النضال ليس كلمة، بل أسلوب حياة

فكرة الانتماء لحزب عمره مئة عام تثير الرهبة والمسؤولية والعزة في نفوسنا، خاصة عند الكتابة بمناسبة مئويته. فمئة عامً من تاريخ الحزب الشيوعي اللبناني، من العمل النضالي والسياسي، تمثل رحلة مليئة بالانتصارات والانكسارات، مغمسة بالآمال والخيبات. لكن هذه اللحظة كانت مختلفة. إنها ليست فقط كتابة عن الحزب، بل هي استرجاع لعلاقة شكلت جزءًا من حياة أجيال متعاقبة. لقد عاش الشيوعي اللبناني ليس فقط كمناضل، بل كإنسان يحمل أحلام وطنية وقيم إنسانية عميقة. تلك العلاقة التي تتجاوز الكلمات، تمثل هويتنا، وأحلامنا، والتزامنا المستمر بالمقاومة والتغيير.

أذكر مدى تأثير الحزب في جيلنا، كيف حملنا فكره وقيمه كراية نعتز بها، ليس فقط في الساحات السياسية، بل في حياتنا اليومية. الحزب لم يكن مجرد تنظيم سياسي ننتظم فيه، بل كان عائلة ومدرسة لتشكيل عقولنا وتوجيه طاقاتنا، عائلة نلجأ إليها في لحظات القوة والضعف، عائلة تجمعنا تحت راية من المبادئ والقيم، تشدّ على أيادينا، وتشاركنا الأفراح والأحزان، وتدعونا للمضي قدمًا مهما كانت التحديات، وبيتًا يربينا على حب الوطن والإنسانية، يُعلمنا الصبر، ويغرس فينا الإرادة لمواجهة الصعاب.
من خلاله تعلمنا أن نكون حاضرين، مؤثرين، وقادرين على مواجهة التحديات. تسلحنا بالمعرفة العميقة والمعلومات الدقيقة، لكن الأهم أننا تسلحنا بأدوات التحليل العلمي، تلك الأدوات التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من طريقة تفكيرنا.
هذه الأدوات منحتنا القدرة على فهم الواقع، على استشراف المستقبل، وعلى التعامل مع تعقيدات الحياة السياسية والاجتماعية بوضوح وثقة. كنا ندخل أي نقاش، أي محطة نضالية، ونحن متمكنون من فرض حضورنا وتأثيرنا ليس بالقوة الجسدية أو الثرثرة الفارغة، بل بالمعرفة والإقناع، بفكرنا وثباتنا وثقافتنا التي صُقلت فينا على مدى سنوات من النضال والتعلم داخل الحزب. بالإضافة إلى كل ذلك، صقل الحزب فينا روح الوطنية والانتماء، وزرع في نفوسنا إحساسًا عميقًا بالمسؤولية. لم يكن مجرد تنظيم سياسي، بل حركة لتحرير العقول وبناء الأوطان. من خلال الحزب، شعرنا بأننا نحمل على عاتقنا حملًا ثقيلًا، مسؤولية جسيمة لمحاولة بناء وطن يتسع للجميع. فالوطن بالنسبة لنا ليس مجرد أرض نعيش عليها، بل حلم نسعى لتحقيقه. تعلمنا من تاريخ الحزب مفاهيم التضحية ونكران الذات، وكيف أن التفاني في العمل من أجل قضية أكبر من الفرد هو السبيل لتحقيق العدالة والكرامة.
كنا نستلهم تلك المفاهيم من الشهداء، من المناضلين الذين سبقونا في درب النضال، ومن تضحياتهم عرفنا أن بناء وطن يستحق كل جهد وكل تضحية. كانت فكرة الوطن بالنسبة لنا تحمل معاني التضامن والمساواة، وهذا ما دفعنا للعمل بكل طاقاتنا في مختلف المجالات، سواء في ساحات النضال أو في الحياة اليومية.
عمّق حزبنا شعورنا الوطني والإنساني لدرجة أننا، رغم كل ما عانيناه وما واجهناه من تحديات وصعوبات، لم نفقد يومًا حبنا لوطننا. على العكس، زادت معاناتنا من إصرارنا على التمسك بوطننا، وكبر حلمنا بالعودة إليه في ظروف أفضل، ظروف نساهم نحن في صنعها. فالوطن ليس مجرد فكرة أو مكان، بل جزءًا منا، من هويتنا ومن نضالنا المستمر.
واجهنا الظلم والحروب والتهجير، لكن الحزب زرع فينا قوة تجبرنا على أن نحول الألم إلى دافع للنضال، والإحباط إلى وقود لمزيد من العمل. لم نكره وطننا رغم كل ما مررنا به، بل أصبح حبنا له أكثر عمقًا وصدقًا. نعلم أن التحديات التي تواجهنا ليست سوى جزء من مسيرة طويلة نحو بناء وطن يليق بأحلامنا وتطلعاتنا. حلمنا دائمًا بالعودة إلى الوطن الذي نساهم في بنائه بعرقنا وتضحياتنا.
بالإضافة إلى ذلك، لتكوين حزبنا وتنوعه وانتشاره أثرٌ عميقٌ في تعريفنا بكل زوايا الوطن وربطنا بالمحيط العربي والدولي. عرفنا على القرى والمدن اللبنانية، من الشمال إلى الجنوب، من البقاع إلى الساحل، حتى أصبحنا نرى الوطن بعيون أوسع، نتلمس مشاكله وهمومه من كل زاوية، ونستمد قوتنا من هذا الاتصال المباشر، كما انخرطنا في العمل مع كل الفئات الاجتماعية في وطننا، من العمال إلى الموظفين، من الفلاحين إلى الحرفيين، ومن الأساتذة إلى المهنيين، ومن الشباب الى الطلاب... كان الحزب جسراً يجمع بين هذه الفئات المختلفة، يوحدهم في هدف واحد: من أجل وطن حر وشعب سعيد.
لم يقف الحزب عند حدود الوطن، بل ربطنا بشعوب العالم العربي والغربي وصولا حتى أميركا اللاتينية، حيث كنا دائمًا نجد رفاقنا أينما ذهبنا. كيف لا، وهو الحزب الذي ينتشر في كل أصقاع الأرض، حاملاً مبادئ التحرر والاشتراكية.
من خلال هذا الانتشار، أصبحنا جزءًا من حركة نضالية عالمية، نتعلم من تجارب الآخرين ونشاركهم في الدفاع عن قضاياهم ويشاركون في الدفاع عن قضايانا.
هذا الحزب الذي لطالما واءم بين أهدافه وعقيدته، وأثبت لنا أن الدولة الديمقراطية العادلة هي التي تحترم شعبها وتضحياته، تدافع عنه، توفر له تعليمًا رسميًا وجامعةً رسمية، تؤمن له طبابة وتكفل حقوقه في العمل والأمان والحياة الكريمة. هذا الحزب أظهر لنا أن المقاومة ليست فقط دفاعًا عن الأرض، بل ومحاربة الفساد في كل مظاهره، لأن الفساد يقوض قيم المقاومة ويشوه صورتها. هو الحزب الذي تحمّل بشجاعة شعار المقاومة والعدالة الاجتماعية، وصان استقلاليته ومصداقيته، حتى بغضته كل أحزاب النظام وبعض جماهيرها.
كان بإمكانه أن يسعى للانخراط في السلطة، ويقبض ثمن تضحياته، لكنه أبى أن يتخلى عن مبادئه، وظل حاملًا شعلة شهدائه، أسراه، جرحاه ومناضليه، وفاءً لذكراهم وإيمانًا برسالتهم. هذا الحزب، إن كُتب يومًا ما تاريخ حقيقي لهذا البلد، سيكون العنصر الأساسي في كل محطات الشرف والنضال.
واليوم، وبعد أن بلغ حزبنا المئة عام، ندرك أن مسيرته لم تكن مجرد تجربة سياسية عابرة، بل تاريخٌ محفور في وجدان أجيال وأملٌ متجدد لغدٍ أفضل. لم يكن الحزب يومًا عاجزًا أمام التحديات، ولم ينحنِ أمام الضغوط، بل ظل صامدًا كالصخرة، يحمل راية التغيير والتحرر، ثابتًا على مبادئه وقيمه التي ورثناها عن مناضليه الأوائل، ودفعنا ثمنها غاليًا. مؤمنين بشعاره الدائم منذ لحظة انتسابنا: لا نعدكم بالامتيازات، بل بالعمل الشاق.
في هذه المناسبة، ننظر إلى الماضي بفخر، ونستشرف المستقبل بعزيمة لا تلين. ندرك أننا لسنا مجرد أفرادٍ منضمين إلى حزبٍ عريق؛ بل نحن نتاج لمدرسة سياسية وفكرية نحتت فينا عمق الانتماء وشكّلت شخصياتنا. عبر هذا الحزب، تطورت مهاراتنا، واكتسبنا رؤى تتجاوز حدود الانقسامات وتحتضن الجميع. بالنسبة لأجيالنا المتعاقبة، لم يكن الحزب مجرد تنظيم، بل مصدر إلهام وراية ترفع في كل ساحة نضال، نستلهم منها قيم الصمود والوطنية الحقة.
إننا نعي جيدًا أن الحزب، على مدى مئة عام، لم يكن فقط منبرًا للنضال، بل كان حاضنًا لأفكارنا وتطلعاتنا، ومصدرًا لقوتنا. إن ما وصلنا إليه من فهم عميق للقيم الوطنية والإنسانية هو بفضل انتمائنا الى هذا الحزب الذي يذكّرنا بأن النضال ليس مجرّد كلمة، بل أسلوب حياة نحمله معنا في كل مكان وكل زمان.

  • العدد رقم: 426
`


المحامي مازن حطيط