تمثال الحرية... في أزمة!

تمثال الحرية، الواقفُ وقفتَه الشامخة على مداخل نيويورك، ليس -كما نحسَبُه- شيئاً من معدن الآليّة الأميركية "المُفَوْلَذة" تحت مطرقة الدولار.
تمثال الحرية ليس مادةً مصقولة اشتُقّت من عصب الرأسمالية الاحتكارية الذي صهرَتْه "أفران" الشهوة الجائعة دائماً إلى لحم الإنسان تهضُمُه بنهم، والظامئة دائماً إلى عرق الإنسان تعتصرُه من جباهِ الكادحين وسواعدِهم بضراوة، ليتحوّلَ اللحمُ والعَرَقُ "رِبحاً" يصنعُ سلاسلَ العبوديّاتِ لكل إنسان.

تمثال الحرية كان -بالأصل- نبضاً خافقاً بشرفٍ من نبضاتِ الشعب الأميركي حين هو يناضلُ لاستقلالِهِ وحريته وإنسانيته.
من قلب هذا الشعبِ الطيّبِ نهض معنى هذا التمثال ذات يوم، ثم وقف وقفتَه الشامخةَ رمزاً لشموخِ الإنسانِ في كفاحه الطامح إلى الحرية... وقلبُ الشعبِ مَحالَ أن تستطيعَ آلةُ استعباد، مهما تكنْ صلبةً شرِسة، إفراغَهُ إلى الأبد من نبضٍ يخفُقُ في قرارته بشرف الإنسان...
محالَ أن يموتَ هذا النبضُ في قلبِ شعب، ومحالَ أن يتجمَّدَ أو يتحجَّرَ أو يسكُنَ عن الخَفَقان، وإنْ بدا -زمناً- أنه ماتَ أو تجمّد أو تحجَّرَ أو سَكَن.
وتمثال الحرية على مداخل نيويورك، ما دام قد نهضَ يوماً من قرارةِ هذا القلب ذاتِه، قلب الشعبِ الأميركي وهو يكافح للحرية، لن يسكتَ نبضُ الحريةِ أبداً في قلبه بين ضلوعِ الفولاذ... لن يسكتَ أبداً رغم اعتصاره بين كُتَلِ الفولاذ ورغم اختناقه بين لُهاثِ الأفرانِ تصهرُ عصَبَ الإنسانِ اشتهاءً إلى لحمِ الإنسان وعطشاً إلى دمِه وعرقِه في مكان.
***
كيف يسكتُ نبضُ الحرية في تمثال الحرية على مدخلِ نيويورك؟ كيف يسكتُ وعلى مداخلِ نيويورك ذاتِها يقتلون الحرية ألفَ مرةٍ كل يوم. يصلبونها على مداخلِ "الأفران" الصناعيةِ كلّ ساعة، كلّ لحظة يسكبون دمَها في قواريرَ من جماجم المناضلين تحت رايتها في حيّ "هارلم" من نيويورك، وفي غاباتِ البطولةِ النبيلة من فييتنام. ينحرون قداستَها في فلسطين، في بيتِ المقدس، في معاركِ الحرية من أرضِ العرب كلِّها؟
***
لقد اخترقَ ضلوعَ الفولاذِ إلى قلبِ تمثال الحرية صوتٌ هادرٌ على أرصفةِ نيويورك من آلافِ الآدميين أحفاد "العبيد" الذين حفظوا اسم "لنكولن" كما أحفظُ أنا اسمي وتحفظُ أنتَ اسمك.
أمس، يوم الخامس من آب، انهمر إلى قلب التمثال شلاّلٌ هائلٌ من أصوات الأحفاد هؤلاء هاتفين باسمِ هيروشيما وناغازاكي بعد اثنيْن وعشرين سنة من أنهار الموت والدمار والسموم على مئتيْ ألف إنسان، وعلى منابتِ الأطفالِ والحقولِ والأزهارِ والمراعي والحيواناتِ الوديعةِ والأطيارِ والأسماكِ وكلّ ما يُبقي الحياةَ لتُعطيَ من خيرات.
لقد اختلج نبضُ الحرية في قلب تمثال الحرية على مداخل نيويورك حين كانت جموعُ المتظاهرين الطّيبين، من أبناء المدينة هذه، مدينة البنوك والسماسرة والصهاينة ولصوص الحرية، تهتف لذكرى استشهاد الحريةِ بأولِ قنبلةٍ ذرّية في هيروشيما وناغازاكي... وفي هاتيْن المدينتيْن كان ما يزالُ الاستشهاد، حتى يوم الذكرى ذاتِه، يتسلّلُ إلى لحم الإنسان وروحه، وإلى جمال الحياة وخيراتها.
واختلج النبضُ أسرعَ فأسرع، وأعمقَ فأعمق، إلى الذكرى تدقُّ قلبَ التمثال على مداخلِ نيويورك بأيدي الأميركيين أنفسِهِم. فالأيدي الطيّبة التي تلتهبُ غضباً لشرفِها، لشرفِ وطنها وإنسانيّتها، إذ تذكرُ أنّ اليدَ الأثيمةَ التي أمطرت الموتَ والدمار والسموم على هيروشيما وناغازاكي كانت واحدة من الأيدي الأميركية بالذات، من الأيدي التي صنعَ أسلافُها معنىً من معاني الحريةِ يشيرُ إليها تمثالُ الحرية.
***
وانفتحت الذكرى الرهيبة من ضلوع الفولاذ، مساربَ جمّة، فإذا ملايينُ الأصوات البشرية تدخلُ على صهَواتِ الريح إلى قلب التمثال فرساناً مقاتِلةً بين فرسان الحرية في عصرنا، وفي رحاب أرضنا الطيبة ما بين الأصوات: مِن حيّ هارلم في نيويورك، من أحياءِ ديترويْت في ضواحيها، من أحياء واشنطن ذاتِها، من زنوج أميركا كلِّها، من فييتنام المجيدة البطلة الصامدة، من أميركا اللاتينية الثائرة، من مناجم الكونغو الغارقةِ بالدماء، من الجلود الآدمية في جنوب أفريقيا، من حناجر السيوف المحاربة في أنغولا وموزمبيق، من تمزّقات البشَر المعذّبين في نيجيريا، ومِن زفَرات الرمال المدنّسةِ بأقدام الغُزاة في سيناء، من أمواجِ الماء المتقزِّزة في قناة السويس، من شهَقاتِ الحنين إلى أرض فلسطين وإلى أهلها الأصليّين النازحين، من أقداسِ محمد والمسيح المُهانةِ في القدس وبيت لحم والخليل، من جراحاتِ الكرامةِ المُثْخَنة في كلِّ شبرٍ من تراب الضفة الغربية للأردن، من وحشةِ التلال الأبيّة القريبة الآن من حُماتِها في سوريا، من منابع الذهب الأسوَد المسوَّرةِ بألفِ سورٍ من المطامع والمكائدِ والمؤامراتِ الاستعمارية في بلاد العَرَب، عين الحراسة للامبريالية العالمية المعاصرة. يحكي كيف تتصدّى الرأسمالية الاستعمارية ومَن يحكمون أميركا باسمها اليوم لكلّ صوتٍ يهتف للحرية، وكيف تشحذُ سيفَها لتذبحَ هذا الصوت، لتشربَ دمَه خمراً وتسكر، ثم تزعم -وهي سَكْرى- أنها تُدافعُ عن الحرية!
***
وهذا الصوتُ المارد، صوتُ فييتنام، ينبري من بين أصوات الملايين، فيهزُّ قلبَ التمثالِ كأنه الإعصارِ قائلاً: إسمعْ أيها الشامخَ هنا باسمِ الحرية.. إسمعْ قوْلةَ "جونسون" وهو يزعمُ لشعبِ بلادِكَ أنه "يسمحُ" بزيادةِ ٤٥ ألفَ جنديِّ في جيشه الضخم الذي يقاتل شعبي، وبزيادةِ ١٠ في المئة في الضرائبِ الضخمة التي تمتصُّ عرَقَ الشعبِ الأميركي الكادح، ليتحوَّلَ إلى رصاصَ وقنابلَ تقتلُ إنسان وطني وتحرقُ بيتَه وحقلَه ومدرستَه وأطفالَه وشبابَه. كلُّ ذلك -في زعمه- "نصرةً لقضايا الحرية والسلام في العالَم"! كيف تسمعُ هذا الزعمَ الأحمق، أيها التمثال-الرمز، ولا تتحركُ وتتمرّدُ وتثورُ غضَباً لتاريخِكَ، غضَباً لشرفِ بلادك، غضَباً للرمز العظيم الذي تحملُ مشعَلَه عالياً هنا بين الحيْطْيْن على مداخلِ القارة العظيمة؟
***
وينتفضُ التمثالُ-الرمز ويتسارعُ نَبَضُ الحرية في قلبه انتفاضاً وغيظاً. وتتحوَّلُ ملايين الأصوات ، من ضلوع الفولاذ إلى أزمةِ قلقٍ وتساؤل.
تساؤل؟ نعم... ويُطرِقُ التمثال، ويتساءلُ نَبَضُه الذي انتفض: تُرى ، كيف تلاقتْ هذه الأصوات الملايين الآتية من شعوبِ الإنسان في كثيرٍ من الأوطان، على بُعدِ المسافاتِ بينها في أربع قارّات؟ كيف تلاقتْ هكذا واجتمعتْ صيْحَةً واحدة تشقُّ بابَ الضمير الغارقِ تحت أضلاعي الفولاذية؟! هل حدَثَ هذا بفعلِ المصادفةِ العمياء؟ ولكن هل تكونُ المصادفةُ على هذا النحوِ عمياءَ بالفعل؟! أليْسَ وراءَ هذا التلاقي العجيب في هذا الجزء الخاص من الزمن، "شيءٌ" آخر غير المصادفة، أو أنه "شيءٌ" غير العمياء؟ لا ، ليس من طبائع الأمور أن تحدثَ هذه الظاهرةُ إلاّ أن تكونَ انبثاقاً من قانونٍ يربطُ بينها وبين ظاهراتٍ أخرى في تاريخ المجتمع البشري المُعاصِر. لا بد وراءَ ذلك يدٌ للتاريخ تجمعُ بين الأشياءِ والأحداثِ والظاهرات. لا بد من سببٍ واقعيٍّ جوهريٍّ كائن في حركة التاريخ البشري المعاصر ذاتِها .. ولكن، أين مركزُه من هذه الحركة: أيكونُ من نظام الرأسمالية الاحتكارية الاستعمارية المتمركِزة اليومَ في بلادي الأميركية، أم في عاصفة التطوّر التي بعثتْ روحَ الحريةِ والتحرّر في شعوبِ القارات بهذه القوة الهائلة منذ ولادةِ أوّلِ نظامٍ للاشتراكيةِ بانتصارِ ثورةِ أوكتوبر في روسيا، ازدادتْ هذه القوةُ زَخماً وفاعليةً منذ انحسار الحربِ الكونيةِ الثانية من ظهور الاشتراكيةِ نظاماً عالمياً إلى جانبِ النظام العالمي الآخر: الرأسمالية، وتناقض النظاميْن المتعايشيْن معاً في عالمٍ واحدٍ وتنافسهما، وظهور عجز الثاني من ناحية حاجات التطوّر التاريخي الحتمي؟
وقال النَبّضُ المتحرّكُ في قلب التمثال بين الضلوع الفولاذ: كيف يصحُّ التساؤلُ هكذا عن مركز السبب الواقعي؟ ليس في حركة التاريخ المعاصر مركَزان .. هناك مركزٌ واحد: هو هذه الحركة ذاتُها، ومنها تنطلقُ الظاهرةُ التي جمعتْ هذه الأصوات الملايين، فجاءتْ جميعاً صيحةً واحدةً تطرقُ باب ضميري الذي كان مغلقاً حتى الآن!
تمثالُ الحريةِ في أزمة هذه الأيام. أصداءُ القنابل في فييتنام تهزّه بقوة. تفجّراتُ الزنوج أمام قامته الشامخة تسخرُ من شموخه. مؤتمر هافانا لحركات أميركا اللاتينية على مقربةٍ منه يتحدّى المشعل الذي يحملُه على مداخل القارة. أصواتُ ملايين البشر في آسيا وأفريقيا تعصفُ في هدوئه وصمته وجموده الفولاذي.
تمثالُ الحريةِ هل يتحرّك؟ هل يتنفّس؟
شعبُ أميركا يُجيب، ولا بد أن يُجيب.

* مقالة للشهيد المفكر حسين مروة في جريدة "الأخبار" ، كتبها بتاريخ ١٣ آب ١٩٦٧.

 

  • العدد رقم: 361
`


حسين مروة