موريس نهرا في حوار عن "فرج الله الحلو" ودوره في معركة الاستقلال ورفض تقسيم فلسطين وملابسات اختفاءه

استحضار سيرة الشهيد فرج الله الحلو، عشية الذكرى الثامنة والسبعين لاستقلال لبنان، وسط هذه المرحلة تحديداً سواء داخلياً أو خارجياً يعود إلى هدفين؛

الأول الإضاءة على دور الحزب الشيوعي اللبناني في تلك المرحلة وما بعدها على الصعيد السياسي والنضال الوطني والنقابي. ومعرفة فرج الله القائد الحزبي، والزعيم الوطني والرفيق الملتزم والمتواضع. ثانياً، ضرورة آنية للتذكير بأهمية الترابط ما بين التحرير والتغيير، لتحقيق أهداف شعار "وطن حر وشعب سعيد".

لذا، جاء هذا الحوار مع المناضل القيادي الشيوعي، موريس نهرا، لـ "مجلة النداء"، حول نضالات الحزب السياسية والوطنية في معركة الاستقلال، ومواجهة قرار تقسيم فلسطين والسيطرة الإمبريالية، بالإضافة إلى دوره البارز في القضايا العمالية والنقابية والاجتماعية، ليؤكد أن معركة الاستقلال والتحرُر ما زالت مستمرة وتتطلب أشكالاً مختلفة من النضال ...

 

 - ما هو دور الحزب الشيوعي في معركة الاستقلال وما بعدها..؟

لا بدّ من العودة إلى نضال الحزب التاريخي من أجل نيل الاستقلال. فالحزب كان على تصادم مع السيطرة الاستعمارية عبر الانتداب، وكانت نشأته استمراراً لمسيرة نضالية تاريخية ضدّ السيطرة العثمانية على البلد. فكان حزباً من نوع جديد وفي ظروف جديدة، إذ كان هناك ذلك الترابط بين الوجه الوطني الأساسي لنضال الحزب الذي تابع معركة الاستقلال ضدّ الانتداب، وبين الوجه الثاني المتعلّق بالقضية الاجتماعية والنقابية والطبقات الكادحة التي عانت من الانتداب. حيث أن عدم تحقيق الاستقلال يُصعِّب الوصول إلى حكم يعطي هذه القوى الاجتماعية حقوقها. فالانتداب لن يتجاوب مع مطالب الشعب وحقوقه. لذا فإن نضالنا بالشق الوطني لتحقيق الاستقلال، ارتبط أيضاً بالجانب الاجتماعي وبحق التنظيم النقابي وحق الإضراب والتحرك، هذان وجها النضال الأساسيان للحزب منذ نشأته وحتى اليوم ...

وأيضاً خاض الحزب في تلك المرحلة، محطة نضالية تصادمية مزدوجة؛ فكانت من جهة ضد الانتداب، ومن جهة أخرى ضد الفاشية التي كانت تضم تحالفاً ألمانياً، إيطالياً، يابانياً وتركياً ضد الحلف المعاكس. إذ أوائل الحرب العالمية الثانية عام 1939 كان هناك صعوداً للفاشية، ووصلت حكومة فيشي إلى السلطة في فرنسا.. واستخدمت سلطات الانتداب الأسلوب القمعي والفاشي في لبنان وسوريا، وشنّت حملات قمع ضد الشيوعيين والوطنيين عموماً في البلدين. واعتقل فرج الله الحلو ونقولا شاوي وعدد كبير من قادة الحزب وكوادره ومثقفيه وقياديّه النقابيين، وصدرت بحقِّهم أحكام قاسية.

وبعدها طرأت تغيّرات على أوضاع السلطة في فرنسا والقوى المسيطرة، وتمكن جيش فرنسا الحرة بقيادة الجنرال ديغول والجيش البريطاني من هزيمة الجيش الفيشي عام 1941 في البلدين، واستعادت الحياة السياسية في لبنان طبيعتها السابقة، وأُفرج عن المعتقلين.

 

 -  لمحة عن "المؤتمر الوطني" وتحقيق الاستقلال..؟

استمرّ نضال الحزب من أجل الاستقلال ضد السلطة الأجنبية وضد الحرب والفاشية حتى بعد زوال السلطة الفاشية في لبنان. واستكمل الحزب معركته النضالية ضد سلطات الانتداب، والتي بدأت تحتدم منتصف عام 1942 تقريباً، ولعب الحزب دوراً بارزاً فيها فالمسألة لم تنحصر فقط على صعيد المواقف السياسية لشخصيات ذات طابع وطني وغيره، إنما بالتحرك الشعبي في الشارع والساحات...

  عام 1943، تصاعدت الحملة الوطنية للمطالبة باستقلال البلدين وكان الحزب الشيوعي في مقدّمتها. وكان فرج الله الحلو، من موقعه في قيادة الحزب، أحد الرموز الأساسية لتلك الحركة.

وبرزت تناقضات داخل شخصيات السلطة أو المقرّبة منها بين مؤيّد للمطالبة بالاستقلال وبين متمسِّك ببقاء الانتداب. واعترضت سلطة الانتداب على تعديل الدستور واعتبار لبنان دولة مستقلة، فاعتقلوا رياض الصلح وبشارة الخوري في قلعة راشيا.

وتداعت القوى الوطنية لتشكيل تحالف وطني لفرض انتزاع الاستقلال. ولعب الحزب الشيوعي اللبناني دوراً بارزاً في تشكيل "المؤتمر الوطني"، والحفاظ على وحدته وقرارته، وتصليب موقفه بوجه المنتدبين ولإطلاق سراح المعتقلين. وتمثَّل الحزب في المؤتمر بفرج الله الحلو وأرتين مادايان، ورفاق آخرين مثل أنطون تابت ود. جورج حنا والنقابي مصطفى العريس عن الاتحاد العام للعمال والمستخدمين.

وكان للمؤتمر الوطني الدور الأساسي في النضال للإفراج عن حكومة الاستقلال، وتثبيت دعائم الاستقلال بالدفاع عنه، وباستكمال عناصره بإجلاء القوات الأجنبية.

 

وفرج الله الحلو رئيس الحزب والقائد الأول فيه، تمّ تكليفه بأمانة سرّ مكتب التعبئة الشعبية بالمؤتمر. فشهدت العديد من المناطق تحركات شعبية، وامتلأت الساحات والشوارع في المدن بعشرات الآلاف من المتظاهرين من 12 حتى 23 تشرين الثاني. وسقط ضحايا برصاص سلطة الانتداب في أماكن عديدة. أما فرج الله الحلو، الذي كان قائداً للحزب أصبح قائداً على المستوى الوطني كشخصية مهمة وفاعلة بالمؤتمر وقائداً للتعبئة الشعبية والتظاهرات...

 

في 22 تشرين الثاني، تحقق انتصار وطني كبير واضطرت سلطة الانتداب أن تطلق سراح بشارة الخوري ورياض الصلح وتقرّ بالاستقلال، وكان للحزب الشيوعي ولفرج الله الحلو ونقولا الشاوي دوراً بارزاً في تحقيقه. وكذلك في توسيع قاعدة الحزب السياسية والجماهيرية. إذ كان للحزب تقديراً كبيراً من كافة الأطراف التي تشكل منها "المؤتمر الوطني". وقد برز فرج الله القائد الشيوعي وأيضاً كشخصية وطنية بالوقت ذاته، مما وضع الحزب بمكانة كبيرة وصارت الشخصيات الوطنية والسياسية تحرص على المشاركة في احتفالاته ومناسباته، وحضر رياض الصلح لتهنئة الحزب بمؤتمره الوطني الأول تقديراً لدوره.

 

  • ما هي أبرز قرارات المؤتمر الوطني الأول للحزب؟

بعد الاستقلال، عقد المؤتمر الأول للحزب الشيوعي في سوريا ولبنان بين 31 كانون الأول عام 1943 و3 كانون الثاني 1944، وكان انعقاد المؤتمر والقرارات التي صدرت عنه، تأكيداً لذلك الدور الذي لعبه الحزب في البلدين، ولترسيخ وتثبيت وجوده كمكوّن أساسي من مكوّنات الحياة السياسية في البلاد.

وأقرّ المؤتمر تشكيل قيادتين منفصلتين لكلٍّ من الحزبين في لبنان وسوريا ولجنة مركزية لكلٍّ منهما وبرنامجاً وطنياً خاصاً، لأن لكلِّ بلد منهما خصوصياته وأوضاعه. وانتخب فرج الله الحلو في ذلك المؤتمر رئيساً للحزب اللبناني.

 

-   ماذا عن تحقيق الجلاء..؟

لعب الحزب الشيوعي دوراً أساسياً في المعركة الوطنية لتحقيق الجلاء عن لبنان وسوريا، وأرسل الحزب نقولا الشاوي ليؤازر الوفد الرسمي للحكومة اللبنانية في الأمم المتحدة، فكان له الدور المباشر عبر لقاءاته مع الحزب الشيوعي الفرنسي والإنكليزي، كما ساهم في تحقيقه الفيتو السوفياتي الذي استخدم لأول مرة في مجلس الأمن في عام 1946 لصالح البلدين، عبر تعاطيه مع مندوب الاتحاد السوفياتي الذي أخذ موقفاً بالاستقلال والجلاء لصالح لبنان. وأُقيمت استقبالات شعبية كثيرة في بيروت وبلدات الساحل وصولاً إلى وطرابلس عند عودة الرفيق نقولا الشاوي إلى لبنان.

 

  • مسيرة الحزب تلك الفترة نقابياً وسياسياً..؟

لقد خلق الانتصار على الانتداب حالة نهوض؛ على الصعيد الحزبي، وأيضاً على صعيد الحركة العمالية والنقابية، فتكاثرت النقابات وتأسس الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين في لبنان، ولعب الشيوعيون دوراً أساسياً في قيادته، وكان القائد الأول برئاسة هذا الاتحاد المناضل الشيوعي مصطفى العريس. وبالتالي بدأ النضال على جبهتين؛ جبهة استكمال الاستقلال بتحقيق الجلاء، والجبهة العمالية والنقابية. ونفذت خلال هذه الفترة إضرابات عمالية كبيرة، طرحت ضرورة إقرار قانون عمل (تحديد ساعات العمل، إعطاء فرصة سنوية مدفوعة، إقرار الحقوق الصحية للعامل كالعلاج أو الأخذ بتقرير الطبيب بالراحة..).

عام 1945، جرى إضراب وتحرّك نقابي وعمالي كبير فرض إقرار قانون العمل في لبنان، وتحقق عام 1946. وأعتقد إنه كان قانون العمل الأول في الشرق العربي. وما زال حتى الآن المرجع الناظم للعلاقة بين الأُجراء وأرباب العمل، سواء في القطاع العام والقطاع الخاص.

 

لقد أخذ نهوض الحركة العمالية والنقابية بقيادة الحزب الشيوعي وقياداته يقلق البرجوازية عام 1947، وشعرت السلطة الحاكمة بالخوف من الدور الكبير الذي سيلعبه الحزب بالانتخابات المقبلة، وسيحصد ثمار نضاله ومكانته في الاستقلال والقضايا الاجتماعية. لذا عمدوا إلى تزوير نتائج الانتخابات بشكل فاضح جداً ومكشوف. إذ برزت جماهيرية الحزب وقابلية الناس على انتخاب فرج الله، الذي حاز على أكثر من 9 آلاف صوتاً لوحده، مقابل القائمة التي ضمّت 18 مرشحاً في لائحة واحدة بالدائرة الانتخابية حازت على 14 أو 16 ألفاً فقط.

 

يُشار أن فرج الله عمل قبلاً على جمع مزارعي الدخان من عدة قرى في جبيل ووحَّدهم بتحرك لرفع سعر التبغ، والذي هو اليوم قضية آنية في الجنوب. وكان يرى أهمية علاقة الشيوعيين مع الناس الذين لديهم مصالح ومطالب من هذا النوع؛ أولاً لتعزيز ثقة الناس فيهم، وإبراز طابعهم النضالي المخلص، وثانياً لدور هذه التحرّكات المطلبية في تكوين الوعي، وهي مسألة أساسية لدى الشيوعيين، فالفكر الشيوعي بالأصل هو وعي وعلم وتوجّه لمعرفة الواقع الملموس، والمهام النضالية تتحدّد في ضوء ذلك.

 

-   ملابسات رفض فرج الله لموقف الحزب حول تقسيم فلسطين؟

عرف فرج الله بموقفه الثابت من القضية الفلسطينية وله كتابات كثيرة عنها، وقد حذّر مراراً من المخططات الاستعمارية والصهيونية، معلناً رفضه وعد بلفور. واعتبر أن فلسطين عربية ولشعبها الحق الشرعي بالحصول على استقلالها وإقامة الدولة الفلسطينية عليها، كما اعتبر أن للأقلية اليهودية الحق في الوجود، ضمن الدولة الفلسطينية المنشود قيامها.

وافق الاتحاد السوفياتي على قرار تقسيم فلسطين في 27 تشرين الثاني عام 1947. بالرغم أنه كان هناك توافق ما بين الحزب الشيوعي اللبناني والأحزاب العربية وبين الموقف السوفياتي باستقلال فلسطين من الانتداب، وكأن الانتداب الممر للمنظمات الصهيونية ولحمايتها وتسليحها وتدريبها، ولضرب الفلسطينيين وإضعاف مقاومتهم.

 في ظلّ ميزان القوى بمجلس الأمن في ذلك الوقت وقبول الاتحاد السوفياتي بالتقسيم، كانت معظم السلطات العربية تابعة للدول الاستعمارية. وحينها كان الحزب الشيوعي ما زال بقيادة مشتركة بين سوريا ولبنان. وأخذت قيادته موقفاً مع التقسيم انسجاماً مع علاقتها مع الاتحاد السوفياتي وموقفه، بينما أخذ فرج الله الحلو موقفاً آخراً، وأصرّ أن ينطلق الحزب من موقف مبدأي ففلسطين لأهلها، ولم يكن الحديث عنصري محرّض ضدّ اليهود العرب، بل كانت وجهته أن تعيش جميع الديانات في دولة فلسطينية ديمقراطية.

حينها استُغِل هذا الأمر لتغطّي السلطات تخاذلها حيال قضية فلسطين وتواطؤها مع الدول الاستعمارية فشنّت حملة واسعة ضد الأحزاب الشيوعية في المنطقة ومنها حزبنا.

وبعد تدخل القيادة كتب فرج الله الحلو (رسالة سالم) وتضمّنت نقداً ذاتياً بدا تكراره عدة مرات لإضعافه، وهو اضطر للقبول بسبب عمق ارتباطه بالحزب وقناعته بفكره وإدراكه بضرورة استمرار هذا الحزب ودوره.. وقد ألغى المؤتمر الوطني الثاني عام 1968، "رسالة سالم" مؤكّداً صحة موقف فرج الله.

 

يُذكر، أنه صدرت قرارات عدة من اللجنة المركزية المشتركة بعد الاستقلال والجلاء، وبالخمسينيات حول فصل الحزبين عن بعضهما، ليس كُرهاً، وإنما لضرورة أن يعمل كلٌّ منهما وفقاً لظروف وخصوصية الوضع في بلده. ولم يتحقق هذا الانفصال إلّا وسط ظروف غير سهلة في أواسط الستينيات وعدم رضى القيادة العليا.

 

-  ماذا عن الاغتيال..؟

عام 1959 فوجئنا بخبر اعتقال فرج الله الحلو في سوريا، وبأن مصيره مجهول، خُضنا حملات واسعة بالمتن، والجبل حيث ترشّح فرج الله سابقاً، وأصبح له شعبية واسعة من مواطنين غير شيوعيين، فقد أحبّوه واحترموا مواقفه ونضاله ودماثته بالعلاقة المميّزة بالاهتمام بالآخر والإصغاء له.

وعرفت لاحقاً أن الذي أخذ فرج الله الحلو إلى سوريا بسريّةٍ تامّة في 26 حزيران 1959، هو سائق شيوعي من انطلياس يقصد الشام يومياً ليوزّع الجرائد اللبنانية. ودخل فرج الله البلد بهوية تحمل إسماً آخر لأنه سيعتقل. وكان ذهابه إلى سوريا، يحمل الكثير من المخاطر عليه تحديداً، ولا سيما بعد تنفيذ حملات قمع واعتقالات وتعذيب من قبل مباحث وزير الداخلية عبد الحميد السراج، الذي كان ينفّذ أو يقود حملات ضد الشيوعيين في ظلّ الوحدة، خاصة بعد أن أصدر خالد بكداش بياناً من 13 نقطة؛ لإعادة النظر بأسس الوحدة. واعتبار السلطة أن الحزب ضد الوحدة.

إن اعتقال أعداد كبيرة من كوادر الحزب وإخراج أعداد منها إلى الخارج، أثّر على بعض منظمات الحزب وجعلها تفتقد لهيئات ناظمة قيادية وناشطة، وبخاصة في الشام. لذا دخل فرج الله الحلو إلى سوريا باسم مستعار في تلك الليلة، وكان متوجّهاً إلى بيت سري، يعرفه رفيق رضا، الذي كان موجوداً مع المباحث بانتظار فرج الله، حيث اعتقل فور وصوله، وعُذّب في الليلة نفسها بشكل وحشي واستشهد عند الفجر تحت التعذيب، إذ رفض إعطاءهم أي معلومات حول الوجهة التي يقصدها، والرفاق الذي سيلقاهم ليعملوا على إعادة تنظيم الهيئات، وبقي صامتاً. وحتى باستشهاده، كان الإنسان الشيوعي القائد، فالحزب والشيوعيون كانوا موجودين بعمق وجدانه وضميره. فرج الله كان بكلّ سلوكه مدرسة نضالية للشيوعيين وللمناضلين الوطنيين ولحَمَلة المفاهيم الماركسية اللينينية...

 

بعد الاختفاء، جرت حملات واسعة لبنانية وعربية وعالمية شعبية وإعلامية... وعالمياً سُئل عبد الناصر عن فرج الله الحلو، ولبّى بدوره مطالب خارجية من الحزب الشيوعي السوفياتي والهند وسواهم، وأرسل مكتوباً رسمياً لعبد الحميد السراج يسأل عنه، فأجابه أن اسم فرج الله ليس ضمن الوافدين، فهو لم يدخل الأراضي السورية.

السراج بقي على جوابه، وكوزير داخلية خاف جداً عندما أبلغوه أن فرج الله الحلو استشهد، فطلب منهم عدم إخبار أحد وإخفاء الجثة، وكان أحد أفراد المباحث، سامي جمعة، الذي قاد عملية الاعتقال والتعذيب، يملك بستاناً خارج الشام، دفنوا فرج الله فيه لإخفاء معالم الجريمة، ولكن لاحظوا مرور سيارة مرتين من المكان أثناء عملية الدفن، وتخوّفوا من كشف القبر وتحويله لاحقاً مزاراً للشيوعيين، فأعادوا نبشه وعملوا على تقطيع الجثة ووضعها في حوض الاستحمام وذوّبوها بالأسيد، ثم سرّب الجسد المذوّب إلى مجاري نهر بردى.

وبعد انتشار خبر استشهاد القائد فرج الله الحلو، أُجري له احتفالٌ جماهيري ضخم في بلدته حصرايل، شارك فيه ما يزيد عن 20 ألف شخص. ولم تسطع الحشود الوصول، وامتلأت الطرقات من عمشيت إلى حصرايل بالناس والسيارات.

وإضافة إلى دور فرج الله الحلو الوطني والنضالي ودوره الطبقي والحزبي والتنظيمي أصبح نموذجاً للشهيد الشيوعي الذي يضحّي بكلّ شيء في سبيل قناعته وضميره وقضية حزبه وشعبه ووطنه.

 

-  حدّثنا عن فرج الله وانضمامه للحزب..؟

فرج الله الحلو كان قائداً كبيراً شديد التواضع، يعتمد الأسلوب الديمقراطي والقناعة في علاقاته مع الشيوعيين والحزب وهيئاته. ولم يستخدم يوماً الأسلوب الإداري أو التعسّف، عُرِف بحبّه للبلد والشعب كثيراً.

ولد عام 1905 في بلدة "حصرايل" (محافظة جبل لبنان) ونشأ وسط أسرة متواضعة من طبقة شعبية كادحة، وتعلم في مدرسة عمشيت وبعدها قرّر إيجاد عمل لمساعدة أهله، فانتقل إلى حمص وعمل كأستاذ وأيضاً أكمل دراسته فيها، وتعرّف هناك على المثقف الكبير - ناصر حدة - مفكّر ماركسي. وكان فرج الله يحب القراءة كثيراً ويقرأ لجبران خاصة كتاباته الداعية للتمرّد، ورواد النهضة اللبنانية والعربية الأوائل ضد العثمانيين وطروحاتهم التحرّرية والوطنية والعروبية. فتُوّجتْ هذه القراءات بمعرفته بناصر حدة بالماركسية وهنا حصل الترابط الفكري بين ما امتلك من دوافع اجتماعية وطبقية ووطنية، وضد أي سيطرة أجنبية، وبين الفكر الماركسي الذي اعتبره فرج الله دائماً كمرشد لقراءة واقعنا حتى نتمكن من تطبيقها على ظروفنا، وليس لتطويع واقعنا للفكر، لقد كان مميزاً بهذه المسائل كثيراً.

 هو انتمى للحزب عام 1931 تقريباً، واعتنق الفكر الشيوعي قبلها. كان يربط دائماً بين النضال المطلبي والجزئي وبين الأبعاد الذي يحملها تدريجياً على صعيد الوعي وتكوين الوعي الأشمل وكشف الصراع الذي له طابع طبقي مع السلطة والطبقة التي تمثلها.

 

  • برأيك لماذا الإصرار الرسمي على تجاهل دوره فرج الله البارز في تحقيق الاستقلال..؟

بالرغم من دور الحزب الشيوعي وفرج الله الحلو في معركة الاستقلال، إلّا أن المسؤولين اللبنانيين قد مارسوا طمساً متعمَّداً لتلك الأدوار التاريخية لقادة الحزب، وفي مقدّمتهم فرج الله الحلو، في تحقيق الاستقلال، وفي استكماله بتحقيق الجلاء.

وبعد إصرار الدولة اللبنانية، على تجاهلها لاعتبار فرج الله الحلو من رجالات الاستقلال شكّلنا وفداً قيادياً من الحزب، وقمنا بزيارة رئيس الجمهورية ميشال سليمان ابن عمشيت عام 2011 كما أذكر، وطرحنا أمامه أن فرج الله الحلو من كبار رجالات الاستقلال، وتساءلنا لماذا يتم تجاهله، حيث توضع أكاليل على أضرحة رجالات الاستقلال بمناسبة الاستقلال، باستثناء فرج الله الحلو وهو من كبير المناضلين من أجل الاستقلال، وتمنينا العمل لاعتباره رسمياً من رجالات الاستقلال على الأقل. أجابنا أنه يعلم بعض الأمور عن دور فرج الله بمعركة الاستقلال. ووعدنا ببحث الموضوع لم نعلم مع من، وبعد فترة قصيرة أجابنا بالرفض.

وبرأيي، قرار رفض اعتبار فرج الله من رجالات الاستقلال، يعود إلى الموقف من الحزب الشيوعي، أولاً إن فرج الله الحلو لم يكن لشخصه، بل كان معبّراً عن فكر حزبه ونضال حزبه. ثانياً، ربما هناك صعوبة أخرى لها علاقة بتركيبة النظام الطائفي والتوازنات الطائفية، يعني، إذا، فرج الله الحلو يجب أن يكون من رجالات الاستقلال، قد يضطر الموارنة إيجاد أشخاص من الطوائف الأخرى ليتم الاعتراف بها. هذه التركيبة العجيبة التي لم تبنِ بلداً ودولة ولم تؤسس وطناً ولا ثبّتت السلم الأهلي، كانت أيضاً من العقبات بهذا المجال، إضافة إلى كونها عقبة بطريق لبنان كدولة ووطن...

هم رفضوا اعتباره من رجالات الاستقلال، لأسباب سياسية وطائفية، ولكن نحن نعتبره من كبار رجال الاستقلال وهو كذلك. ونحرص كل عام على زيارة تمثال فرج الله الحلو في ساحة بلدته حصرايل ونضع أكاليل من الورد، فهو ليس فقط قائد حزبي وشهيد كبير، بل مناضلاً كبيراً للاستقلال.

 

-   ما تعليقك بالذكرى الـ 78 على الاستقلال..؟

إن الاستقلال لا يُحدّد فقط بتاريخ انتزاعه بيوم محدّد، بل هو عملية بناء وعمل ونضال مستمر وإلّا يفقد ركائزه ومضامينه ويصبح كلام شعرٍ أو أغنية لا يأخذ الطابع الحقيقي وفعاليته الحقيقية.

للأسف الاستقلال الحالي ليس استقلالاً. وخير دليل على ذلك وضع البلد وما عليه الاستقلال اليوم، وخصوصاً بعد التمزّق الفظيع الذي سببه الرئيسي الطابع الطائفي للنظام وتحاصصاته ومعاييره، بالإضافة إلى الاقتصاد الريعي المعتمد في البلد والذي يعمّق التبعية ولا يخفّف منها لمراكز الرأسمال بالخارج... هذا الوضع مع قضية المرفأ والتدخلات الكبيرة والتهديدات بشلّ الحكومة الذي يُظهر هشاشة الاستقلال الذي فقد مضمونه، وأصبح الاستقلال مثل أي يوم عادي يمرّ وكأنه غير مرتبط بتاريخ نضال الشعب لتحقيقه، إذ لم يُتابع بنضال يبني دولة الاستقلال لتحافظ على ركائز هذا الاستقلال. ولذا نرى في عيد الاستقلال مناسبة للإضاءة على الخلل الذي قام به النظام والطبقة السلطوية بالدولة والوطن والسلم الأهلي وبالاستقلال، من أجل أن نناضل نحن وشعبنا والفئات المتقدمة والوسط الثقافي الوطني والديمقراطي معاً لبناء دولة استقلال.

لقد كنّا بانتداب وحالياً تم استبداله بالتبعيات. فالتبعية موزّعة باسم الطوائف الموروثة بتركيبة السلطة منذ أيام الانتداب واستمرت، فهذا النظام يتيح لكلّ زعامة طائفة أن تصبح تابعة لمرجعية خارجية لهذه الدولة أو تلك. والمشكلة أن هذا التعدّد في لبنان بدل من أن يعطي ثماراً وثقافة مهمة ومثالاً للمنطقة والعالم يتحوّل إلى تعدّد متصارعين في الداخل وينقل بسبب تبعياتهم إلى الخارج صراع دول بين بعضها إلى لبنان.

عدا إن الطائفية بدأت تتحوّل وتأخذ طابعاً سياسياً، كيانات سياسية استُخدمت الطائفية لضرب العاميات الفلاحية الشعبية، عامية انطلياس 1840 الذي التقى فيها فلاحين من كافة الطوائف ضد الإقطاع والسلطنة العثمانية، عمدوا إلى ضرب هذه الحالة عبر تقسيم منطقة جبل لبنان؛ شمالاً يكون القائمقام أو الحاكم مسيحي ومن طريق الشام وجنوباً يكون من الطائفة الدرزية. هنا كانت البداية الأولى لزرع الطائفية السياسية على مستوى السلطة.

وللعلم الدستور عدل 3 مرات في دولة الانتداب وليس هناك أي شيء مقدساً. الإنسان هو أعلى قيمة في الوجود. فالواقع متحرك والتوازنات متحركة بطابعها السياسي والطبقي والاجتماعي.. وبالتالي لا يوجد جمود. ومن المفترض أن يلبّي الدستور ويعبّر عن مطامح الحالة الشعبية والواقع القائم، فالواقع المتحرك ينشئ حاجات جديدة بحاجة إلى تلبية بالقوانين ومواد دستورية وغيرها.. ولكن بقي كلّ شيء جامداً وبقيت التبعية بوجهها الاقتصادي والمالي والتبعية بالتركيبة الطائفية، والتبعية بالسياسة العامة.

-  ما وجه الشبه ما بين مرحلة الانتداب والنفوذ الإمبريالي اليوم؟

الجديد هو أن الإمبريالية ومخطّطاتها العدائية لا تستخدم فقط العدوان العسكري الذي يواجه بالمقاومة، بل تستخدم أشكالاً عديدة منها الشكل الاقتصادي أو السياسي والثقافي وأيضاً المالي بالحرب الاقتصادية والعقوبات. وكلّ هذه الأشكال منافذ في البنية الداخلية لتمرير تدخلات الإمبريالية ومخططاتها. فإذا قاتلناها كلّ 15 سنة مرة، ماذا نفعل بالسنوات الباقية..؟ فحالياً نعاني من تأثير النفوذ الإمبريالي عبر الوضع اللبناني وتركيبته، وباتت تناقضاته وصراعاته الطائفية، فرصة للإمبريالية وللعدو الصهيوني، ومدخلاً لتدخلها وسيطرة نفوذها في لبنان عبر إدارة الصراع فيه وفي المنطقة.

ثانياً، ما زلنا تابعين وخاضعين بما يتعلق بالشأن الاقتصادي وغياب السياسة الإنمائية في البلد لتبني اقتصاداً منتجاً ليكون ركيزة للاستقلال، وخير دليل ما يحصل حالياً. فالإمبريالية لم تأتِ بالقوة الآن عبر إنزال أساطيل، ولكنها تُخضع لبنان الذي يعيش أزمة وانهيار، لكي يقبل المساومة عبر الأميركان مع "إسرائيل" بشأن الغاز والثروة البحرية وغيرها. إذن، مقاومة الإمبريالية لا يجب أن تقتصر على الشأن العسكري، بل يجب أن تكون مقاومة شاملة، وإلى الجانب العسكري عليها أن تواجه بالأشكال الأخرى، وإلّا يمكن تشبيهها بالذي يحاول حماية أعينه بشكل أو بآخر، ولكن يُضرب رأسه أو قلبه... ومن الضروري أن يحصّن حاله أمام الهجمات المعادية بكلّ أشكالها الوبائية والاقتصادية والسياسية.. إلخ.