الاستقلال الضائع ومقتضيات استعادته

للاستقلال في بلدان العالم اهمية ومعاني كبيرة، يشعر معها الشعب بالاعتزاز والكرامة الوطنية. اما عندنا في لبنان فعلى الرغم من المسيرة الوطنية النضالية الطويلة ومعركة الاستقلال، ومن تضحيات مقاومة شعبنا في الانتصار على الاحتلال الصهيوني وتحرير الارض تمسكاً بالاستقلال وحرية الوطن،

نجد ان ملامح هذا الاستقلال تتضاءل عاماً بعد آخر، ويخفت نور شعلته، وعلى الاخص في السنوات العشر الاخيرة. فيأتي عيد الاستقلال هذا العام، والوضع اللبناني في حالة انهيار مخيف قلما شهدت بلدان العالم مثله. فالاستقلال الذي كان لبنان من اوائل بلدان المنطقة في انتزاعه عام 1943، تحول لبنان في ظله الى مجرد ساحة مفتوحة على صراعات داخلية وخارجية وصلت الى تغييب السيادة والاستقلال، والى شللٍ واضمحلالٍ تدريجي لدور الدولة ومؤسساتها بما فييها استقلالية القضاء. مما يجعل الوحدة الداخلية مهتزة والاستقرار والسلم الاهلي مهدداً. فيتسبب بفلتان أمنيّ وغذائي وصحي ومجتمعي، الخ... ويبقى الوضع اللبناني رهينة صراعات داخلية متداخلة مع الخارج.

وبالطبع لم يكن الاستقلال منة من احد. فقد جرى انتزاعه بتضحيات ونضالات شعبية، وبجهود قوى وشخصيات وطنية تجلت بوحدة ودور المؤتمر الوطني الذي قاد التحرك الشعبي الكبير في المدن والساحات، من 12 تشرين الثاني 1943 حتى 23 منه، والذي كان للحزب الشيوعي اللبناني دوراً فاعلاً فيه، وبخاصة قائده فرج الله الحلو الذي اختاره المؤتمر مسؤولاً عن مكتب التعبئة الشعبية. وشارك معه في عضوية المؤتمر، مصطفى العريس، ارتين مادويان، انطون ثابت وجورج حنا. ومع ان هذا الاستقلال الفتي، كان يستدعي نهجاً سياسياً تغييرياً وإستقلالياً، إقتصادياً وسياسياً، يطال الاسس الطائفية للنظام، ويوحد اللبنانيين، ويبني اقتصاداً منتجاً، لجأت الطبقة السلطوية الى استغلال الاستقلال وتوظيف طائفية النظام، لمصالحها الخاصة وسيطرتها الطبقية، بعيداً عن مصالح الشعب ومقتضيات تعزيز الاستقلال. وكان الامعان بسياستها هذه وتمسكها بالنظام القائم، يرمي الى حماية فسادها وجشعها.

ورغم ما الحقته الحرب الاهلية التي استولدها هذا النظام وسياسات سلطته بالبلاد والشعب من مآسي ودمار، جرت بعد إتفاق الطائف اعادة تركيب السلطة والنظام بمساومات داخلية وخارجية على الاسس نفسها التي تبقي على الانقسامات والصراعات الداخلية، والتبعية للخارج الاقليمي والدولي، فتفقد البلد استقراره واستقلاله، وتبقيه مجالاً لاستغلال وفساد زعامات الطوائف السلطويين.

لقد ادت كل هذه العوامل والتناقضات الى تفاقم المشكلات وتحولها الى ازمات وتراجع وانهيار. فاضحى الاستقلال انفصاماً للطبقة السلطوية عن مصالح الوطن وبناء مرتكزاته الاستقلالية. ونجم عن تراكم عجز الطبقة السلطوية عن المعالجة والحلول، وانكشاف نظامها، ضائقة معيشية وانهيار اقتصادي ونقدي واجتماعي ونهب للمال العام. فادى ذلك الى انتفاضة 17 تشرين الضخمة التي أظهرت تنامي إستقلالية الشعب عن التبعية للزعامات، والتفلت من عباءتهم. فقد عبرت هذه الانتفاضة عن إستياء الشعب وفقدان ثقته بالمنظومة السلطوية والمطالبة باسقاط النظام وسلطته. ولم تستطع الاطراف السلطوية رغم كل المحاولات والاساليب، ان تطفىء شعلة هذه الانتفاضة، وازالة المناخ الذي خلقته في نفوس الناس والشباب ووعيهم. وقد تجلى ذلك بالنجاحات التي حققها طلاب الجامعات بانديتهم العلمانية والمستقلة عن احزاب السلطة، التي كانت في كل مرة تتحد في مواجهتم. كذلك في انتخابات نقابات مهمة. وقد كان رد الطبقة السلطوية في التعبير عن خوفهامن دور الشباب، حرمان من هم في سن 18 سنة من حقهم في الاقتراع، وعدم الاهتمام بتدابير اصلاحية تخلق فرص عمل تقلص هجرة الشباب الى الخارج.

إن اتساع عملية تحرر الناس من التبعية للزعامات، تؤشر الى عملية تنامي الوعي وضرورته ليتحول من خلال الشعب الى قوة فاعلة لتحقيق التقدم والتغيير، وبالتالي لإستعادة الاستقلال الضائع وبناء الدولة المستقلة، دولة المواطنة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية التي تزيل الحواجز الطائفية من طريق وحدة الشعب وبناء وطن حر. فالاستقلال لا يستعيده من أضاعه. والشعب هو من يصنع التغيير والنهج الاستقلالي للدولة ومقتضياته، ولا يكفي هنا الاستياء الشعبي من المنظومة السلطوية، فالمطلوب هو إدراك ضرورة مشروع بديل حقيقي، تتلاقى حوله كل القوى والاوساط الطامحة الى التغيير وبناء دولة الإستقلال.