ما قبل الكتابة، ما قبل النقاش... مراجعة التفسير المادي للتاريخ

قد تكون المرّة الأولى منذ زمنٍ بعيد يواجه فيها الشيوعيون ضرورة التوقّف عند الخلفية الفكرية التي يستندون إليها وهم يحضّرون وثائقهم المؤتمرية. ربما كانت المؤتمرات السابقة تعقد في جوّ من الاطمئنان لصحّة نظريتهم، فكانت تصاغ الوثائق وكأنها تستند إلى بديهيات فكرية لم يكن هناك حاجة لمراجعتها، علماً أننا كحزب واجهنا اعتراضات على طريقة تناولنا للماركسية حتى في ظلّ وجود الاتحاد السوفياتي، وذلك بدءاً من المؤتمر الثاني في عام 1968 والبرنامج الصادر عنه.

غير أن الوضع المستجد بعد الانهيارات الكبرى والشكوك التي أُثيرت حول راهنية الماركسية تستدعي التوقف مليّاً عند خلفيتنا الفكرية وجعل هذا التوقّف قضية حزبية عامة تهم كلّ عضو في الحزب أكان مساهماً في كتابة مشاريع الوثائق أو مشاركاً في مناقشتها أو مناضلاً في نشرها وترويجها بين الجماهير .ليس هناك بديهيات وليس هناك حقائق مطلقة، على الأقل فيما يطال الأفكار والمفاهيم المنتجة في إحداثيات تاريخية مختلفة عن احداثيات بيئتنا وهو أمر يملي علينا تمييز هذه النظرية وهذه الأفكار على خطى شهيدنا الكبير مهدي عامل.
لسنا ممّن يلتفت إلى التشكيك بالمبادىء الفلسفية والمنهجية (بالفهم المادي للتاريخ والديالكتيك) ولا بالاستنتاجات التي أنتجها ماركس في فهم الرأسمالية الكلاسيكية، لكنّنا على يقين من أن النظرية الماركسية التي هي نظرية كونية للانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، يفترض أن تتميّز، في الزمان والمكان، في البيئات المختلفة استجابةً لقانون التطور المتفاوت والذي يملي بدوره تفاوتاً في دينامية التطوّر وفي الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية. وعليه، يصبح لزاماً علينا أن نبرهن راهنية الماركسية في هذه البيئة أو تلك، إذ إنّ راهنيتها ليست معطىً قائماً بذاته، إنّما هي نتاج جهدٍ وممارسةٍ نضاليةٍ عمليةٍ ونظرية. فراهنيتها في إسناد ممارسة التغيير ليست موجودة في الكتب، إنّما ينبغي إنتاجها بالاستناد إلى التراث الماركسي وإلى الواقع في نفس الوقت.
عن أيّ تراث نتحدث بالتحديد؟ نتحدّث عن الفهم المادي للتاريخ – الاكتشاف الأول لماركس.
تشكل منهجية بحث المسائل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأيديولوجية الأداة الرئيسية في سبر أغوار كلّ القضايا والمشاكل التي تواجهها البشرية في مسيرتها التصاعدية من الأشكال البسيطة إلى أشكالها المعقّدة. وقد شهدت الصراعات الاجتماعية على وجود العديد من المنهجيات التي يمكن تقسيمها إلى معسكرين رئيسيين، يمكن لكلٍّ منهما أن يتّسع لأنواع متفاوتة تنطلق من نفس المبدأ. والمعسكران هما المثالية والمادية. وإذا كان معسكر المثالية يضع أسباب حركة الموضوع وتطوّره خارجه، فإن المادية ترى أسباب كلّ حركة في الموضوع نابعة منه بالذات وليس خارجه. وعلى هذا الأساس صاغ ماركس الفهم (التفسير) المادي للتاريخ كمنهجية علمية تفسّر الواقع وتضعه في إطاره التاريخي وتتوقّع مآلاته المستقبلية، ليس كحتمية ميكانيكية، إنما كنتاج لصراع أضدادٍ تُرتسَم فيه حركته في سلوك هذه الأضداد.
رفض ماركس كلّ التفسيرات للظواهر الاجتماعية التي تعيدها إلى إرادات ورغبات بشرية وإلى سيطرة قوى ماورائية أو إلى تحدّدها بذاتها وربطها بالعلاقات الحياتية المادية، التي سمّاها هيغل بالمجتمع المدني. ونصح ماركس بالبحث عن تشريح المجتمع المدني في الاقتصاد السياسي.
ولخّص ماركس نتائج أبحاثه في هذا المجال في مجموعة من الأفكار المترابطة منطقيّاً وتاريخيّاً بحيث يرسم التاريخ مساراً طبيعياً وليس تراكمَ أحداث تصادفية. كما أنه جعل هذه المنهجية عيناً خارقة وموغلة في البعيد لترسم أفقاً لحركة المجتمع تؤدّي به إلى حيث تدفعه تناقضاته.
فقد رأى ماركس أنّ البشر وفي سياق إنتاج حياتهم المادية – مواصلة إنتاج النسل وإنتاج الفرد لحياته أي تحضيره ذاته للحياة وإنتاج الوسائل المادية وإنتاج البيئة الطبيعية الضرورية – يدخلون في علاقات اجتماعية في ما بينهم، هي علاقات ضرورية لتنفيذ هذا الانتاج وهي علاقات موضوعية، أي أنّها لا ترتبط برغباتهم وإرادتهم، بل هي علاقات إجتماعية وفي القلب منها علاقات الإنتاج. وتكون هذه العلاقات متناسبة مع مستوى تطور محدّد للقوى المنتجة المتوفرة. وهذا يعني أنّ هناك ترابطاً وتناسباً محدّداً بين هذه العلاقات والقوى لكي يتأمّن تطوّر الأخيرة ولكي يستمر المجتمع في تطوّره. هذه العلاقات يطلق عليها ماركس اسم البنية التحتية الفعلية أو البنية الإقتصادية للمجتمع. هذه البنية تحدّد في، نهاية المطاف كلّ البناء الاجتماعي وإليها ينبغي إرجاع كلّ الظواهر المطلوب تفسيرها أو معالجتها.
وتنبني على هذه القاعدة بنية فوقية سياسية حقوقية أيديولولجية يتناسب معها مستوى وعي محدّد. وكانت ضرورة البرهان على هذا الاستنتاج أحد الحوافز لبحوث ماركس كي يبرهن أن هذه القاعدة هي التي تحدّد الدولة والحقوق والوعي وليس العكس. وما زالت هذه الفكرة مهمّة جداً في الظروف الراهنة في سياق الصراع على موقع الدولة في المجتمع.
وعمّق ماركس هذه الفكرة في اعتبار أن أسلوب الحياة المادية يشترط ويحدّد العمليات الإجتماعية والسياسية والروحية للحياة عموماً، وأن وعي الناس ليس هو ما يحدّد كيانهم الاجتماعي (ظروف الحياة وعلاقاتها) بل بالعكس الكيان الاجتماعي هو الذي يحدّد الوعي.
وبعد تحديد هذه الأسس البنيوية يصل إلى السبب الحقيقي في حدوث القفزات التاريخية – التغيير والانتقال من بنية إلى أخرى– فيرى أنه في لحظة محدّدة من التطوّر تدخل القوى المنتجة للمجتمع في تناقض مع علاقات الإنتاج التي كانت حتى هذه اللحظة إطاراً لتطورها (مع علاقات الملكية التي هي تعبير حقوقي عن هذه العلاقات) وحينها يحلّ عصر الثورة الاجتماعية، لأن هذه العلاقات تتحوّل إلى عائق أمام تطوّر هذه القوى. وتحلّ هذه الثورة التناقض القائم بين القوى والعلاقات وهو التناقض الأساسي وتعيد التناسب والانسجام بينها وهذه هي مهمة الثورة الاجتماعية. في هذه الفكرة بالذات التي تشي بأنّ التغيير يتحقّق على المستوى السياسي (الصراع السياسي) تندحر كلّ الافتراءات حول ما زُعِم عن أنّ ماركس تحدّث حول وجود سبب وحيد لتحديد وتقرير مصير البنية الاجتماعية أي الإنتاج المادي. هنا، في هذا المستوى، يتقرّر مصير البنية الاجتماعية تأبيداً أو تغييراً.
وحسب ماركس لا يقتصر التغيير على البنية التحتية، إنّما يطال أيضاً البنية الفوقية السياسية والحقوقية. فهذا التغيير هو الذي يقرّر مصير البنية الإجتماعية. وهنا يُطلَب منّا أن نفرّق بين الانقلابات المادية في الشروط الاقتصادية للإنتاج والأشكال السياسية والحقوقية والدينية والفنية والفلسفية أيّ الأشكال الأيديولوجية التي بواسطتها يعي الناس هذا النزاع ويناضلون من أجل حلّه.
ويؤكّد ماركس أنّه لا تموت تشكيلة اجتماعية، والتشكيلة هي وحدة البنية التحتية والبنية الفوقية، قبل أن تستنفد طاقتها على تطوير القوى المنتجة التي أمّنت لها حتى الآن ظروف تطوّرها. كما أنّه لا تولد بنية علاقات إنتاج جديدة قبل أن تنضج الظروف المادية الضرورية لوجودها في أحشاء البنية القديمة. وعلى هذا الأساس، تضع البشرية أمامها دائماً تلك المهمات، فقط، التي تسطيع حلّها والتي، كما يبدو لاحقاً، لا تظهر إلاّ بعد أن تتأمّن الشروط لحلّها أو تكون في سياق التشكّل. وبذلك وضع ماركس حدّاً للإرادوية في تقرير مصير المجتمع.
وخلافاً لكلّ الاعتراضات التي تُلصِق بماركس تهمة اللوحة الخماسية للتشكيلات في التاريخ، يعتبر أن أساليب الإنتاج الآسيوي والقديم والإقطاعي والرأسمالي عصوراً تقدمية في التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية وأن العلاقات الإنتاجية البرجوازية هي آخر شكلٍ تناحري للعملية الاجتماعية للإنتاج، وهي تناحرية بمعنى التناحر الناجم عن الشروط الإجتماعية للحياة. فالقوى المنتجة المتنامية في أحشاء المجتمع البرجوازي تخلق الشروط المادية لحل هذا التناقض – البروليتاريا والوسائل المادية الضرورية لبناء المجتمع ما بعد الرأسمالي– وبذلك تختم التشكيلة الرأسمالية مرحلة ما قبل تاريخ البشرية ويبدأ التاريخ الحقيقي للبشرية.
ما هي الفائدة من الاستناد لفكرةٍ ومنهجية، تم إنتاجها في بيئة رأسمالية متطوّرة تصف دينامية تطوّرها وترسم أفق انتقالها إلى الاشتراكية، في بنية هي رأسمالية تبعية "تخلفية"، خاصةً وأنّ ماركس تهكّم على الذين اعتبروا توصيفه وتحليله لتطور الرأسمالية في بريطانيا طريقاً عاماً وشاملاً لتطورها في كلّ البلدان؟ بمعنى هل تساعد هذه المنهجية على رسم خصائص بنيتنا ورصد دينامية تطورها وتحديد طريق الانتقال فيها إلى نفس هذه المنهجية؟
على هذا التساؤل قدّم الشهيد مهدي عامل إجابة مبدعة كرّس لها حياته البحثية والنضالية تمثلت في مهمة تمييز كونية الماركسية، كنظرية كونية للانتقال من الرأسمالية إلى الإشتراكية، وفي عملية من إعادة إنتاج هذه المفاهيم في بنيةٍ اجتماعية متميّزة هي في الوقت عينه عملية "رهننة" لها وبرهان على أن الفكر الاشتراكي (الماركسي) هو فكر التحرّر الوطني في بلادنا.
كان لا بدّ له ولنا أن نميّز بنية علاقات الإنتاج التي وجدت في بلادنا وما زالت ونميّز طريقة تشكّلها وتناسبها مع بنية القوى المنتجة القائمة وما انبنى عليها من بنية فوقية سياسية وحقوقية والبنية الطبقية والصراع الطبقي وشكل الانتقال إلى الاشتراكية. إذ من دون ذلك نكون كشراعٍ ضائع في عُباب بحر الصراعات الاجتماعية. إن الممارسة السياسية الصحيحة والناجحة تتطلّب القيام بهذه المهمة.
وبالتالي، فعندما نواجه مهمة تطوير الماركسية في بلادنا، إنّما نقصد بذلك إنتاج معرفة بنيتنا الاجتماعية وإنتاج الرؤية السياسية لممارسات الصراع الطبقي فيها وتحديد طبيعة هذا الصراع وأشكاله لكي نبرهن على صحة نظرتنا للانتقال إلى الاشتراكية عبر التحرّر الوطني كعملية طويلة متمرحلة من تغيير بنية علاقات الإنتاج الرأسمالية التبعية، على قاعدة تحديد قيود تطورها، الداخلية والخارجية، وآليات الاستتباع واستنباط سبل تعبئة الجماهير والقوى الطبقية المتضرّرة من أجل إنجاز ما عجزت البرجوازية التبعية ومن أجل تحقيق الاشتراكية.
من هذا المنطلق، نستطيع الزعم أنّ مهدي عامل ونحن من بعده لم نقم بحشر البنية الاجتماعية اللبنانية والعربية في القالب الماركسي الكلاسيكي لتفسير الواقع. وإن ما جرى هو عملية تمييز فعلية للماركسية في واقعنا، حيث بيّننا أن بنيتنا الإجتماعية التي تسود فيها بنية علاقات إنتاج رأسمالية من نوعٍ محدّد تختلف عن البنية الرأسمالية الكلاسكية بنشوئها لا بل بزرعها من قبل الاستعمار في بلادنا، وبالتالي لم تأتِ عبر ولادة طبيعية من البنية السابقة الإقطاعية، وأن الطبقة البرجوازية لم تولد بثورةٍ اجتماعية ضدّ الإقطاع بل في عملية تحوّل للإقطاع إلى برجوازية مرتبطة بالبرجوازية الإمبريالية بارتباط بنيتنا بنيويّاً بالبنية الإمبريالية. ولذلك، فإن هذه البرجوازية ليست طبقة مهيمنة بذاتها لأنّها لا تحمل بديلاً اجتماعياً، وهي إن اكتسبت هذا الطابع الهيمني، فإنما بتمثيلها للبرحوازية الإمبريالية في بلادنا. ولهذه الأسباب كلّها، تشكّلت عندنا رأسمالية مختلفة بولادتها وبدينامية تطوّرها عن الرأسمالية الكلاسيكية. هي نوعٌ هجين من الرأسمالية الكلاسيكية والإقطاعية وهو ما أنتج بنيةً طبقية وأشكالاً من الصراع الطبقي وشكلاً للانتقال منها إلى اشتراكية مختلفة عمّا تمليه الرأسماليه الإمبريالية. وإلى ذلك تمّ تشييد بنيةٍ سياسية تحمي هذا النظام الاجتماعي تتناسب معه في مضمونه البرجوازي وتختلف بالشكل الذي تتنكّر به، ونقصد بذلك الطائفية كشكلٍ ملازمٍ لنظام ودولة البرجوازية التي دخلت في أزمة بنيوية منذ ولادتها مفادها عجز عن القدرة في توحيد الأمة وقيادة تطورها، لأنها لا تستطيع أن تثبت سيطرتها إلاّ بتمزيق النسيج الاجتماعي للشعب، وتبيّن أنّ بنيتنا محكومة بانسداد أفق التطور الرأسمالي من جراء الحصار الاستعماري لها ولقواها المنتجة، وعجز البرجوازية الكولونيالية عن قيادة تطور رأسمالي مستقل وعن تحرير بلادنا من السيطرة الاستعمارية. ولهذا، فإن أفق تطورنا الوحيد هو التحرّر الوطني- التحرّر من الرأسمالية ومن الإمبريالية - وليس ثورة اشتراكية كلاسيكية كما وعد كلاسيكيّو الماركسية. وهذا الطريق بحاجة لأن يشقّه الشيوعيون بالتعاون والتحالف مع كلّ القوى صاحبة المصلحة في ذلك وأن يرسموا المراحل الضرورية لتحقيق المهمات بقيادة طبقية وسياسية موثوقة تتصدّى للتحالف الحاكم الذي لا ينتج إلّا الويلات لشعبٍ عجز حتى الآن عن وضع حدٍّ لمآسيه. فهل يُقدّم الشيوعيون في مؤتمرهم مشروعاً يقنع اللبنانيين؟!