وتبقى "جمّول" عنوان العقد الدائم

تجسيداً لتلازم التحرير والتغيير على درب التحرر الوطنيّ والاجتماعيّ، انطلقت جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضدّ الاحتلال الصهيوني في 16 أيلول من عام 1982. ثمانية وثلاثون عاماً مضت على هذه المناسبة التي نستعدّ اليوم لإحياء ذكراها، تقديراً ووفاءً لتاريخ شعبنا وحزبنا في إطلاق هذه الجبهة، ولقائدها الرفيق الشهيد جورج حاوي الذي خطّ بيده مع الرفيق محسن إبراهيم نداءها الأوّل.


وفي هذه المناسبة، نتوجّه بالتحية إلى قوافل الشهداء والجرحى والأسرى والمفقودين والمقاومين الذين لم تزل جثامين البعض منهم محتجزة لدى العدو الصهيوني، كما نتوجّه إلى عائلات الشهداء وننحني أمام عظيم تضحياتهم، وإلى كل الذين لم يرفعوا الأعلام البيضاء بل وقفوا بصلابة في هذه المعركة إلى جانب المقاومين من مختلف القوى والأحزاب فساهموا بذلك في مسيرة التحرير.
وإذ نحيي هذه المناسبة، فإننا لا نقوم بذلك فقط من أجل استذكار الماضي والتاريخ اللذين حفلا بتجربة الحرس الشعبي وقوات الأنصار وقبلهما بالعديد من المواجهات ضدّ المشاريع الاستعمارية المستمرة بدءاً من تداعيات وعد بلفور واتفاقية سايكس – بيكو، بل من أجل إعادة تجديد الالتزام بتحقيق الأهداف التي انطلقت من أجلها "جمول"، بتحقيق التغيير الديمقراطي عبر المواجهات السياسية والتحركات النقابية والشعبية والتي أنضجت حالة الوعي العارمة المتجسدّة في الانتفاضة الشعبية العارمة في 17 تشرين، لتبني مع انتفاضات شعوبنا العربية ومقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال الصهيوني مشروع الارتقاء بمسيرتها إلى مصاف مقاومة عربية شاملة على المستوى القومي عموماً وعلى مستوى كل بلد عربي، لتتكامل هذه المقاومة في مشروع واحد للتحرر الوطنيّ والاجتماعيّ ضد صفقة القرن وكافة صيغ مشروع الشرق الأوسط الجديد.
إنّ هذه الصيغ القديمة – الجديدة المتعاقبة على المنطقة قد عبّرت، من زاويتنا، ولا تزال تعبّر عن أشكال محدّدة للصراع الطبقي الذي يتجلى في أكثر من مجال:
- ضد النهب الإمبريالي والصهيوني لخيرات وثروات شعوبنا، الذي يتوسّل الاستتباع والسيطرة والاحتلال،
- وضد الأنظمة الرأسمالية التبعية المحلية ومنظوماتها السياسية التي تتولى تنفيذ مهمتين اثنتين: استغلال شعوبها وافقارها وتهجيرها، وحماية مصالح الامبريالية.
وبالاستناد إلى هذه المنطلقات، فإننا نحيط عن كثب بتاريخ الارتهان والتبعية لمنظوماتنا السلطوية المحلية المتنقلة من وصاية إلى وصاية، والتي لا نتفاجأ بقبولها بهذا القدر من الإذلال أمام ماكرون في الحالة اللبنانية، عندما قدّمت له قوى السيادة والحياد والممانعة السمع والطاعة وكل أشكال التنازلات المطلوبة.
كيف لا، وماكرون يعرف بالملموس حقيقة حساباتهم المالية المنهوبة والمهرّبة ويعرف بالتالي كيف يبتزهم لينال مآربه، مع دعمهم في الوقت ذاته لإنقاذ النظام الطائفي المتهالك الذي صنعته بلاده والذي لا مصلحة لفرنسا في الغائه. فالرئيس الفرنسي لم يخفِ حرصه على التمسك بجوهر النظام القائم، مع سعيه لإعادة إنتاج عقد سياسي جديد يؤسّس لانطلاقة المئوية الثانية على نفس قواعد المئوية الأولى:
أي على قواعد محكومة بعلاقة التابع بالمتبوع، حيث يتولّى المتبوع تحت غطاء ما يسمى "المساعدات" تسمية رئيس الحكومة اللبنانية ويوزّع برنامجها الوزاري، ويمهل التابع أسبوعين لتشكيل الحكومة وشهرين لإقرار ما يسمى "بالإصلاحات"، التي يستهدف جزء أساسي منها تحميل الشعب اللبناني كلفة الانهيار المالي ويعيد انتاج المنظومة السياسية الحاكمة بوجوه جديدة تبقي بنية علاقات التبعية على سابق عهدها، وإلّا "يكون لبنان مهدداً بالاختفاء" كما ذكر وزير خارجية فرنسا.
إنه الوقت المستقطع الذي أعطاه الاميركي للفرنسي بسبب انشغاله بانتخاباته الرئاسية وبتجميع أوراقه الانتخابية. ولكن هذا الوقت المستقطع لا يمنع ترامب من توجيه همّه الأساسي في لبنان اليوم نحو صيانة أمن الكيان الصهيوني لكسب أصوات اليهود، والسيطرة على نفط لبنان من خلال فرض اتفاق ترسيم الحدود البحرية والنهرية عبر ما يقوم به المبعوث الاميركي شينكر، حيث تشير المعطيات إلى أنّ الاتفاق بات منجزاً وينتظر التوقيت الأميركي المناسب لإعلانه. ويركّز ترامب خصوصاً على الصواريخ الدقيقة لحزب الله، استكمالاً لمندرجات صفقة القرن واتفاق التطبيع الصهيوني – الإماراتي الذي قد يليه عقد سلسلة اتفاقات شبيهة مع دول الخليج الأخرى.
في الإطار ذاته، يسعى أردوغان من جهته إلى التوسع برّاً وبحراً في كلّ أرجاء المنطقة، في محاولة لاستعادة أحلام الامبراطورية العثمانية. وهو يتمدّد عسكرياً في قطر وليبيا والعراق وسوريا، ويسعى الآن لملء الفراغ الذي أحدثه الانكفاء السعودي الراهن عن الساحة "السنيّة" في لبنان، ويعمل على تأجيج صراع الأخوين سعد وبهاء الحريري الذي بدأ يأخذ طابعاً عسكرياً في بيروت. وقد بات هذا التمدد جليّاً على الارض، وبخاصة في طرابلس والشمال، مرتدياً شكل مجموعات تحاول ركوب موجة الانتفاضة وافتعال واستثمار الصدامات.
لقد عرّضت المنظومة السياسية الحاكمة لبنان لكل أنواع التدخلات والمشاريع الخارجية، التي لطالما قوّضت مفهوم الدولة تاريخيا وسلبت اللبنانيين ثرواتهم وقوّة عملهم وأدّت إلى تهجيرهم في أصقاع الأرض بحثاً عن فرصة للحياة. وها هي المنظومة نفسها الآن، بالرغم من كل صراعاتها الفوقية، البينيّة والداخلية، تتناغم في ما بينها بحثاً عن صيغ جديدة للمحاصصة الطائفية، تارةً باسم اللامركزية الموسعة، وتارةً أخرى بإجراء انتخابات نيابية مبكرة وفقاً للقانون الانتخابي الراهن، وهكذا يبقى لبنان الكبير يدور في حلقة مفرغة لمئة عام مقبلة.
إننا نقول بصوتٍ عالٍ إنّ الآتي سيكون أعظم، والمواجهة ستكون أشدّ وأشرس بعد توافق معظم أطراف السلطة على تشكيل حكومة مصطفى أديب وعلى تنفيذ ما عجزت عن تنفيذه حكومتا الحريري ودياب، وذلك تحت ستار حاجة لبنان لمساعدات وقروض خارجية موعودة من صندوق النقد الدولي ومؤتمر سيدر.
إنّ الحكومة الجديدة سوف تنفّذ التحرير الكامل لسعر الصرف، وتوقف دعم السلع الحيوية كالقمح والمحروقات والأدوية، كما أنها ستزيد الضرائب غبر المباشرة (ضريبة القيمة المضافة) وتعريفات الخدمات العامة الأساسية (الكهرباء)، وتقلّص عطاءات أنظمة التقاعد والتقديمات الاجتماعية، وتبيع ما تبقى من مؤسسات عامة لصالح المصارف والقطاع الخاص المحلي والخارجي. كما يرجّح أن تصرف النظر عن استرداد المال العام المنهوب وفرض الضريبة التصاعدية على أصحاب الريوع والارباح والثروات الكبيرة وعن تحميل الخسائر للفئات التي حققت الثروات الطائلة ونهبت المال العام والخاص. كذلك سوف تتغاضى عن حماية القوّة الشرائية للرواتب والأجور وعن توفير التغطية الصحية الشاملة - وبخاصة في مواجهة الانتشار المخيف للكورونا - والتعليم المجاني الجيّد والنقل العام والسكن الشعبي، وهذه كلّها أهداف ملحّة ومشروعة لن تتحقق الاّ بحكومة وطنية انتقالية ذات صلاحيات استثنائية من خارج المنظومة الحاكمة.
وتحضيراً للمواجهات المرتقبة، نجد أنفسنا اليوم مؤتمنين على التصدّي لمهمتين اساسيتين: المهمة الأولى هي المساهمة في بناء التحالف الاجتماعي مع شركاء وحلفاء وقوى سياسية وتجمعات وفئات وشرائح اجتماعية وشعبية وعمالية نقابية وبلدية، ممن دفع ولا يزال ثمن الانهيار المالي، ونحن نعوّل أهمية كبرى على هذه المهمة. فالتحالف الاجتماعي يشكّل في خطتنا السياسية أحد الأركان الأساسية لبناء الائتلاف الوطني الواسع الحامل لبرنامج التغيير والقادر على تغيير موازين القوى في المرحلة الانتقالية.

أما المهمّة الثانية، فهي ترتبط بعدم وجود أيّ امكانية لتحقيق التطور الطبيعي للبنان وإخراجه من الأزمات والكوارث المتلاحقة الا بتحرّره الوطني والاجتماعي من كلّ من الإمبريالية والرأسمالية التابعة، وهاتان المعركتان هما قضية واحدة لا تتجزأ: التحرر الوطني والاجتماعي من الوصايات الأجنبية وتهديدات اساطيلها وضغوطاتها المالية والاقتصادية، والانعتاق من النظام السياسي التبعي ومنظومته السياسية المرتهنة والفاسدة.
إنّ هذا الدرب هو الذي مشى عليه حزبنا وكتب فيه تاريخاً مجيداً وصفحات مشرقة بدماء شهدائه، فكان من ضمنهم المقاوم بالسلاح الذي حقّق انجازات ضد الاحتلال الصهيوني ومشاريع التقسيم والأحلاف العسكرية، كما كان من ضمنهم أيضاً العامل الكادح والنقابي الذي قاوم الاستغلال الطبقي والاجتماعي وحقق مكاسب هامة للطبقة العاملة وسائر الأجراء والموظفين، بمن فيهم المعلمين والمثقفين.
اليوم لم يعد للفقراء ما يخسرونه، بعدما خسروا كل شيء. خسروا فرصة العمل ولقمة العيش وسقف البيت والمدرسة والأمان الصحي. وما من شيء يعوّض كل هذه الخسائر إلّا الإطاحة بهذه المنظومة الفاسدة. وبقدر ما تعي الطبقة العاملة وسائر الفئات الشبابية والطلابية والمهنية والعاطلين عن العمل مصالحهم، بقدر ما نتمكن من تحويل الانتفاضة إلى ثورة وطنية ديمقراطية ترسي أسس الدولة الوطنية والديمقراطية وتقطع الطريق على أخذ الفقراء إلى الإحباط واليأس والهجرة والخضوع لثقافة التعصب والاستتباع، مما يسهّل جرّ الانتفاضة إلى فوضى وصدامات مذهبية تخدم المصالح المشتركة للإمبريالية والرأسمالية المحلية التابعة لها.
إن احتفالنا بالذكرى الثامنة والثلاثين لانطلاقة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية هو حافز لنا لإعادة استنهاض الهمم والطاقات والقدرات الشعبية من أجل تحرير بلدنا من القوى الطائفية والطبقية والتدخلات الأجنبية التي أودت به إلى الانهيار والخراب، مع قناعتنا المترسّخة بأن عملية التحرير هذه لن تتحقّق إلّا بفرض الانتقال من الدولة الطائفية البائسة إلى الدولة الوطنية الديمقراطية، وتبقى جمول طريقنا وعقدنا المتجدد دوماً.

 *أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني