النضال المُجدي: كيف وأين؟ (1)

الهدف المنشود والأسمى لأيّ نضال سياسي هو إنماء وتقدم ورفاهية المجتمع المعني بهذا النضال. من المفترض أن يكون ذلك بديهيّاً ولا خلاف عليه.
الخلاف يبدأ في قراءة طبيعة الصراع وبالتالي تحديد مضمون ووجهة هذا النضال وأدواته من جهة وفي تحديد الجغرافيا أي "الاجتماع" المعني بهذا النضال من جهة أخرى. أي بتحديد التناقض الرئيسي وحدوده، وبالتالي التحالفات اللازمة التي تخدم هذا النضال. هذا التناقض الرئيسي الذي يتغيّر بالطبع وفقاً لطبيعة المرحلة.

أوغلت الرأسمالية، خلال مراحل تطورها وتوسعها وتتالي أزماتها التي عكستها على العالم وفقرائه، في تعميق الفوارق الطبقية واضطهاد الشعوب ونشر الفقر والتسبّب في الحروب والمآسي وتدمير الطبيعة وغيرها من التصدّعات على أصعدة مختلفة. تسارعت وتيرة هذا الانهيار وآثاره على البشرية جمعاء، بما فيها شعوب المركز بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وطغيان الطابع العدواني لسياسات المركز الرأسمالي، الأميركي بشكل خاص، الذي اندفع في اتجاه تطوير وفرض نظام تبعية امبريالي مطلق على بلدان الأطراف هو أقرب إلى التحول إلى "نظام إلحاق" بالكامل؛ تارةً بالتدخل العسكري المباشر وطوراً بالإخضاع الاقتصادي، مستعيناً بأدواته وصناديقه المالية أو بالعقوبات في أغلب الأحيان. وتنعكس هذه الاتجاهات بوضوحٍ في منطقتنا، حيث تتعاقب الصيغ المختلفة لمشروع الشرق الأوسط الجديد، ذات النزعة التفتيتية، من حيث استهدافاته على الصعد كافة، العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. تأتي الهجمة على سوريا والعراق واليمن وفلسطين وتضييق الخناق على لبنان وفرض الحصار على إيران من ضمن هذه السياسات. تعمل الامبريالية، في ترسيخ هيمنتها، على التناقضات الاجتماعية والعرقية والمذهبية والقبلية والعصبية بشكل عام، تستعملها في خدمة مشروعها وهي كثيرة في مجتمعاتنا. ويزيد من عدوانية الهجمة الامبريالية على منطقتنا ومناطق أخرى من العالم توتّرها الناجم عن بروز قوى اقتصادية صاعدة تنافسها من حيث القدرة على قيادة العالم وانتزاع المركز. إنها في أغلب الأحيان ردودُ فعلٍ دفاعية نتيجة هزائم متتالية تُمنى بها. إذ يشكّل صعود الصين وعودة روسيا إلى لعب دورٍ فاعلٍ في العالم، من سوريا إلى فنزويلا مروراً باليمن، منعطفاً تاريخياً ومُعطىً جديداً يجب أخذه بعين الاعتبار في بناء أي مشروعٍ نضالي جدّي.
هذه هي باختصار طبيعة الصراع، وبالتالي فإن مضمون النضال يجب أن يكون في اتجاه المواجهة من أجل الوصول في نهاية المطاف إلى "الهدف المنشود" البديهي الذي ذكرناه أعلاه. إنه، وللأسف، هدفٌ طويل الأمد يأتي نتيجةً للمواجهة وهو غير ممكن دونها. هذه هي الطريق للوصول إليه؛ إنها طريقُ التحرّر الوطني.
ومن يعتقد أن تحقيق "الهدف المنشود" ممكنٌ إذا طالبنا به مراراً وتكراراً هنا وهنالك وفي كل الساحات والأزمنة دون الانتباه إلى طبيعة الصراع والمرحلة فهو واهم. لو كان تحقيقه بهذه الطريقة ممكناً لتحقّق منذ زمنٍ بعيد. ما كان صعباً في زمن الاتحاد السوفياتي أضحى مستحيلاً اليوم ما لم يكن جزءاً من المواجهة الكبيرة ومن خلال حركة تحرّر وطني جامعة تستفيد من المتغيّرات في العالم والمنطقة.
في موازاة تجزئة المنطقة خدمة لمصالحها وعملها الدؤوب على تناقضاتنا الاجتماعية المختلفة، قامت الامبريالية بالترويج وترسيخ منظومة مفاهيم قيمية مركزية اعتمدتها النخب الثقافية والسياسية والحزبية في مجتمعاتنا. شكّلت هذه المفاهيم أساساً ضاغطاً من أجل قيام خطابٍ سياسيّ أصبح منطلَقاً للعمل النضالي. الديمقراطية، الحقوق على أنواعها، الحرية الفردية، العلمانية، حتى العدالة الاجتماعية وغيرها من المفاهيم الرومانسية الجذابة في معظم الأحيان... هي مفاهيم تدفع بالصراع نحو الداخل عوضاً عن المواجهة الفعلية والانخراط في الصراع الحقيقي. أليس هذا هو دورها بالتحديد؟ إنها مفاهيم شكّلت في ما بعد أسس ما يسمى بالـ"مجتمع المدني" وجمعياته المتعدّدة الجنسيات والمصادر.
على سبيل المثال سنتناول مفهومين اثنين، لرمزيتهما، شكّلا عنوانين أساسيّين في نضالنا في السنوات الأخيرة.
العدالة الاجتماعية هي مفهوم جذاب تستفيد منه البرجوازية والبرجوازية التابعة بإرضاء الطبقة العاملة ببعض المكتسبات التي تسهم في تضميد بعض الجروح وتخفيف حدّة الصراع. هل يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية في ظل الرأسمالية والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج؟ لا أظن ذلك. لا عدالة اجتماعية حقيقية إلّا في ظل الاشتراكية. لا توجد ولا يمكن أن توجد عدالة اجتماعية خارج نطاق المساواة التامة والفعلية بين أفراد المجتمع في ملكية وسائل الانتاج ومردود العمل. لذلك إن العدالة الاجتماعية هي نتيجة للنضال من أجل إقامة الاشتراكية من خلال حركة التحرر الوطني ولا يمكن أن تشكّل مطلباً مباشراً يكفي الإصرارعليه في الشارع كي يتحقّق. إلا اذا كان المبتغى هو اقامة نظام الرعاية الاجتماعية في ظلّ النظام الرأسمالي عندها قد تكون مكتسبات النضال كافية لذلك وبصعوبة.
شكّل إلغاء الطائفية محوراً اساسياً من عملنا النضالي في السنوات الماضية. انطلق هذا النضال من فكرة أن النظام الطائفي هو االمسبب الرئيسي لتخلفنا وجميع أزماتنا. وهذه أيضاً من المفاهيم المركزية التي تسهم في التعمية على طبيعة الصراع الأساسي. فالطائفية ليست خياراً إرادياً للناس وبالتالي لا طائل من محاولة التأثير على وعي الناس من أجل إلغائها. إن الطائفية هي نتيجة كما كل أزماتنا وليست سبباً. هي نتيجة لنمط الإنتاج التابع الذي فرضه الاستعمار خدمةً لمصالحه. إنها جزءٌ من البنيان الاجتماعي الذي يتناسب مع علاقات الإنتاج التابعة. هنا أيضاً، لن يكون إلغاء الطائفية إلا نتيجة للمواجهة من أجل التحرّر وفكّ التبعية من ضمن حركة تحرّر وطنية ترى الصراع بكليّته، ولا يمكن أن يكون شعاراً منفصلاً لا جدوى من تكراره في الشارع أو في أي مكان آخر.
أزماتنا وتشوهاتنا السياسية والاجتماعية هي ظلٌّ لوحش الامبريالية الذي فرض علينا علاقات إنتاج تابعة في جغرافيا مجزّأة. لو أطلقنا النار على الظلّ مثنى وثلاث ورباع وأكثر بكثير، فلن نصيب الوحش طبعاً ولن نثير سوى سخريته في أحسن الأحوال. إنّي أراه يضحك؛ ولكن يضحك كثيراً من يضحك أخيراً.