عن مهدي عامل وإليه

إذن هي ستة وثلاثون عاماً مضت على اغتيال مهدي بأيدي قاتله المعلوم المجهول في قلب بيروت الجريحة الصامدة، ستة وثلاثون عاماً من الغياب المر والحضور الذي لا ينقطع لأحد أنجب الماركسيين العرب عبر تاريخ الماركسية العربية كله ولعل اغتياله دليل إضافي على هذه الحقيقة التي تنتصب واضحة في مجمل مشروعه الفكري ودوره النضالي الذي تخطى حدود التنظير إلى الانخراط الحية في الممارسة الثورية عبر حزبه.

كنت بالكاد قد أتممت المرحلة الثانوية حين بدأ احتكاكي بالماركسية، عثرت بالصدفة أثناء البحث في مكتبة الوالد على كتاب يحمل عنوان "مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركات التحرر الوطني- القسم الأول، في التناقض" وأعلى العنوان اسم المؤلف: مهدي عامل. عزمت على قراءته، وبالنظر لحداثة عهدي بالماركسية، وجدتني لا أفهم شيئاً من الصفحات الأولى، طويت الكتاب محبطاً، لماذا يكتب هذا الرجل أشياءً تستعصي على فهمي. مرت سنوات، جرت مياهٌ كثيرة في أنهار كثيرة، دخل التاريخ الحديث للبنان في بؤرة تركيزي، عُدت إلى مهدي عامل لأكتشف أن لديه مفتاح فهم هذا التاريخ الحديث للبنان ولأكتشف أن تلك اللغة التي أحبطتني في الصبا، هي ما كشفت لي كيف تمكن قراءة التاريخ اللبناني الحديث.
لطالما كانت آفة الماركسيين العرب هي نقل الصيغ، ولطالما عجزوا أو ظنوا أنه يمكنهم الاكتفاء بالمقولات الماركسية العامة والقص واللصق من نصوص لا تحتمل، لكن ما جوبه به الماركسيين اللبنانيين هو هذا المظهر الذي اتخذته الرأسمالية في المجتمع اللبناني، المظهر الطائفي الذي استخدمته البرجوازية اللبنانية كتمويه لمصالحها، وهو المظهر النابع أساساً من مسلك الاستعمار الفرنسي الذي أراد من أجل حفظ مصالحه الطبقية تمويه البنية الطبقية للاستغلال. هذا المظهر لم يكن مما واجه الماركسيين الأوائل في بلاد المهد الماركسي ولا في روسيا لينين، إنها مسألة لبنانية تماماً بقدر ما هي ظاهرة تكتسب صفة القانون في إطار آلية عمل الرأسمالية وسعيها لتأبيد هيمنتها. وهنا تكمن عبقرية مهدي بالضبط حيث كمن مقتله أيضاً.
فلئن جوبهت الماركسية العربية بتحدي من قبل خصومها يزعم عدم صلاحيتها كأداة فهم وتغيير المجتمعات العربية، فإن مهدي كشف أن هذا التحدي هو برغم مظهره اللاطبقي واللاأيديولوجي، شديد الطبقية وشديد الأدلجة لأنه يستهدف بالضبط خلق أمر واقع وتثبيته بغية دفع الماركسية خارج الحلبة، لأنها المنهج الذي كشف أساساً وبرهن على تهافت الفرضية التي تقول بلا طبقية المجتمعات العربية أي بلا تاريخيتها، والتي في الحالة اللبنانية تعني أن الطائفية معطى ثابتاً وأمر واقع يجب الانطلاق منه، فلا طبقية المجتمعات العربية تعني لا تاريخيتها وهي بالتالي غير قابلة للتغيير فقد كانت كذلك وكذلك ستبقى.
إن المصالح الكامنة خلف هذه الفرضية هي مصالح البرجوازيات، أي هي مصالح طبقية، وهي لهذا مرتبطة بموقع هذه البرجوازيات في النظام العالمي، لنجد أن مهدي وهو يبحث في بنية النظام العالمي من موقع بلد طرفي يكتشف دور الطائفية في صيانة ليس فقط حكم البرجوازية في هذا البلد الطرفي بما يؤبد بقاءها، بل إنه يكتشف دور الطائفية في إبقاء هذا البلد طرفياً، أي دورها في حفظ مصالح النظام العالمي وضواري النهب.
إذن قام مشروع مهدي عامل الفكري على ساقين مرتبطتين، الطائفية ونمط الإنتاج الكولونيالي، وكان حرياً به أن يتوقع أنه إنما دخل بساقيه مناضلا في عش الدبابير. كان نقده ونقضه للفكر الطائفي في كتاب "مدخل إلى نقد الفكر الطائفي" قائماً على نقد مقولات ميشال شيحا الطائفية، إلا أن صدى الكتاب وما احتواه قد تجاوز الأوساط المسيحية لأنه كان يفتش عن جوهر الفرضية التي تبناها ليس فقط الانعزاليون الموارنة، بل أيضاً القوة الصاعدة الشيعية التي دمجت الطائفية برفع شعارات القتال ضد الصهاينة ليكتسب الجيتو الشيعي شرعيته في زمن كان الخط الفاصل بين معسكري الحرب الأهلية هو الموقف من الكيان الصهيوني والثورة الفلسطينية. إلا أن كشف مهدي عامل لارتباط القوى الساعية لتأبيد الطائفية بمصالح طبقية واضحة تمثل دعائم نمط الإنتاج الكولونيالي في بلاد الأطراف باعتباره الترس الأكبر في دولاب عمل الإمبريالية، كان يعني كشف التناقض بين رفع شعار القتال ضد الصهيونية وبين تأبيد الطائفية وهكذا اكتسب مهدي عداء جميع الطائفيين من جميع الطوائف لأنه تحديداً كشف انتماء أباطرة الجيتوهات الطائفية جميعاً إلى مصالح طبقية واحدة وهي المصالح التي عمد أيديولوجيوها الهجوم على الماركسية مدعين عدم أهليتها لتفسير تطور مجتمعات الشرق المتخلفة الطبقية، من الموارنة إلى الشيعة، أي كل البرجوازية اللبنانية.
وعليه جاء اغتيال مهدي ضرورة قصوى ضمن سلسلة من الاغتيالات استهدفت أنشط كوادر الحزب الشيوعي اللبناني، فمهدي كان خطراً بمقدار ما كان حزبه خطراً على الطائفية، لأنه ضرب كل العصافير بنفس الحجر، كشف صلاحية الماركسية بكشفه تاريخية المجتمع اللبناني عبر تناول مادي تاريخي للمجتمع اللبناني أي تناولاً باستخدام الماركسية، ولأنه بتحليله للطائفية قد كسر قاعدة النقل مدفوعاً بخصوصية الوضع اللبناني ليبرهن أنه حتى هذا التجلي الخاص لنمط الإنتاج الكولونيالي في شكله اللبناني الطائفي هو شكل تاريخي من أشكال الصراع الطبقي، وهو الشكل الذي مكَّن تلك البرجوازية اللبنانية المتمترسة طائفياً من الصمود في أهوال الحرب الأهلية والوصول لمحاصصة الطائف الطائفية برعاية النظام الإقليمي والدولي وهي العملية التي لم يكن ممكناً إتمامها إلا بنزع سلاح اليسار الماركسي اللبناني وخنق جمول وإسكات دماغ الحزب الشيوعي عبر سلسلة من الاغتيالات والمجازر تواطأ فيها الجميع ولو بالصمت، كان المطلوب ولازال هو القول بعدم صلاحية النموذج الماركسي في قراءة المجتمع اللبناني لأنها قراءة تنتج مشروعاً آخر لا طائفي أي لا رأسمالي. فمن غارة الصهاينة على مقر الحزب في الرميلة، إلى مجزرة الشيوعيين في طرابلس، إلى قطع الإمداد العسكري عن الحزب بمساعدة الشقيقة الكبرى وحلفائها الصاعدين بعد الثورة الإيرانية، إلى قائمة اغتيالات نوعية راح فيها بجانب مهدي عامل، عشرات الشهداء.
هكذا كان إسكات مهدي جزءاً من مخطط إسكات نقيض الطائفية كله، لكن التاريخ كان دوماً يبرهن على أن الأفكار خالدة حتى بزوال أصحابها، لذا فإننا نجد أن لعبة الكراسي الموسيقية داخل البرجوازية اللبنانية، صعود هذا الطرف وهبوط ذاك لا تؤثر في صحة تحليل مهدي بعد تدشين مشروعه الفكري بعشرات السنوات، يمكنك عبر كل مؤلَّف أن تدرك صوابية وسلامة هذا التحليل، وهو إذ يضع يديه منذ البدء على أن الأزمة العربية العامة هي أزمة ذاك النمط الكولونيالي في الإنتاج لا أزمة حضارة عربية في مواجهة حضارة غربية بل نمطاً إنتاجياً يتموضع في قلب ماكينة الإمبريالية العالمية تدور به ويدور بها، فإنه ينطلق من هذا التعميم على المستوى العربي إلى التخصيص على حالة لبنانية لا تشذ عن القوانين الاجتماعية حتى باتخاذها شكلاً شديد التخلف هو الكانتونات الطائفية التي لا يضعها في مواجهة بعضها البعض بل إن تلك الكانتونات جدلياً هي القلعة أو الجيتو الذي يحمي مصالح البرجوازية اللبنانية ككل، برجوازية المصارف واقتصاد الترانزيت.
هذا الوضوح في رؤية الأشياء، هو ما يمكننا من فهم لبنان اليوم بالاستعانة بترسانة مهدي عامل، هو المشرط الذي يشق سطح الظواهر لينفذ لعمقها فيمكننا من رؤية الأشياء كما هي لا كما تصدرها البرجوازية اللبنانية عبر ألف ميشال شيحا يتواجدون في كافة المعسكرات التي تبدو ظاهرياً متناحرة لكن التحليل العميق يكشف ترابطها على قاعدة هذا الاقتصاد الخدمي الريعي الذي أغرق لبنان في وحل البؤس الذي ينمو جنباً لجنب مع الترف والأبهة في قلاع شيوخ الطوائف. يمكننا بقراءة مهدي اليوم أن نفهم المجتمع اللبناني بعد وفاة الرجل بعشرات السنوات، أن نفهم هذا المجتمع كما هندسته القوى الإمبريالية وتابعيها البرجوازيين اللبنانيين ولعل تلك لم تكن النتيجة المبتغاة ممن أطلقوا الرصاص على مهدي عامل. لأن الرجل يكشفهم اليوم كما كشفهم بالأمس، ويفضح حقيقة كافة المواقف التي تاجرت بالقضية الفلسطينية واستخدمتها سلماً لصعودها الطبقي وسعيها لنيل حصتها من الكعكة اللبنانية، وبالترتيب على ذلك حصتها من النفوذ الإقليمي.
ثم أن راهنية مهدي عامل وقدرته المستمرة على كشف ما وراء التجاذبات السطحية تنبع من وتثبت راهنية الماركسية وقدرتها اللامحدودة على فك طلاسم الخطاب الذي يؤبد الطائفية في لبنان، والخطاب الذي يعتبرها قدراً لبنانياً والذي يعني أو يريد تصدير أن الرأسمالية بالتالي قدراً لا فكاك منه.
إن الحقيقة التي يجابهها القتلة المعلومين –القوى الطائفية الصاعدة آنذاك- المجهولين كأفراد هي أن القتيل لم يمت، ليس هذا من قبيل المبالغة، فيكفي أن تقرأ أياً من مؤلفاته التي بناها حجراً على حجر كإرثٍ تاريخي ونضالي وممارسة نظرية فهمت الماركسية كمرشد للعمل وكمنهج لا نصوص، يكفي أن تقرأ أياً مما أنتج كي تدرك تماماً أنه حيٌ فيما أنتج لأن التناقضات الاجتماعية اللبنانية والعربية التي فحصها وفضحها لازالت قائمة وتفعل فعلها وتجر إلى مركزها تلك القوى التي قتلته فتشدها شداً إلى هيكل الاقتصاد اللبناني النهاب التابع، في حين تنتج خطاباً أيديولوجياً يطمس طبقية الصراع وتاريخيته، ومن أسفٍ أن تاريخ الماركسية العربية لم ينتج سوى القلائل من أمثال مهدي عامل، ما يجعل خسارة فقده فادحة ويضفي على إنتاجه وممارسته تفرداً وأهمية لا تضاهى!
فسلاماً على مهدينا!

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 415
`


راجي مهدي