نفوسُنا... تلك البيادر المذّهبة

والناس مثل كتَبةِ أيامهم، يحكون لي عنّي. هم أصدقاءٌ مغرقون بالحبور، يؤدّون تحية الميلاد لوالدي. مع الوقت أدركت كيف أكبر واﻷيام؟ كيف أخزنُ مشاعر الناس؟ أسحبُهم إلى أماكنهم في الحكايا، واﻷسرار الطفيفة المضحكة تمنحنا لقطاتٍ، تستيقظ كلّما نهض القلب من رقاد زحمة الحياة...

 حياتنا شريطٌ ذهبيُّ الذكريات، يغلّفُ وجودَنا، إنسانيتَنا بعناصر الجمال والإلهام، باكتنازٍ يعيدُ علينا الفرحَ والسرور، الحبورَ بقصصٍ لنا؛ ونحن اعتمالاتها وأبطالها، نسرد فوزَنا بأعزِّ الأصدقاء الأحباء، بنبلهم، بنفوسهم الشمّاء، بدفء قلوبهم وصدق مشاعرهم...

وحيث أنتم انتماؤنا، وأنتم بخير... نحن بخير. 

 كما لو تكلّمنا المشاعر، نقيم سوياً موائد الصباح والمساء بأطيب وطيب المشاعر، فيها تتجدّد النهارات بسفرة الرحمة والرجاء، ببشائر الخير، وتمسي لياليها بصفاء المنامات، ترفرف فيها الأرواح بجنّات الصفاء، وهي بشائر الحياة بجماليات الوجود...

 ونحن نبحث عن أنفسنا، نرانا في الآخر، وما بين عينٍ ومرآة أفكارٌ وصور، مشاعرُ تترقّى حُسناً وإيجاباً، تترقّى حسناتٍ بنكهة البركات والخبز والملح، بتبتّلاتٍ وجدانيّة؛ وهي عرائشُ المودة والشكر والرحمة، هي أدَمُ الأيام وصِلة الأرحام.

 طموحاتُنا، أحلامُنا كيف نصيرُها وتصير ظلالنا؟ كيف نخزنها ما قبل البدايات، خلالها وبعدها؛ ولا انتهاء للحلم، للأمل، لإنسان طموحٍ ويطمح مهما تساقطت أحلامٌ أو انكسرت.. وكثُرت آلام؛ فهي تُمحّص إرادتنا، تحثّنا على الاستمرار، على اعمال العقل بإرادة الإيمان بأنفسنا أولاً، بسعيٍّ فطريٍّ قرينِ الوجود والإنوجاد باعتمالات أرواحنا، نفوسنا ومشاعرنا... "وفي السعيّ شيءٌ من الكمال".

 طوال العمرِ نسافرُ إلينا، نختلقُ عوالمنا، نقيمُ علاقاتٍ بطول الأرض وعرضها، ولا نعرضُ عن قلوبٍ أربع رياح المسكونة. وهي عرفانُنا، صورتنا البيضاء الجوهر بألوان قوس قزح، وهي نبض الفرح، وصفحات النّور، وجودنا.. ونحن نمضي على جلجلة الحياة، ندرك كم نحن معاً أوّل الضوء. نمسك آخر الضوء، وما بينهما هذا المشهد الإنساني والخير والجمال...

 مهما اشتدّت حلكة الغيوم، فهي تحمل الخير، وكلّما ازدادت قتامةً، ازادادَ خيرُها. هكذا نكون في الحياة، نقيم مكانة انوجادنا بعزةٍ وسموٍّ وكرامةٍ. مهما بلغت منّا النوائب والخطوب، وهي امتحانُنا تعكسُ قيمةَ جوهرِنا بكلِّ رُقيٍّ إنسانيٍّ وإيمان، ايمانُنا بذواتنا، بقدرتنا، بفرادة وجودِنا.

 ونحن معاً في لوحة الحياة، تسرد ألوانُها أنفاساً كنّا حبسناها بنظرةٍ وبسمة، بذكرى تحملها نظراتنا بأجنحة أثير، تزداد لها نبضات قلوبِنا، كما لو يترسلّنا غيثُها بآهاتٍ نبيذية الأشواق، ولا تزل تخربش مشاعرنا عليها، ونحن فيها مكنونات الضوء... نحبرهُ، نُخبِرهُ بأنّهُ الحبّ.

 يوماً تلو يوم، نقتربُ إلى نفوسنا أكثر، حيث نتحلّقُ حول مائدةِ العمر، حيث نرفع نخبَ الصديق والحبيب والرفيق، حيث تطيب الرؤى، وتنثال المودة، فلا نروح عنها عن طيب خاطر، وأنّى كنّا ويمّمنا وجهاً، ثمة مشاعرُ نتبادلُها، تعانقنا بتلك الضحكات، وإن فلتتْ دمعةٌ؛ فهي كلّ الحبّ في عين الحياة... 

 إن أحبَبْنا نخاف من الحبّ، إن حزّنا نخاف من الحزن، وهما مثل الليل والنهار يتكوّران بكلّ جوارحنا، يقيمان فينا، ولنا أن نهدهدهما كما لو أطفالُنا؛ فلا الحزنُ يدوم، والفرح يُثمرُ بوجودِ عليائنا، كيف نتسامى والمحبة. وهما كشجرة الحياة. تجربُتنا الإنسانية، تخلُّقنا بصفاتنا المعبّرةِ الساحرةِ المؤنِسة لكلّ ما في الوجود...

 نحلُمُ، لطالما نحلمُ كيف نسافر في المرايا، في فضاءاتٍ لامتناهية، في نفوس أحبائنا. ونحن نشقُّ ملاءةَ كلِّ فجر، نُخبّئُ حُلُمَ كلِّ ليلةٍ، نهديه لأشباهنا، لنفوسنا المعقودة الأواصر، وفوق الأضواء أسماؤنا، أشياؤنا في الدّنيا، في كلِّ رُكنّ وزاوية. وهنا بين أقمار الليل وأقمار الصبح. ألفُ وردةٍ وقُبلةٍ وحكاية، وهي ملامحُنا، بشاراتنا الوردية لمن نُحبُّ...

 حين ترتجف الحواس، لا تخفيها رعشات المصابيح، وأخفي أكادُ صمتاً حفيَّ التوجّدِ والزهرات، تلك التي تظلّلُ الآهات، والكلمات الهاتقةُ الدعاء بخضابِ الأصيل، نوُدِعُ فيها تمنياتنا، نغلّفها بوردةٍ وقبلة، بالهناء وراحة البال.. وفيها راحة النفس والقلب والعقل، وأنها تلك الغاية النبيلة، تسري بعناية الإبداع...

 ذكرياتُنا الباكرة، نسغُها الوثيرُ في الحياة، في أراجيح الأغصان، تلاعبُها أنفاسُنا، فتضيء الملاعب تحت رائعة النهار، وتظلّلنا بركاتُ نفوسِ الطُهر، تفتح لها السماءُ أبواب الرحمة، توقظنا لحكمةٍ سامية، ونحن في هذا القصد الإلهي الإنساني، نتلقّفُ هِباتِ الرضا والسلام، وبأنّنا أهلٌ للحبِّ والجمال... للخير في ظلِّ وقيمة تواصلنا وتراحمنا، في ظلِّ شجرة الحياة المباركة، نقطف عنها فجرنا ومساءنا، سلامنا في هذا التسامي في صّومعةِ الدّنيا...

 مرايانا، وجوهنا الحقيقية تضيءُ بنا، تلثمُنا مشاعرُها، تتماوج بالعيون، تتلامسُ ألوانها. كيف تنساب فوق صفحات النور والماء...؟ في هذا الصباح، والقلب مركز الكون والحياة، أواكبُ صلوات الأنفاس، الإحساس والأحلام، فيها تتناثرني وريقات الورد سلاماً لكلِّ قلبٍ صديق... 

 لا تخدعُني، أرى قلبي في مرآتي، وهي صباح وجهي، وطيبُ مسائي، تنتظرني من الفجر إلى الغروب، تلملمُ أحلامَ نومي، تسري بملامحي توقِظُني، تسبقني ضاحكةّ لملاقاتي، تعانقني بشمسها ونجومها، فيها تناهى، تماهى نبضُ قلبي، فيها كلُّ ليلةٍ أُودِعُ نظراتي.. سلامي وابتساماتي، مشاعرَ وصفاءَ أحبائي...

 كيف الإحساس يخلق الفكرة، والفكرة تجسّد الإحساسَ بضمائرنا والأفعال، وفيها بشائرُنا وطلِبَتُنا، تأمُّلاتُنا والخواطر، بنفوسٍ تسمو بأضوءِ العرق، بأنوارِ الأقمار. وفيها انتصارنا، أسفارُنا الروحية في سُبُلِ الدُّنيا. نذهب في الحياة بأحلامنا، نكبر وإيّاها، وهي طموحنا، وفيها الصحبُ والرفاق، فيها المطارح، الألوان والحكايات، وتظلّ مهما تقدّمَ العمر بنا بنكهة نفوسنا، بأن نعيش مراحل الزّمن، وبنا ما لا ينتهي، حيث الحلمُ والأمل يتجسّدان بنفوسٍ لا تعرف غير الحبِّ والخير. ولا نكون إلّا على قدرِها، وفينا ما لا يشيخ، نرسم بأنامل مشاعرنا على لوحة الحياة مرايانا ووجوه أحبائنا كيف يبسمون لنا كلّما ذكرناهم.

 ... نودِعُ في كوارةِ الزّمن، أجمل الذكريات، وهي قمحُما وخبزنا، وهي قنديل البسمات في ليالي العتمة، وهي تلك "الكمكة" المعلّقة بسقف النظرات، و"النملية" حافظة ما يُشتهى من الطعام. بشغف ماء النبع، يتربّع في ساحة الضيعة، بتلك النجوم تفرح للساهرين، للطيبين ينثرون طرائف ونوادر "الكروسة"... وتلك المناديل البيضاء والسوداء... صلاة جدّتي، وعبق كشكشها، صلاة جدّي وصلابته وكبريائه ومحبته، وتلك البيادر المُذهّبة... حصادُ النفوسِ الطُهرِ، والسواعد السمراء، تلك الأهازيج ورقصة الصبايا يعلو الرأس إبريق الفخار يتمايلن به، فلا تسقط قطرة شوق، وخبطة قدم... تراث الكبار والصغار، تلقانا كلّما فتحنا عليها كوارةَ دواخلنا بأجمل المشاعر، وحكايا لا ينضب لها ألق...