان مرتهن كلياً للرعاة الإقليميين، وليس للرعاة الإقليميين مصلحة إلا في الحفاظ على السودان في حد التوتر ما قبل الانفجار.
لمن هذه الأرض الخصيبة ومناجم الذهب، والنهر والبترول؟ هذا هو محور الصراع الحقيقي لكنه صراع يشوبه اختلال حقيقي في ميزان القوى، اختلال نابع من غياب الجماهير السودانية اليوم عن المشهد، المشهد الذي صنعته بجسارة على مدى السنوات الماضية، ضد البشير وضد البرهان ودقلو وضد خيانة قحت! ضد خطر تشظي الدولة والمزيد من التفتيت، الإرث الثقيل للبشير، سنوات الحروب الأهلية والمجازر، القرصنة الإمبريالية على السودان، التراجع الدرامي للدور المصري الذي أدى بشكل مباشر إلى فتح قلب السودان لمشيخات الخليج كي تراكم المزيد من أسباب القوة على حساب الشعبين المصري والسوداني.
ليس البرهان وحميدتي إذن سوى شئ واحد، فاستيلاء الميليشيا على الدولة أو نجاح الجيش في دحر الميليشيا لا يغير من حقيقة أن كلاً من البرهان وحميدتي خطر على السودان، وأن تلك المعادلة صفرية طالما بقيت المعركة بين المرتهنين للخارج، المعادلة التي لا يغيرها سوى الشعب السوداني والرهان على قدراته الثورية. إن الذين يحاججون حول دعم الجيش باعتباره ليس الحل الأفضل ولكنه الممكن، هم هؤلاء الذين وضعوا أنفسهم بحسن نية أو سوء نية في خدمة المصالح المعادية للشعب السوداني، فالحل الأفضل لن يسقط من السماء، ولكن يصنعه الناس، أصحاب المصلحة في سودان حر وسيد على موارده، سودان يواجه تمزقاته بالحل الديمقراطي الذي يكفل وحدته التي لم تستطع المدافع صيانتها. وهذا الحل الأفضل تم وصمه بأنه ربيع عبري لأنه هدد المصالح المستقرة فوق الدم والكدح السوداني، هكذا إذن، يثور الناس فيتم وصمهم، ثم يقتلون فيتم التصفيق لجلاد من الجلادين باعتبار أن سوطه هو الأقل قسوة.
ثم ماذا بعد دعم البرهان، أو دعم الجيش؟ إنها تسوية جديدة، مؤامرة جديدة يدبرها المحور المنتصر تستهدف شيئاً واحداً: خروج الجماهير السودانية من المعادلة، بل إن المجزرة الدائرة الآن تستهدف تحديداً عبر الإرهاب، أن تقطع الطريق على احتمال دخول جماهير الشعب السوداني في المعادلة من جديد. إن هؤلاء الطغاة بما توفر لهم من قوى قد جاءوا على صهوة خيل التدخلات الأجنبية ولا أمل يمكن أن نعلقه عليهم في صيانة وحدة السودان وأمنه واستقلاله. لذا فلصغار الفاشست نقول: المجد للشعب السوداني!

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 414
`


محمد عثمان