الصحة النفسية: مقاربة جذرية لمعاناة جماعية

شهد لبنان خلال العامين الماضيين سلسلة أزمات متداخلة، منها الانهيار المالي وصعود الدولار، وانتشار عنف الدولة والشرطة خلال انتفاضة أكتوبر، ووباء كوفيد - 19، وانفجار المرفأ في آب / أغسطس 2020، والأزمة الاجتماعية والاقتصادية المستمرة التي وصفت بأنها واحدة من الأسوأ في التاريخ منذ القرن التاسع عشر،

حيث يعيش 82٪ من السكان في فقر و74٪ تحت خط الفقر، وفقاً للإسكوا. مع استمرار تدهور المستوى المعيشي، تشير التقارير إلى تدهور الصحة النفسية العامة بالتوازي. أظهرت التقارير الأخيرة ارتفاع معدل الإصابة بالصدمات النفسية والتفكير في الانتحار، بالإضافة إلى زيادة تعاطي المخدرات كآلية للتكيف. على الرغم من أن عبء الصحة النفسية المتزايد عند الكثير من السكان هو نتاج الظروف الحالية، إلّا أن الخطاب السائد حول تدخلات الصحة النفسية لا يزال مرتبطاً بالرعاية الفردية، مثل العلاج النفسي أو حتى الأدوية. ولكن ما مدى فائدة الحلول الفردية لمشاكل الصحة النفسية الجماعية عندما يكون المصدر، في كثير من الحالات، مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالقضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على المستوى البنيوي؟ وكيف نتعامل مع هذه المعاناة الجماعية ونضمّها إلى نضالنا اليساري؟

 

الصحة النفسية والتنظيم السياسي

 

تفرض الظروف المادية في الواقع ضغوطاً كبيرة على جزءٍ كبير من السكان - الطبقة العاملة والفئات المهمّشة - لكن هناك نقطة أخرى يجب أن تُطرح على مجموعة معيّنة، على الرغم من عدم تجانسها: اليسار. لوحظت هذه التأثيرات في حالات مماثلة من فشل الثورات أو عدم اكتمالها، كما في مصر وتونس. على سبيل المثال، يتحدّث تقرير للـ BBC عن قتل الشاعر نضال غريبي لنفسه والأوضاع السياسية والاقتصادية في تونس بعد الثورة التي لعبت دوراً في ذلك. ويشير مسح في التقرير ذاته إلى أن 40 % من السكان في تونس يعانون من الإحباط. وعلى الصعيد المحلي، تتفاقم الأوضاع المادية المتدهورة بفعل الشعور العام بالهزيمة وخيبة الأمل، خاصة بعد ذروة انتفاضة 2019 مع حالات إنتحار العديد من الناشطين، وقد تجلّى ذلك بعدة أشكال:

"لديك بالفعل شعور بالاغتراب الموجود مسبقاً الذي يتأتّى مع كونك ضدّ النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي السائد. وهذا له تداعياته الخاصة على دوائرك الاجتماعية." حسب ما يقول جيمي، الناشط في إحدى التنظيمات المعارضة. "مع 17 تشرين الأول، فتحنا هذا المجال أمام حالة جماعية من التضامن مع أشخاص لا تعرفهم حتى ولكنك أصبحت تثق بهم. حتى لو لم يتم تأطير هذا الشعور بالانتماء ضمن منظمات، فإن حالة النشوة الجماعية ليست تفصيلاً، لكنها تحطّمت مما أوصلنا إلى وضع أسوأ من البداية ". ويضيف جيمي أنه مع فقدان الزخم، نما هذا الاغتراب أيضاً داخل مستوى المنظمات السياسية، سواء بالنسبة لمؤيّدي أو أعضاء تلك المنظمات. "يتحوّل الأمر إلى علاقة سامّة (toxic relationship) حيث تستثمر الطاقة في منظمات لا تمنحنا شيئاُ في مجال المراكمة التغييرية. كما تشعر أنك عالق لأنك، نفسياً، تشعر بضرورة التمسك بشيء حتى لا تعود إلى الدرجة الأولى من الاغتراب عن معظم المجتمع وعن القوة الجماعية التي كانت موجودة ". يردّد الناشط اليساري يوسف الشعور بالضياع وخيبة الأمل داخل التنظيمات نتيجة عدم وجود مشروع جماعي واضح للتغيير السياسي، ويقول "أصفه بغضب لأنني لا أرى إمكانية وجود طرح يجمع كلّ التيار المعارض".

بالإضافة إلى المستوى الشخصي/ الاجتماعي من حالة الاغتراب التي شعر بها الناشطون، كلٌّ في فقّاعته الخاصة مع فقدان الشعور بالتكافل والانتماء، نجد أيضاً مستوى سياسي لحالة الإحباط الناشئة: يواجه هؤلاء اليساريون أنفسهم أزمة وجودية مرتبطة بالإحساس بالفشل في مواجهة النظام. لم يكن هناك بديل ناضج بما فيه الكفاية، كانت النظرية مفقودة، وكان التطبيق العملي غير موجود.  إن هويتهم السياسية وقناعاتهم على المحك، مما يؤدّي إلى مزيد من التفرّد وتعميق المشاكل التي يمرّون بها.

 

تجذير الرعاية الذاتية والجماعية

 

"أتذكّر أحياناً 17 تشرين وأشعر بالحنين، لكن في أغلب الأحيان أشعر بالخسارة والغباء والاغتراب. أضحك على نفسي، كيف بلحظة، كان عندي أمل". ترى الناشطة اليسارية خلود بأن مشاعر الانتماء إلى الشارع والمدينة، والأمل بحياة تشبهنا، التي ولدت بانتفاضة 17 تشرين تبدّدت، وعاد الرفاق كلٌّ إلى عمله ومعالجه النفسي. فقدت الأمل بأي مستقبل يشبهها في لبنان أو الخارج. ولكن مقاربة حالات الاكتئاب والشعور بالهزيمة الناشئة بعد فشل الانتفاضة، ليس بالضرورة أن تكون من منطلق فردي. في الواقع، تشارك خلود تجربة في الرعاية الذاتية ضمن "لجنة الحب"، وهي منظمة نسوية في الانتفاضة. كان دور هذه اللجنة العمل على الرعاية المجتمعيّة بأعضاء المنظمة في ظلّ كلّ الأحداث التي كانت تجري "الجميل بالموضوع أنه حتى حين لم يكن الواقع كما نريد، كنّا مع بعض ونعتني ببعض". 

عمل خلود كغيرها من الرفاق يسلك نفس المسار التاريخي للرعاية الذاتية كفعل جذري وأداة ثورية تهدف إلى دعمنا في نضالنا. قام حزب الفهود السود (Black Panthers)، بالترويج لفكرة الرعاية الذاتية الراديكالية لأول مرة خلال حركات الحقوق المدنية في الستينيات من القرن الماضي في الولايات المتحدة الأميركية، كوسيلة لمواجهة الإرهاق الذي يواجهه الناشطون في عملهم السياسي. الرعاية الذاتية لها أيضاً جذور عميقة في الحركات النسوية، حيث يتم تأطيرها على أنها فعل مقاومة وحفاظ على الذات، لا بل "عمل من أعمال الحرب السياسية" كما وصفتها الناشطة النسوية أودري لورد.

تروي خلود كيف أن "لجنة الحبّ حلّ محلها معالجة تساعدني على كيفية التعامل مع مشاعر سببها مشاكل خارجة عن إرادتي"، فتم استبدال الرعاية الجماعية الجذرية مرة أخرى برعاية فردية منفصلة عن الواقع.

توضح لنا الدروس المستفادة من نضالات التحرّر عبر التاريخ أنه من خلال تبنّي الرعاية الذاتية والجماعية كعمل جذري، يمكننا إعادة صياغة سعينا للصحة النفسية بعيداً عن فكرة "التحسن من أجل التحسن". هذا مهم بشكل خاص لأنه في أوقات الأزمات وعدم اليقين مثل هذه، غالباُ ما يكون من الصعب رؤية الغرض من السعي وراء الرعاية من أجل الحفاظ على الإنتاجية أو علاقاتنا أو عملنا السياسي. من خلال إعادة صياغة الهدف من الرعاية الذاتية والجماعية كأداة لمواصلة النضال، فإننا نعترف بالضرورة بالأصول الاجتماعية والمادية والسياسية للمعاناة الاجتماعية، ونصبح مرتبطين ببعضنا البعض سعياً وراء التنظيم والنضال من أجل التغيير. عند التنظيم ضمن اليسار، يمكن لثقافة الرعاية الذاتية الراديكالية أن تزيل الضغط والعزلة التي يشعر بها رفاقنا عندما يضطرون إلى الابتعاد قليلاً عن التنظيم، كما أن تأطير هذه الرعاية الذاتية من حيث العمل السياسي الراديكالي يمكن أن يخفّف الشعور بالذنب والعزلة. وهذا مطلوب بشكل خاص في الحالات التي تتفاقم فيها المعاناة الجماعية بسبب الإغتراب الناتج عن خيبة الأمل السياسية.

 

ما العمل؟

 

للمضي قُدٌماً في عملنا السياسي، من الضروري أن نفهم أن السعي وراء الصحة النفسية لا يعني بالضرورة الانفصال عن النضال. على العكس من ذلك، أظهرت لنا الدروس المستفادة من تاريخ حركات التحرّر، كما تجاربنا بالتكافل في الانتفاضة، أن تعزيز الصحة النفسية عمل جذري وثوري. يتحدّث يوسف عن تبديد الانتفاضة لأوهام واقعنا اليومي، فتتظهّر معها إمكانياتنا الجماعية بالتغيير، ما يخلق إحساساً بالقوّة والأمل عند الأفراد. حالة اليأس والعزلة التي كانت طاغية تختفي ببساطة باحتكاكنا اليومي بغرباء نتشارك معهم الأحلام والأمال، فتمسي الانتفاضة جزءاً من عملية التعافي. بالنسبة للكثيرين منّا، تنبع مشكلات الصحة النفسية لدينا من أسباب جماعية مشتركة، ومن خلال فهم ذلك، يمكننا أن نبدأ في تركيز عملنا كمنظّمين على التخفيف من بعض الأسباب المادية للمعاناة: على سبيل المثال، بناء وتوسيع شبكات العون المتبادل، وتعزيز ثقافة الفكر الجماعي، وتعزيز الرعاية الذاتية الراديكالية. والأهم من ذلك، أن التركيز الداخلي في عملنا اليساري/ السياسي على العمل الجماعي يمكن أن يعالج أيضاً سبباً آخر للعزلة والضيق وخيبة الأمل: الركود السياسي. وبهذه الطريقة، يمكننا توجيه عملنا السياسي نحو دعم رفاقنا، ومن خلال القيام بذلك، معالجة الفجوة العميقة في العمل السياسي.