حول السيرورات الثورية في الوطن العربي من خلال الموجة الثورية الثانية (2/1)

شهدت بعض الأقطار العربية منذ نهاية 2018 اندلاع انتفاضات شعبية شكلت ما أصبح يسمّى "الموجة الثورية الثانية" التي أتت بعد الموجة الأولى التي اندلعت نهاية 2010 في تونس وعمّت بعض الأقطار الأخرى، ويقع التأريخ لهذه الموجة الثانية انطلاقاً من اندلاع الاحتجاج الشعبي في أكتوبر 2018 بالجزائر ضد العهدة الخامسة التي أراد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة فرضها رغم إعاقته وعدم قدرته على الحكم، والتي تلتها أواسط شهر ديسمبر اندلاع الثورة الشعبية في السودان رفضاً لواقع التفقير والتهميش والاستبداد، وفي أكتوبر 2019 اندلعت انتفاضات شعبية عارمة لا زالت متأجّجة وملتهبة في لبنان والعراق رفضاً للواقع الاجتماعي البائس للجماهير الشعبية ورفضاً للطائفية الدينية والسياسية التي ظلّت تحكم هذين البلدين منذ قرون.


ولئن تلتقي الموجتين الأولى والثانية في عديد المشتركات سواء المتعلقة بالأسباب المباشرة أو العميقة، أو النتائج التي انتهت إليها أغلب بلدان الموجة الأولى، فإن الاختلاف بينهما يشمل المسارات والمآلات كما يشمل القوى الفاعلة صلبها، بما يفرض علينا الانتباه لذلك واستخلاص ما يجب من دروس سواء لتحسين شروط نجاح هذه الموجة، أو للتعاطي مع ما تخلقه من مراكمات ضرورية ولازمة لقضية الثورة في منطقتنا وفي العالم.
1- الموجة الثانية هي موجة ثورات شعبية.
اندلع في الجزائر في شهر أكتوبر 2018 حراك شعبي واتّسع نطاقه بسرعة قياسية ليعبّئ الملايين في العاصمة وفي كل مراكز الولايات ولم يكن الحراك لدواعي اجتماعية كما كان سنة 1988 حين اندلعت "انتفاضة الخبز" التي أغرقها النظام العسكري في الدماء. لقد كان المطلب هذه المرة رفض ترشح الرئيس المقعد بوتفليقة لعهدة رئاسية خامسة، والجماهير بهذا تكون قد مسّت أحد مقدسات الحياة العامة في البلدان العربية، انه "تابو" السلطة الذي لا حق للشعب أن يدلي بدلوه فيه حتى وإن كان الوضع " مأساوياً " كما في الحالة الجزائرية أين تتحكم البيروقراطية العسكرية الفاسدة في كل مفاصل القرار، وما "الرئيس المدني" وبخاصة حين يكون "عاجزاً صحياً" سوى صورة تخفي المافيا التي تحكم فعلياً. لقد حاول بوتفليقة ونظامه الذين باغتهم الحراك الالتفاف والديماغوجيا بالقول أنه "يحسن الإنصات للشعب" وأنه سيتخلّى عن السلطة بعد ستة أشهر بعد إجراء حوار وطني شامل حول التداول على السلطة، لكن إصرار الجزائريين كان عنيداً حتى فرضوا على بوتفليقة عدم الترشح بل والاستقالة وإلغاء موعد الانتخابات وترشيحاتها. ثم بلور الحراك الذي التحقت به فئات شعبية واسعة مطالبه وشعاراته والتي تمحورت حول الحرية السياسية، والنضال من أجل دولة مدنية ديمقراطية وحياد المؤسسة العسكرية ومقاومة الفساد وإعادة توزيع الثروة في البلد النفطي، وقد شارك الطلاب والمحامون والأطباء والمعطلون والنساء... بفعالية في الحراك، واستغلت الحركة النقابية الوضع لفتح ملفات الفساد صلبها (الاتحاد العام لعمال الجزائر الذي هيمن النظام على قيادته لعقود). وقد اتخذت الحركة شكل المظاهرات الأسبوعية، مظاهرة الثلاثاء للحركة الطلابية (وكانت سابقاً مع المحامين والأطباء...) ومظاهرة الجمعة للجماهير الشعبية. ورغم تراجع المشاركة في الحراك بعد تنظيم الانتخابات الرئاسية بداية ديسمبر 2019 والتي فاز فيها عبد المجيد تبون الذي يقف وراءه الجيش، المؤسسة الأقوى في البلاد، إلّا أن الحراك لا زال متواصلاً بشعاراته ومطالبه.
وفي شهر ديسمبر 2018 وعلى خلفية فقدان الخبز خرج السودانيون في العاصمة الخرطوم إلى الاحتجاج فقابلهم النظام العسكري بالعصا والقمع، فكانت انطلاقة المسار الشعبي الاحتجاجي الذي عرف تصاعداً تحوّلت بمقتضاه شعارات الجماهير من المطالبة بتوفير الرغيف إلى المطالبة بالحرية فالمطالبة بإسقاط النظام الذي لن يتوفر لا الرغيف ولا الحرية معه وتحت حكمه، بل على أنقاضه وفي خضم النضال ضده. وللشعب السوداني تاريخ حافل بالنضال ضد نظام عمر حسن البشير الذي يجمع في الآن ذاته صفة العسكري الذي وصل إلى الحكم سنة 1988 عن طريق الانقلاب العسكري، وصفة الإخواني عضو "حركة الإخوان المسلمين"، وهو بذلك جمع بين أبشع صفتين لحاكم في البلاد العربية. لقد عرفت البلاد طيلة ثلاثة عقود التقسيم (انفصال الجنوب) والحروب الأهلية الإثنية والعرقية والطائفية والاستبداد والفساد والإرهاب والتفقير، قابله الشعب بنضالات وانتفاضات انتهت إلى الرصاص والنار. لقد كان ديسمبر 2018 اللحظة التاريخية الفارقة، لحظة اللاعودة، لذلك صمدت الصدور العارية وقدمت أعدادا لازالت غير معلومة من الشهداء إلى أن خُلع الدكتاتور. لقد أبدع الشعب السوداني أطره النضالية وخلقت قواه الثورية أشكال تنظمها الخاصة وصاغت برنامجها وشعاراتها وتكتيكاتها. ولا زالت إلى اليوم لاعباُ أساسياً في المسرح السياسي السوداني رغم مناورات الثورة المضادة وعملها الدؤوب لوأد الثورة ومكاسبها.
ولم ينته شهر أكتوبر من عام 2019 حتى اندلعت حراكات احتجاجية عارمة بلبنان والعراق، احتجاجات ضد الإجراءات اللاشعبية التي احتوتها مشاريع ميزانيات العام الجديد، وقد عرفت احتجاجات لبنان باسم "احتجاجات الواتساب" لأن المطلب الأول للتحركات كان المطالبة بإلغاء الإتاوة المسلطة على خدمات الاتصالات. ولم يكن هذا الإجراء الضريبي الذي اتخذته حكومة لبنان إلاّ القادح الذي اندلعت بسببه احتجاجات شعبية عارمة وغير مسبوقة في لبنان، هذا القطر المحكوم بمعادلات طائفية كانت السبب في حرب أهلية مدمّرة امتدت من 1975 إلى 1991 وانتهت باتفاق لاقتسام السلطة بين الطوائف الدينية الأساسية (الرئاسات الثلاثة مقسمة كما يلي: رئاسة الدولة للمسيحيين المارونيين، رئاسة الحكومة للمسلمين السنة، ورئاسة البرلمان للمسلمين الشيعة)، كما أن القوى السياسية الغالبة هي أحزاب طائفية تتوارثها عائلات متنفّذة منذ قرون، وحتى المقاومة للاحتلال الصهيوني فهي" طائفية" من خلال مكوّنها الرئيسي "حزب الله" الشيعي، رغم الماضي الوطني للمقاومة التي كان يقودها الحزب الشيوعي. هذا ولا زال الزخم النضالي يحافظ على جذوته رغم إسقاط حكومة الحريري، أحد أكبر بارونات الفساد الاقتصادي والمالي، ورغم تشكيل حكومة جديدة بنفس المنطق الطائفي السائد رغم ادعاء الاستقلالية.
ولقد جاءت انتفاضة اللبنانيين لتخرق الجدار الطائفي وهي التي طرحت مجمل المطالب الاجتماعية والسياسية للجماهير الشعبية من رفض الاختيارات الطبقية السائدة إلى رفض التركيبة الطائفية للسلطة وللمنظومة الحزبية، وهي تقريباً نفس مطالب الانتفاضة العراقية التي اندلعت في نفس الفترة وعلى نفس الخلفية وبنفس المطالب، ولئن تعرضت إلى القمع والإرهاب والتقتيل الذي شمل المئات وآلاف الجرحى سواء من قبل قوات البوليس والجيش النظاميين، أو من قبل المليشيات التابعة لأحزاب الحكم والمسماة "الحشد الشعبي" التي كثيراً ما تتدخل كأنها قوات نظامية، هذا ولا زالت الانتفاضة العراقية تحافظ على زخمها في بغداد وفي أهم المدن وفي مقدمتها "البصرة" المحسوبة على القوى السياسية الطائفية المهيمنة (الشيعة الذين يشكلون أغلبية السكان، وأغلبية البرلمان ويحتكرون رئاسة الحكومة).
إنّ النماذج المذكورة هي نماذج لسيرورات ثورية لها مشتركات ولها خصوصيات تميّز كل تجربة وكل بلد، وهي نماذج لسيرورات ثورية شعبية تجد أسبابها العميقة في الواقع المادي الذي تعيشه الجماهير الكادحة والمُفقّرة التي ظلت تعاني الفقر والفاقة بما فيها في بلدين نفطيين (العراق والجزائر)، كما تعاني من أنظمة قمعية وفاسدة بنت عروشها على الإقصاء والتهميش والأنظمة العسكرية والأمنية المستبدة والموغلة في الدكتاتورية، والغارقة في التبعية للرأسمال الاحتكاري العالمي ولمؤسساته النهابة (البنك العالمي، صندوق النقد الدولي، الاتحاد الأوروبي...). إن مجمل هذه الأسباب التي وصلت إلى ذروتها وما إن حصل القادح والسبب الحاسم في اندلاع الهبات الشعبية حتى انطلقت موجة ثورية عارمة ما زالت إلى اليوم صامدة رغم القمع والتآمر وقصور العوامل الذاتية.


2- خصوصيات الموجة الثورية الثانية.
لئن انتهت الموجة الأولى إلى الفشل والارتداد بحكم غياب القيادة الثورية لمسارات بدأت سليمة وناتجة عن تعفن في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي الذي تعيشه الشعوب والطبقات الكادحة والمفقرة في كل البلدان العربية. هذه المنطقة التي تعتبر حالة نموذجية لتناقضات النظام الرأسمالي العالمي من خلال مفارقة وضّاحة وجلّية: فهذه المنطقة تحوز نصيباً هاماً من ثروات العالم خاصة النفط والغاز والإمكانيات الزراعية...، وفي الآن ذاته فإن أوضاع شعوبها هي الأسوأ في كل مؤشرات النمو والتنمية، فأنظمتها السياسية في أغلبها ملكية وراثية، فاسدة ومستبدة وصنيعة للاستعمار، وخياراتها الاقتصادية قائمة على التبعية وريعها النفطي والغازي هو المرتكز الأساسي للفساد، وجماهيرها تعيش البؤس والفاقة والأمية، وينتشر في أغلب بلدانها طاعون الطائفية و الاثنية. لقد وجدت الموجة الثورية الأولى قاعدتها المادية الموضوعية فيما تعيشه الشعوب والطبقات والفئات الشعبية، لكن تخلف العنصر الذاتي وضعفه وحتى غيابه في عديد الحالات مثل ليبيا التي نسفت فيها الأحزاب والمنظمات منذ تربع النظام العسكري للقذافي سنة 1969، فيما تعرف القوى الثورية والتقدمية ضعفاً رهيباً بحكم القمع والمنع والمصادرة، لقد لعب هذا العامل دوراً حاسماً في الفشل سواء من خلال قدرة الأنظمة على استعادة المبادرة والتحكّم في الأوضاع (المغرب، موريتانيا، البحرين..)، وفيما قامت الحركات الاخوانية (المسماة حركات الإسلام السياسي) بالسطو على تحركات الجماهير بحكم إمكانياتها البشرية مقارنة بالقوى التقدمية، وقد انتهت التجارب التي تربّعت فيها الحركات الاخوانية إمّا إلى الحروب الأهلية وهو ما تم في ليبيا وسوريا واليمن، فيما آلت التجربة المصرية إلى الفوز في الانتخابات والشروع في بعث دكتاتورية جديدة انتفضت ضدها الجماهير فاستغل الجيش الوضع للانقلاب واستعادة الحكم الذي ظل متربّعاً عليه منذ أواسط القرن الماضي. وفيما فازت الحركة الإخوانية في الانتخابات المتتالية في تونس، فإن وجود قوى ثورية وتقدمية وحركة نقابية ومدنية نشيطة ومناضلة، جعل المسار الثوري في تونس يحافظ على استمراره رغم الصعود والهبوط في حركة الاحتجاج والرفض، ولئن حققت الثورة التونسية تغييراً مهما على شكل السلطة وتحقيق الحرية السياسية رغم نوايا تصفيتها، فإن النضال من أجل التعبّئ والتوحّد حول مطالب الثورة لا زال يشغل بال بعض القوى السياسية والاجتماعية والمدنية وتطرحه كمهمة للإنجاز.
إذن، لقد انتهت الموجة الأولى إلى الاختراق من قِبل أنظمة الحكم ومن قبل القوى الإقليمية والدولية التي حوّلت الانتفاضات إلى حروب أهلية رجعية دعمت من خلالها القوى الظلامية الإرهابية وفكّكت نسيج المجتمعات وأعادتها إلى الصراعات الطائفية (اليمن) أو موقعاً لحروب بالوكالة بين مختلف القوى الرجعية الإقليمية والعالمية (ليبيا، سوريا)، أو صادرت مكاسبها لصالح نظام مستبد وعميل ومطبع مع العدوّ الصهيوني (مصر). لقد فشلت الموجة الأولى وعادت أوضاع الجماهير أسوأ ممّا كانت، وقد كان لذلك فاتورة باهظة إذ استغلت الأنظمة هذا الفشل لمزيد تشويه فكرة الثورة والانتفاض والتغيير والديمقراطية والحرية... التي لم تجلب حسب دعايتها إلّا الإرهاب والحروب الأهلية. لذلك لم يكن من السهل إنطلاق موجة ثورية جديدة، لكن تعفن الأوضاع وتراكم كل الأسباب الموضوعية للثورة تضافرت لتنطلق الموجة الثانية نهاية 2018 في أربعة بلدان أخذت مسارات خاصة فيها نجاحات وفيها أيضاً إخفاقات ونقائص تهمّ خاصة الجانب الذاتي الذي يهم القيادة الثورية كشرط من شروط نجاح الثورات أو انتكاسها. وسنحاول فيما يلي تتبّع مسار مختلف نماذج الموجة الثانية لرصد نقاط قوتها وفي الآن ذاته نقاط ضعفها.


2-1- الثورة السودانية: مسارها، قواها وآفاقها.
يتشابه مسار الثورة السودانية مع مسار الثورة التونسية من خلال الانتقال التصاعدي من المطالب الجزئية إلى المطالب الكلية، ومن المطالب الاجتماعية إلى المطالب السياسية التي تهمّ السلطة من خلال طرح شعار "الشعب يريد إسقاط النظام". فالمطلب يوم 18 ديسمبر 2018 كان توفير الرغيف لتلاميذ الخرطوم وسكانها، والمطلب على بساطته ووجه بالقمع السافر، فالنظام كان يعي أن "المرجل كان يغلي"، لكن حساباته سقطت في الماء، فبعد أيام فقط كانت شوارع الخرطوم وأهم مدن البلاد تعجّ بالجماهير الغاضبة التي رفعت مطالبها الحارقة حول التشغيل والأسعار وتردي الخدمات، وحين تضاعف القمع تحوّل الشعار إلى شعار ترحيل النظام الذي تربّع على البلاد قرابة ثلاثة عقود. لقد أظهر الشعب السوداني قدرة رائعة على العطاء والتضحية والصمود في وجه الدكتاتورية العسكرية الاخوانية. وقد لعبت القوى الثورية دوراً هامّاً ونشيطاً وبمعنى ما محدّداً في مسار اندلاع وتطوّر الثورة، فمنذ لحظاتها الأولى التحقت القوى الثورية التي تشكلت في جبهات نضال وعمل منذ سنة 1989 حين وصل عمر البشير إلى الحكم عن طريق الانقلاب العسكري. لقد لعب الحزب الشيوعي السوداني دوراً نشيطاً في نضال الشعب وفي توحيد قواه التقدمية السياسية والاجتماعية والمدنية. لقد خلق الحزب وساهم في بعث أطر متنوّعة، فقد أسس بمعية الأحزاب اليسارية والناصرية والبعثية "قوى الإجماع الوطني"(10مكونات) وهي أحزاب اتفقت على النضال المشترك من أجل التغيير الثوري، ولتوحيد الجهود ضد الطغمة العسكرية الفاشية تم سنة....تأليف "قوى الحرية والتغيير" التي وحّدت أهم القوى المعارضة من يسارية وليبرالية للنضال المشترك من أجل الديمقراطية والدولة المدنية، ويضم هذا الائتلاف (نداء السودان (12 حزب)/ قوى الإجماع (10احزاب) / الكتلة الاتحادية (7احزاب وسطية)/ الكتلة المدنية) وبعد إسقاط البشير التحق بالائتلاف "تيار الوسط" و "الحزب الجمهوري". ومقابل هذه الجبهات السياسية، ساهم الحزب الشيوعي مساهمة فعّالة في بعث "تجمع المهنيين السودانيين" وهو ائتلاف واسع للنقابات والفعاليات المهنية (نقابات عمالية، المحامون، الأطباء، الطلبة، الجامعيون،...). وقد لعب الجناحان (السياسي والنقابي) دوراً نضالياً مهمّا في كل ردهات العملية الثورية، وقد كانت "قوى الحرية والتغيير" بمثابة القيادة السياسية والميدانية للثورة السودانية، وهي التي موّلتها بالشعارات والخطط والبرامج، فقد كانت الجماهير تخرج بطلب وتوجيه منها، ونظّمت الاعتصامات والإضرابات والعصيان المدني والإضراب العام السياسي تحت قيادتها. ولم تكتفِ الثورة السودانية بهذا المسار بل شكلت أطرها التسييرية من خلال المؤسسات البديلة التي مثلتها "لجان المقاومة" التي ظهرت للوجود سنة 2013 في خضم النضال ضد النظام، ووقع استعادتها في بداية 2019 خاصة في الخرطوم وأم درمان، وهي تضمّ أساساً الشبيبة النشيطة وهي تنظيم أفقي تجمع حول مطلب إسقاط البشير، تولّى مَهمات الأمن في الأحياء والتصدّي للقمع البوليسي، ولعبت اللجان دوراً مهماً في الاعتصام الذي دام شهراً أمام مقرّ هيئة الأركان بمعية "الكنداكات" وهي فضاء لتجميع النساء وتنشيط دورهن الذي كان بارزاً وحيوياً في مجتمع تقليدي (الكنداكات تعني بالسودانية الحرائر القويات). إن توفر هذه الشروط مكّن الشعب السوداني من إسقاط الطاغية، لكن بتدخل حاسم من المؤسسة العسكرية. إن هذا التدخل يعكس فيما يعكس عدم تمكّن القوى الثورية من حسم موازين القوى بصفة كلية لصالحها. لقد حافظ الحراك الثوري على الطابع السلمي وهذا مفهوم في بلد تخترقه الحروب الأهلية والتعدّد العرقي والاثني وتكثر فيه المجموعات المسلحة، فضلاً عن نظامه العسكري. لقد كان توجّه الجماهير للمؤسسة العسكرية يعود إلى حجم هذه المؤسسة التي تختزل كامل تاريخ السودان المعاصر الذي ليس وفى تاريخ الانقلابات العسكرية المتتالية (بما فيها الانقلاب العسكري لسنة 1964 الذي ساهم فيه وسانده الحزب الشيوعي). لقد نجحت الثورة في إقناع عديد الضباط والجنود بالانحياز للثورة والشعب، لكن قيادة الجيش بقيت موالية للبشير، ثم لما تأكدت من إصرار الشارع، خلعته، ليبدأ مساراً آخراً لا يقلّ تعقيداً حول تنظيم السلطة التي أراد الجيش احتكارها، لكن إصرار الشارع فرض اقتسامها في إطار مجلس سيادي يضم ممثلين بالتناصف عن الجيش والقوى المدنية، وتكون الرئاسة بالتناوب، على أن يتم لاحقاً بعث مجلس تشريعي ليسن الدستور الجديد تكون تركيبته من خلال ممثلين عن مختلف القوى المشاركة في الثورة، وقد اتجهت القوى التقدمية إلى هذا الخيار (وليس خيار الانتخاب الشعبي)، لأن الأوضاع في تقديرها غير جاهزة لعملية انتخابية حرة وديمقراطية، فالانتخاب سيحتكم إلى معايير تقليدية واعتبارات رجعية بحكم حالة الوعي لدى الأغلبية الساحقة التي يعاني جزء هام منها من الأمية والقبلية...، ولا يزال الصراع السياسي محتدماً اليوم بين قوى الثورة وقوى الثورة المضادة ومنها قيادة الجيش، ولئن حقق السودانيون مكاسب مهمة تهم الحرية السياسية والشروع في تفكيك أجهزة وأدوات حكم النظام المخلوع (المليشيات، الأجهزة شبه العسكرية، المنظمات والنقابات، الأجهزة الموازية...)، كما تم وقف إطلاق النار في بؤر التوتر (دارفور،...) في أفق عقد اتفاقيات سلام شامل وعادل، إلاّ أن واجهة الصراع الأساسية اليوم هي الواجهة الاقتصادية والاجتماعية والارتباطات الإقليمية والدولية للسودان الجديد بما فيها رفض التطبيع مع العدو الصهيوني واصطفاف النظام السابق وراء الحلف القطري/التركي/ الاخواني، فضلاً عن انخراطه في حرب اليمن وإرسال آلاف الجنود تحت الإمرة السعودية/الإماراتية.
إن المعطى الحاسم في الحالة الثورية السودانية هو مواصلة موازين القوى الطبقية والسياسية لعدم الرجحان كلياً لا لهذا الطرف ولا لذلك مع رجحان نسبي طبعاً للقوى الطبقية السائدة. وأن مجهوداً جبّاراً ما زال ينتظر الشعب السوداني لقلب الأوضاع لصالحه نهائياً وعدم الاكتفاء بمكاسب رغم أهميته فتبقى قابلة للانتكاس. ورغم أهمية التجربة السودانية وأصالة مسارها الثوري وإبداع قواها التقدمية وفي مقدمتها الحزب الشيوعي الذي ظلت مقارباته السياسية في التعاطي مع استحقاقات الثورة عموما سليمة، إلاّ أن عملاً دؤوباً صلب الجماهير وبخاصة صلب الطبقة العاملة والفلاحين لا من جهة التوعية، بل من جهة تطوير وتعميق وتجذير الممارسة الثورية في أفق حسم مآل الثورة لصالح الشعب وكنس قوى الثورة المضادة وخياراتها وارتباطاتها. هذه القوى سواء منها التي تلعب دوراً بارزاً على السطح الاجتماعي والسياسي، أو المتربصة بالمسار وأساساُ القوى المطاح بها ممثلة في التيارات الإخوانية التي قامت الثورة ضدها وضد حكمها وسياساتها الرجعية واللاشعبية واللاوطنية.

يتبع...

* عضو اللجنة المركزية لحزب العمال – تونس.

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 377
`


علي الجلولي