سلطات القلق

يمرّ الوقت دون هوادة، أفكار الغضب تسيطر على واقع يمسي دون إنذار مستقبلاً. دقائق، ساعات، أيام، وسنون مرت، ولا طريقَ لتهدأ العاصفة. يجتاح القلق الأفراد والمجموعات، يجتمعون حول أسئلة عن مصيرهم ومستقبل أولادهم، أمنهم وأمانهم.

ومع سيطرة الفردانية على نمط إنتاجنا وسلكونا، ستنسحب حكماً على صحتنا النفسية، على اعتبار أن الفرد مسؤول عن تطوير ذاته، وحل مشاكله وماهية قدرته على التعامل مع قلقه أو مرضه النفسي. وعليه ينبع القلق من الإنسان نفسه، في عملية تبرئة تامّة لدور الأنظمة في تمهيد أرضية لواقع نفسي سيّئ مؤسس وممنهج. يقع على الفرد عاتق البحث عن نمط حياة يجعله يشعر بتحسن، رغم كل ما يتطلبه هذا النمط من تكلفة واستهلاك.

غالباً ما يتم معالجة المشاكل النفسية باتباع علاج مع طبيب أو معالج نفسي، وأحياناً بمساعدة أدوية لتصحيح الاختلالات الكيميائية. لكن إلى أي مدى يؤدي العلاج الفردي إلى الشفاء؟ خاصة أن الكرب والمأساة والوحدة هي من نسيج النظام الاجتماعي. فالظروف الاجتماعية التي تتشكل من المحيط المادي والخلفية الاقتصادية - الاجتماعية والمعتقدات والموروثات الاجتماعية، تؤثر بشكل مباشر في صحتنا النفسية.

يشرح الطبيب النفسي بيدرا أوغرادي أن مصطلح "قلق" يستخدم حين لا يكون الخطر مباشرًا أو غير محدد، إنه خوف لكن باسم مختلف، في وقت يكون الخوف مكوّناً أساسيّاً للمعاناة والكرب. من هنا يمكن فهم الرابط بين الواقع الاقتصادي – السياسي والصحة النفسية. هذا ما تقوم به الرأسمالية، إذ تنظر إلى الناس كأفراد معزولين عن محيطهم، يعيشون في دوامة من قلق وانعدام الأمان.

 

القلق سمة رأسمالية

تقوم النيوليبرالية على خصخصة القطاعات العامة، واتباع ميزانيات تقشفية، تؤدي إلى فقدان أمل جماعي وانتشار القلق، كما ترتكز على مفاهيم فلسفية تروّج للمصلحة الفردية والمنافسة ورفض التعاون. وعليه بات نمط الحياة مأطراً على شكل السوق. وبحسب الأيديولوجيا الحاكمة، تتحدد قيمتنا وفق مستوانا الاقتصادي. وعليه فالعاطلون عن العمل معرضون أكثر من غيرهم للاكتئاب. من هنا يعمل كل فرد على حدةٍ لتقديم أفضل صورة عن نفسه، ليتمكن من بيع اسمه، فيحرص على تجديد سيرته الذاتية، أو حتى تشكيل صورة اجتماعية "مثالية" عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

هذه ليست أفعال إنسان في حالته الطبيعية، بل لمخلوق يصمم نفسه على غرار الشركة الرأسمالية، التي تتأسس وفق العديد من السمات التي يتم تشخيصها كمرض نفسي، من التلاعب، والتأثير السطحي، والافتقار إلى الأهداف طويلة المدى، والنفور من المسؤولية، فإذا واجهنا شخصاً يسعى فقط وراء المصلحة الذاتية، سيتم اعتباره مضطرباً عقلياً. ولكن، بشكل منتشر ومتفاقم، هذا ما نقوم به بالضبط.

في المخطوطات الاقتصادية والفلسفية (1844) ونصوص أخرى، أظهر كارل ماركس أن اللامعنى والعزلة في الحياة الحديثة تنضبان في العلاقات الاقتصادية الرأسمالية. إذ إن الحرفي، ما قبل الحقبة الصناعية، وصانع الأحذية، والخباز، والخياط، الذين لا يعملون لصالح الرأسمالي، ولكن من أجل أنفسهم، يحتفظون بهذا المنتج المستقل ويتحكمون بعملهم والعملية الإبداعية بأكملها، بحيث يكون منتجهم شيئاً يفخرون به. كذلك يشعرون بالرضا لرؤية منتجاتهم تذهب للاستخدام الفوري، وتلبية لحاجات الإنسان. وخلص ماركس إلى أن "منتجاتنا ستكون عبارة عن مرايا كثيرة رأينا فيها انعكاساً لطبيعتنا الأساسية". سابقاً كان  العمل نقطة للفرح والمعنى والترابط الإنساني. بدوره اعتبر ايريك فروم أن الوسيلة الأساسية التي يمكن للأفراد من خلالها التعبير عن الانتماء هي العمل الإبداعي.

هذا ليس الواقع في ظل الرأسمالية. فعندما يكدح المرء في المصنع أو المكتب مقابل أجر، يصبح العامل سلعة قابلة للاستبدال، فيفعل ما يطلبه رئيسه. نتيجة لذلك، لا يُستخدم العمل كمتنفس للتعبير الإبداعي عن الذات، ولا لتلبية احتياجات إخواننا من البشر، بل لتحقيق الربح. وعليه "إن نشاط العامل ليس نشاطه العفوي. إنه ينتمي إلى شخص آخر. إنه خسارة لنفسه"، يقول ماركس.

وأيضًا، يؤكد فروم أن المجتمع الرأسمالي لا يتوافق مع الطبيعة البشرية، وأنه يمكن التمييز بين المجتمعات بشكل يفضي إلى تلبية احتياجات الإنسان. ناهيك بأن تأثير البنية الفوقية الاجتماعية على الصحة العقلية للأفراد هو تفاقم الاغتراب، والذي يتمظهر بالقلق الذي يعتبر من الأعراض المقبولة في المجتمع الرأسمالي لأنه يحفز على العمل والربح.

 

فردانية العلاج

يركز العلاج النفسي الفردي على الأعراض عوضاً عن الأسباب، وينتهي به الأمر بالترويج للمسكنات وليس العلاج. فتقوم الفرضية على أن الموضوع "مريض"، وبالتالي يحتاج إلى إصلاح، سواء عن طريق الأدوية أو التعديلات في نمط الحياة أو تغيير عقلية الفرد في النهاية.

واحدة من آليات التأقلم هي خلق روتين يومي، يرتكز بشكلٍ أساسي على نمط حياة صحي ونظام غدائي وممارسة الرياضة أو التأمل أو اليوغا. هذا الترف من الحلول لا تستطيع الفئات المهمشة تحمل تكلفته، فكيف الحال في بلد يعيش أزمة اقتصادية حادة، تلغي إمكانية الاختيار بين الوجبات، ونظام عدو للشعب والدولة، عمل على قتل الحياة والمساحات العامة، فلم يعد أمام المواطنين، سكان المدن تحديداً، أي مساحة للسير أو الركض لإخراج ما يعانونه يومياً من قلق وغضب؟ الانهيار يفرض العنف الاجتماعي، وبات الخطر من السرقة والقتل والمواجهات مرافقاً ليومياتنا. كذلك، تفرض الأزمة العمل لساعات طويلة، على أمل اللحاق بسرعة ارتفاع الأسعار، مما يجعل فكرة الروتين صعبة المنال، ليفقد الجسد القدرة على الخضوع لشروط الانهيار العام، فيشعر الفرد بالتعب الدائم ورغبة في الانزواء، ولن ينجز العمل المطلوب. هذه طريقة الجسد في قول "لا"، في رفض واقع مقلِق وضاغط.

 

القلق كآلية سيطرة

تشكل الأحداث الدموية صدمات اجتماعية عززت شعور فقدان الأمان والقدرة على التحكم بالمصير، الذي يجعل الأفراد يلجؤون غالباً إلى الدين والصلاة كتعزية لأنفسهم، فالأجوبة قد فُقدَت في هذا الواقع الدموي. وبحسب منظمة الصحة العالمية، إن معدّل انتشار الاضطرابات النفسية في أوساط السكان المتضرّرين من النزاعات عند أي نقطة زمنية محدّدة، يقدّر بنحو 13% فيما يخصّ الأشكال المعتدلة للاكتئاب والقلق واضطراب الكرب التالي للرضح، ونحو 4% للأشكال المعتدلة من هذه الاضطرابات. ويقدّر معدّل الانتشار المحدّد للاضطرابات الشديدة، أي الفُصام، والاضطراب الثنائي القطب، والاكتئاب الشديد، والقلق الشديد، واضطراب الكرب الشديد التالي للرضح، بنحو 5%. وتشير التقديرات إلى أنّ من المرجّح أن يصاب واحد من كل 11 شخصاً (9%) ممن يعيشون في أماكن تضرّرت من النزاعات في الأعوام العشرة الماضية باضطراب نفسيّ معتدل أو شديد.   

التعامل مع القلق كحالة فردية يلغي العمق السياسي وجذر المشكلة، وليس مفاجئاً ارتفاع نسبة القلق في العالم، وهو ليس نتيجة النظام السياسي / الاقتصادي الذي نعيش فيه، بل أحد الشروط المسبقة المشكلة له. فمن دون القلق لا يمكن للعالم أن يسير بالطريقة التي يسير بها. في ظروف بلد "عادي" يرتكز نمط حياة الافراد على البحث عن العمل، ولاحقاً العمل لساعات طويلة وتسديد مصاريف وقروض، مع ما يرافقهم من قلق دائم حيال تأمين الإيجار، والطعام، والعلم، والنقل. ناهيك بالدول التي تعيش في دوامة حروب واقتتال داخلي. ويشعر الناس أن هذا النمط عادي  ومقبول، وذلك يعود لارتفاع نسبة الشك والريبة حيال واقعهم، وهذا الشك هو جزء أساسي من القلق حول ما ستؤول اليه حياتهم. وهي آلية لتنظيم المجتمع، أحياناً تستخدمها الحكومات، وأحياناً تكون موجودة للتحكم فينا كموضوع سياسي، ونحن لا نقاوم هذه الممارسات التي نعلم أنها سيئة للغاية.

سلطات القلق تخلق في جوفها حالة رفض للواقع، ويتمظهر على شكل حركات احتجاجية وانتفاضات، ومحاولات لتغيير العالم. وعليه حالة القمع هذه يمكن أن تتحول الى حالة رفض. فكما يرفض الجسد في حالة القلق الشديد القيام بما يفرض على الفرد، ينتفض الناس في حالات الضغط الشديدة لما يُفرض عليهم. يؤسسون تعاونيات ومجموعات ضغط ودعم نفسي، فكل ما هو مقاوم للقلق ضروري، في تعبيرٍ مستمرّ عن رفض الاستسلام لسلطات القلق.