رضوان حمزة: صوت الشعب (إلى داريو وفرانكا)

ضابط مع مجموعة من الجنوب، يقومون بدوريات في بلاد الجن. هكذا ، ظهر رضوان حمزة وهو يقفز من موسم حصاد إلى موسم حصاد آخر. صحيح، أنه درب نفسه وسلحها بصوت الشعب، حتى وضع وقدة نارها بيده، غير أنه لم يقف على حدودها. لأن هذا الفتى من يشبه اسبوعاً في يوم واحد، آمن بأن ثمة ما هو منسي في ممالك الإقطاعيين المنتشرة على مفارق البلاد، بحيث نذر نفسه وذاته وروحه، النفس غير الروح، لكي يغير في مسارات هؤلاء وهم يراقبون الجدران المصفحة بينهم وبين الآخرين، بينهم وبين من أقام الجدران بينهم.

معارف وسماسرة وقوادون، قادوا الحرب وهاهم يقودون السلام. رضوان، من فكر بالنضال دوماً، يعلم أن السلام ليس سلاماً، لأنه لم يجئ لا من انتصار ولا من إخفاق. شرط قيام السلام أن تنتصر أو تنهزم، أن تخفق. دخل اللبنانيون السلام بدون انتصار وبدون اخفاق، حين وجدوا أنفسهم على صف الهواء وهم مصفوفون كالهواء، بلا نصر ولا هزيمة. لأنهم لم يتعلموا من ثورات العالم، أن الثورة مسار لا ينتهي لا ثورة يقودها أبطالها وهم يتمتعون بكامل امراضهم العصبية أو أمراض شيخوختهم. لم يقم صلحه مع الأوضاع جراء الأمر، بالتذكر المستدام لمجموعات الشهداء والجرحى والمعوقين، من خرجوا من الحرب بلا روح أو بقدم واحدة أو بعين لا ازال تبحث عن الأخرى أو بوجع مقيم، يذكر برماة المدفعية ومن قادوا الدبابات والمصفحات والمجنزرات من كمب إلى آخر. 

وجد رضوان مقتولاً لا ميتاً على تجاربه وهو يحاول أن لا يكرر الأخطاء نفسها. مدرب، ما اراد سوى أن يتسلح، ليكتب رسالة تساعد الآخرين بمهماتهم بالمسرح والسينما والإذاعة والتلفزيون والشعر والصحافة . قطعة أرضه، ارض العمليات  لا في فلسطين ولا في اليونان  قطعة ارضه مساحة من معارف وأنصار في صوت الشعب  مجموعات مقيمة في اقامته  لا تتسلل اليه  وهو يجلس في خراجه يقرأ أو يكتب أو يدرب أو ينظر ، وكأنه يجلس على الجهتين لا على جهة واحدة، يجلس في أحد سهول الجنوب أورلي سهل حوران. أطال الإقامة في الإذاعة، وكأنه يقيم على بوابة المالكية ينتظر الإشارة لبدء الرحلة إلى الجليل أو الناصرة. قوة غريبة، طاقة غريبة، انشراح طويل على اغصان الفاقوع، يركب الأفكار ويستحم في البرامج وهو ينتظر الإصطدام في المحاولة الأولى أو المحاولة الثانية. لن يرد، إلا إذا جرى الكلام على مصالح الناس وقيادتهم إلى تطويقهم. لا يرد إلا بالكلام المنمنم، وكأنه يلعب دوراً بارزاً في تهدئة الأوضاع المتفجرة. هذه حركة مقاومته للوقت. أن يتميز بمسلكياته، بحيث يظهر على قدر عالٍ من الوعي والمسؤولية. عنده ما عنده، عنده أن يتوافد تباعاً إلى الإذاعة لا دفعة واحدة. ينام في النهار وكأنه أحد فدائيي العرقوب القدامى ويستيقظ حين يتحضر الناس للنوم، إلا أنه لا يلتقي أحداً، لا يلتقي الأجساد ولا يتلقى الأصوات إلا حين يمضي الناس إلى التبضع في الأحلام والمنامات. لايهاتف أحداً إلا على مواعيده المتأخرة، كقائد تركه جواده في ساحة المعركة. كأنه يريد أن يمنع الجماهير من الوصول إليه وهو على تاريخه الوطني والإجتماعي والأدبي والسياسي. هذا رضوان في خياره، يختبئ في شجرة صوت الشعب  لكي يطلع منها عند آخر الليل كما تطلع الشمس عند أول النهار. 

ستكتشف بالنهاية إنه من مجموعات اعداد الداخل المؤثرين. عضو في اللجنة المركزية بالحزب الشيوعي اللبناني، ذو مهام ومسؤوليات على طرقات المجموعات وفي دواخل خطوطها . لم يتكلم مرة على مسؤولياته، لا بالمبالغة ولا على عجل. لم يقدم حجة واهية في مناسبة أو زمن، ولو بدا مستطلعاً كلما حل بين الرفاق والزملاء والأصدقاء. رضوان، تلتفت المعارف اليه كما يلتفت اليها. لم أبح له برأس جبل الكلام عندي، اذ وجدته يميل إلى أن يلاحقه المخبرون بسياراتهم داخل مكاتب صوت الشعب، بطوابقها الأرضية وما دون الأرضية. لا تظاهرة ولا مجاهرة. تنظيم كمائن، نأخذها بالضحك إلى العب. 

رضوان صحابي الإذاعة، صحابي المسرح . رضوان الشاعر، شاعر لا أهله ولا قراه. شاعر نفسه، شاعر لنفسه. هدده الأمر بشعره وحل مشكلته مع الشعر. الشعر شعره لا مكتسبه، المسرح، الإذاعة إذاعته. هكذا، راح يظهر كمجموعات إذا ظهر. ذلك أن خفاء رضوان اليته، يختفي بالخفاء وهو يترك مزارعيه خلفه، حتى وصول المواسم إلى نجدة الناس بالقطاف. لا يبرم الرجل النحيل اتفاقيات. ما يمتلكه هو الإيعاز. واذا أوعز وفى ، بالترحيب والحمل في الفؤاد لا على الأكتاف. عند حمزة الإذاعة، أن الحزب محشور وأن الحزب لا يحشر. ولأنه لا يزال يتلقى الضربات المؤلمة على رأسه، وجب الحفاظ على كادراته وزيادة الكادرات. ثم، لم الشمل واستئناف المهمات بعد استشهاد من استشهد وجرح من جُرح، وانسحاب من انسحب بعيداً من زخات رصاص المقاومين. رضوان رجلٌ شجاع لا يستعرض معركة، حين يخوضها من وجهة نظره. وهي وجهة نظر شخصية، خاصة، لم يأتِ عليها احد من قادة الحزب ولا من حضر بالحزب من غير القادة.

يعرف من يعرف أن رضوان يعرف بأن للعمليات الوهمية، قدرة العمليات اللاوهمية على تأهيل المحازبين. لا يريد تعزيز المواقف بالأمر. ما يريده أن يبدي التعاطف، وأن يخرج من الإذاعة ليعود اليها كما يخرج من قريته ليعود اليها. الإذاعة مكانها الطبيعي. الإذاعة طبيعته، التحفها على مدى سنين، وهو يركض بين الإستديوهات وكأنه يسمع رصاصاً بين عيناتا وبنت جبيل. اذاك تأخذه الحيرة، يوزع السلاح أن يفتح الهواء لكي يلاحظ الناس اطلاق الرصاص في هذه الليلة الكبيرة، في هذا الحدث الكبير. سوف يفشل تقدماً اسرائيلياً بالستديو رقم ٣، وسوف يعصف بالأفكار ( جيش الإنقاذ ) وهو يصارح نفسه بالقصد من وراء اطلاق النار، بالقصد من وراء العملية. إنه في مكتبه ولاية ضاقت على مدينتها. ولطالما استغربت أن يتقاسم وشقيقه شوقي الواح صابون واكياس تفريك الجسد بالمسرح . اخوان في مسرح واحد ، في مسرحين، على منصة واحدة أو على منصتين، بلا ملامح شبه. رضوان ذهبي، شوقي فحمي، يعملان مع يعقوب الشدراوي أحدٍ ابرز علامات الهوية المدينة التاريخية. ثم، يقدمان أعمالاً مصلحية، محافظة إلا أنها غير مداهنة. إنهما ولدا طعم مملكة المسرح الواسع. امبراطورية مترامية الأطراف، امبراطورية فقيرة، تتواجه فيها القوافل من مختلف الأمصار لتُعرِّف بضائعها وتتركها وهي تتوجه في اهم الطرقات إلى العراق وبلاد فارس، ثم الهند واليابان والحجاز واليمن وعمان وعُمان ومصر وما يليها في افريقيا. ثم، حلب واسكندرونة المتوسط ومنها إلى كريت وجنوى والبندقية ومارسيليا وصولاً إلى مانشستر. لم ينافس الإذاعة سوى المسرح. الإذاعة دلالته، المسرح دلالته، لا يترك الإثنين على جسور الشغور. 

عند رضوان القدرة على أن يريك نفسه على سجادة طائرة أو في سفينة شراعية. رضوان الطريف، الظريف، الخفيف، ذو لحية الاغوات، يزخر بالطرائف. كأنه رف من رفوف قاعة تزخر بالطرائف، طرائف الجاحظ والقيشاني ورضوان الحمزاني، من بدا مقيماً في قاعة فخمة وراء مائدة تضم مالا يحصى من ألوان الطعام، وهو يشمر عن صحن مضروب بنصف قطعة لحم إلى حبة فاكهة لن تتلقمها الأفواه الشرهة، لأنها فاكهة للزينة. لن يؤذن شيء بالعشاء، إلا كأس يطربه ويطريه ويطويه على ما أكل وشرب بدون شبع من الأكل وبغدير من الثمالة. هذه من ضروبه. رضوان اقطاعة، يعيد الإنفتاح على الأحواض المدينية والفلاحية كل عصر، مذ يطأ أول الليل على أدراج صوت الشعب. 

انكشاري مغطى بدعم جمهور لا يدفعه إلى العدول عن مشاريعه. صحابي موحد للصحابيين والجماعات، لا يتحالف مع الأشراف ما يثير حفيظتهم وسعادته، ليقيم الهدن معهم، لكي لا يحاصروه ويمنعون الإتصال به وزيارته. هذا عالمه، عالم من خيال، يقيم فيه بالقلعة. قلعة تحت الأرض تطلق المدفعية نيرانها عليها وعلى المدينة، من ما يستلقي من قذائف خاطئة على الإذاعة. ثم، لا يتردد باصدار احكام الإعدام على من يقصفون مقره الحصن الحصين.

خرج رضوان على المدينة كخروج الولاة عليها. ولأنه ضد الاختلالات الاقتصادية والديمغرافية، أمضى عمره في منطقتي رأس النبع وزقاق البلاط. الأولى لولادة النفوذ والأخرى لولادة محصل الضرائب من أفندية المسرح وكل أصحاب الشوك في السينما والإذاعة والتلفزيون. ضبط المهن عنده لم يحتج إلى اعلانه احتياجاته واحتجاجاته بوسائل عنفية. ذلك أنه لا عنفي. يحضر اذا حضر، كهارب من جوائح متتالية من الجفاف والطاعون هكذا، خاض نزلاته في نقابة ممثلي المسرح والإذاعة والسينما والتلفزيون. خاضها وكأنه مبدع رسوم متحركة، لا مجال فيها للتجارب المؤلمة. بين المنطقتين، ينفجر بصمت كما ينفجر انتداب في دولة عميقة، لا تحكمها الحكومات المركزية. لم يرضَ بالأشياء والأدوات والأسماء. ما رغب الشيوعي، المتحرر المدافع عن الحريات في كافة الفضاءات الإجتماعية باسمه، اذ لم يبق ساكناً أمامه حين دعا الأصدقاء الى مناداته بمروان. مروان لا رضوان. لأنه وجد الإسم قطعة يمكن استبدالها. انتفاضة صغرى من انتفاضاته، حيث كلما انتفض دخل مدينة، على انقاض فريق أشرافها وجماعاتهم. الأجمل لدى رضوان ومروان، أنها لم يعبر عن مصالحه بتعبير تنظيمي أو بتعبير مفرد. عنده، المجد مجد جيل والخسران خسران جيل. هكذا، لم يتوزع على مقاربتين عبرتا عن مصلحتين متناقضتين، قد تضعه في آتون صراع دموي أو سلمي. تعبر عنه الجماعة كما يعبر عنها. لطالما حملت الواقعة هذه قوة ديمومتها على المنصات المسرحية وفي الاستديوهات التلفزيونية وبعمله المكتبي. ولكنه بالحيز الأخير، رجل لا بيروقراطي يصهر حضوره وراء المكتب باطار جديد كل يوم، حتى أضحى المكتب اطاره، مصارعه، بدون أن يظهر الصراع داخل انتفاضة او تصريح. لأنه أدرك بأن الأمر سوف يقوده إلى انقسام نفسه على نفسه في صراع مديني لن يكتب فيه الانتصار لأحد. 

شهد تاريخ رضوان في العقود الأخيرة سلسلة من التطورات. تزوج وأنجب. ثم أنه أوصل الزواج إلى غاياته بدون حاشية ولا حواشي ولا موسيقى ولا أعلام. لم تهدأ اجزاء من احواله الا بعد أن تزوج وانجب صبيين حصلوا ضرائب الأبوة بتولي احكام الوقائع الجديدة. صحيح أنه نسج شبكة من العلاقات، ولكنه بقي بعيداً من الولاءات وهو يقود التحالفات في نقابة الممثلين وفي نقابة الفنون البصرية. كأنه يخوض حرباً، اذ يتعلق الأمر بأمر حزبي، بروح الحروب الباردة. حروب استباقية، تجيء من امتلاك القدرة على الحركة والمبادرة. لن تعوقه حزم الشكاوى، ما دام يرى فيما يفعله نوعاً من انواع احياء القوة في كسر شوكة الرأسمال الوحشي. 

لنقل انه رجلٌ / كتلة ادار معارك وجد أن في ادراتها مصلحة كل من لا يربض في دوائر الأغنياء. لا صراع طبقي مع ذلك، في المعادلة السياسية. الصراع الطبقي يشرخ الصوت في النقابات وهو لا يريد حدوث شرخ. أما في الهوامش الأخرى، هو احد الأمثلة الصالحة على الدخول في كتلة والبقاء فيها، مذ ادى ادوراً في نزهة ريفية غير مرخص بها ليعقوب الشدراوي. لازمه مذاك، في جل اعماله. كما لازم سهام ناصر ورئيف كرم وعادل فاخوري. نقيب العاملين في المرئي والمسموع وأمين سر نقابة الممثلين، قدم اعمالاً لزياد الرحباني على المسرح وبالاذاعة، ووجد ببعض مسرحيات نبيل الأظن. اخرج اعمالاً، ابرزها رؤية لأحمد علي الزين ومصرع دون كيشوت عن نصوص لمحمد العبدالله والرسولة عن نص أنسي الحج. وقدم درامات اذاعية، أولها يا صبي يا ازعر يا لذيذ، ولا اخرها اسمع يا رضا وبيروت ٨٢. وجد الرجل في الباحات الداخلية لكبار المخرجين في لبنان. امتد كحريف في مجموعات من الأعمال التلفزيونية والسينمائية كغزل البنات لجوسلين صعب. دق دواوينه بتعديلاته البسيطة على القصيدة الدارجة. شيء بنيوي من التطور الطبيعي للقصيدة. إلا أن أجمل مقاماته هو نفسه، في عباءة جسده ما صنع له المرض اختراعاته، متى ولدت مات. وحين مات فض رضوان فصاحته للمرة الأخيرة، برحيل بعيد من متكاءات الشعر والفن. خمس سنوات على غيابه، وكأنه لا يزال ايلاً بالدغل ينتظر أن يبقى على قيد الحياة.