سنة على رحيل المناضل الشيوعي صلاح سعيد *

 
في لقائنا بمرور سنة على رحيل الرفيق  والصديق العزيز صلاح سعيد، أجد أنه من الصعب الإحاطة بشخصيته الزاخرة بالكفاءة والغنى الثقافي والفكري والأدبي، وبحياته النضالية. من الصعب إيفاؤه حقّه في مداخلة أو خطاب. عرفته منذ أوائل السبعينيّات، وبقيت في علاقة رفاقية وودية وثيقة به، حتى وفاته. شخصيته تتّسم بالرصانة  والعقلانية، وبالاهتمام بالشأنين الثقافي والاجتماعي.. وإلى جانب الطابع المحبّب لأحاديثه ومجالسته، تميّز بالجمع بين المرونة في الأسلوب، والصلابة في المبدأ والموقف.. واحتلّ، بصفاته وقيمه الأخلاقية، مكانةً مرموقة في المجتمع، جعلته وجهاً بارزاً معروفاً بالاندفاع للصلاح وإحلال التوافق بين مختلفين.
لقد جسّد صلاح في حياته الاجتماعية وقيمه الوطنية والنضالية، وفي شجاعته، الأصالة والقيم التي تربّى عليها في عائلته وبلدته العزيزة صليما، وفي حزبه الشيوعي. فلم يقف على رصيف الحياة متفرّجاً أو صامتاً على الظلم، وما يحدث في بلده، ولا لاهثاً وراء جمع المال والتسكّع للحصول على منفعة شخصية. فقد رأى أن الخلل والتناقض السائد في بلدنا، والظلم الاجتماعي في مجتمعنا، ليسا قدراً أو من فعل قوة غيبية، بل هو من صلب الواقع والنظام السياسي-الاجتماعي، المبني على الاختلال والتحاصص  الطائفي والاستغلال الاجتماعي-الطبقي، ولذلك فإن تغييرَه هو أمرٌ ممكن وضروري. فكان خياره الانتماء إلى الحزب الشيوعي اللبناني، والانخراط في نضالات وتحركات شعبية، دفاعاً عن حقوق العمال والكادحين والمزارعين والفئات الاجتماعية الوسطى، وحاجات الشباب في العلم وفرص العمل، وصولاً إلى تعميم الوعي وتحقيق التغيير، لإقامة دولة العدالة الاجتماعية والديمقراطية والمواطنة، بديلاً لدولة الفساد والمزارع الطائفية، منطلقاً من أن مجتمع  العدالة والاشتراكية، هو السبيل  لإلغاء استغلال الانسان للإنسان، وإنهاء الظلم الاجتماعي.
وقد رأى صلاح من خلال برنامج حزبه، أن نظام المحاصصة الطائفية أوجد التفرقة والحذر بين اللبنانيّين، وأدّى إلى انقساماتٍ وعصبياتٍ وحروبٍ أهلية وفشلٍ في تحويل السلطة إلى دولة وتحويل كيان لبنان إلى وطن، وأن سياسات الطبقة السلطوية، منذ تسعينيّات القرن الماضي، أي بعد توقف الحرب الأهلية، أغرقت بلدنا وشعبنا بالعجز المتزايد وبالمديونية المتصاعدة، التي تجاوزت المئة مليار دولار، وأوصلت البلد إلى حافة الانهيار الاقتصادي والمالي. وبدلاً من محاسبة الفاسدين واستعادة المال العام المسروق، باستغلالهم الشعب، وبالتواطؤ مع السلطويّين، يحاولون تدفيع الفقراء والطبقات الشعبية، ثمن هذا العجز والمديونية التي تسبّبوا هم بها.
لذلك كان رفاق صلاح في الحزب الشيوعي ومن يلتقي معهم، في طليعة الدّاعين إلى الشارع، ولتوسيع قاعدة النضالات الشعبية والنقابية في مختلف القطاعات رفضاً لسياسة الإفقار المُتّبعة، ولاستمرار النموذج الاقتصادي الريعي العاجز والفاشل، ومن أجل تغيير هذه السياسات واستبدالها ببناء اقتصادٍ منتجٍ صناعيّاً وزراعيّاً وحِرفيّاً، واعتماد نظام ضرائبي تصاعدي على الأرباح والمداخيل العالية، وإلغاء الضرائب غير المباشرة على الشعب، مع وقف مزاريب الهدر والصفقات  والتهرّب الضريبي. ومن دون هذه التغييرات، سيبقى النزف وخطر الانهيار قائمين ولا تكون التدابير التي تقوم بها السلطة أكثر من تجميلٍ ظرفيّ مؤقت تمديداً للوقت. أما هذا التغيير الضروري، فلا يتحقق بدون دور شعبي ضاغط، فالشعب هو صانع التغيير الحقيقي.
وكان صلاح من المناضلين من أجل التغيير وطنيّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً، فلا يمكن بقاء الوطن مغيّباً، والوحدة الداخلية هشة ومعرّضة للاهتزاز. وفي محيط هو محط صراع ومخطّطات ونزاعات لتفتيت المنطقة والإعداد لصفقة القرن وتصفية القضية الفلسطينية، وتوطين اللاجئين، وجعل الأرض العربية، خصوصاً فلسطين وهضبة الجولان المحتل، هدية أميركية للكيان الصهيوني.
كلكم تعرفون أن صلاح لم يقف متردّداً في الظروف الصعبة. فعندما تعرّضت صليما وأهلها لاعتداء إجرامي غادر، اندفع مع رفاقه الشيوعيين والاشتراكيين والأصدقاء، لحماية أبناء البلدة، ليس من منطلق طائفي، بل ردّاً على المشروع الطائفي ببرنامج الإصلاح المرحلي للحركة الوطنية التي ترأسها الشهيد الكبير كمال جنبلاط. هذا البرنامج الذي ما يزال محتواه سبيلاً لإنقاذ لبنان من الحروب الطائفية وتكرارها، ومن الفشل والفساد. ومن منطلقه في الترابط بين قضية بلدته ومنطقته والوضع اللبناني العام، أسهم صلاح مع  رفاقه بالنشاط التعبوي ضد الاحتلال الصهيوني، وفي نيل شرف المشاركة في مقاومة جيش العدو الصهيوني، فكان من أبناء هذه المنطقة، الشهيد المقاوم بيار أبو جودة، والأسير المحرر غسان سعيد.
ورغم مناخ الإحباط الذي نشأ بوصول جيش العدو الصهيوني إلى بحمدون وبلدة القريّة، في الأسبوع الأخير من حزيران 1982، وقساوة تلك الظروف، سجّلت هذه المنطقة (المتن الأعلى)، وأبطالها الشهداء، وأبناؤها الميامين شيوعيون وحلفائهم، وغيرهم من الأهالي، صفحة مشرقة في تاريخها وتاريخ بلدنا وشعبنا، حين أفشلت إتمام حلقة الوصل الجغرافي، بين قوى المشروع الطائفي المدعوم من الكيان الصهيوني، المسيطرة في الجبل الشمالي وبعض الشمال اللبناني، وبين الجيش والكيان الصهيوني جنوباً. فحمت كرامة هذه المنطقة وأهلها، وشكّلت مثالاً يؤكّد القدرة على مقاومة العدو وإفشال أهدافه. فكان لهذا الانتصار بعداً وطنياً أيضاً... فتحية إلى روح صلاح وذكراه العطرة.. وتحية إلى شهداء هذه المنطقة.
إن أمثال رفيقنا صلاح لا يغيبون وإن رحلوا... فحضورهم يستمر ويبقى صلاح مثالاً للإنسان، مثالاً للشيوعي، مثالاً للمناضل، وحيّاً في ذاكرة رفاقه وأهله وعارفيه لاستكمال الطريق.
* كلمة ألقيت في الاحتفال الذي دعت إليه منظمة الحزب الشيوعي في صليما بمرور سنة على رحيل المناضل صلاح سعيد بتاريخ 12 أيّار 2019