هزيمة "ماكري" التمهيدية: جرعة زائدة من النيوليبرالية

أُجريَتْ الانتخابات التمهيدية في الأرجنتين، في الحادي عشر من الشهر الحالي، وشكّلت انتصاراً شعبيّاً مدويّاً في وجه واشنطن، إذ هُزِم مرشح حزب «كامبيموس» (لنغيّر)، ماوريسيو ماكري، الموالي لها، والذي سحقته الصيغة البيرونية التي حملاها مرشحا حزب «العدالة» ألبرتو فرنانديز بصفته مرشّحاً للرئاسة وكريستينا دي كيرشنر نائبة للرئيس. وبهذا، يكون الشعب الأرجنتيني، الذي توجّه بكثافة إلى صناديق الاقتراع، قد وجّه ضربة قاسية لأعداء الطبقة العاملة، لماكري، وواشنطن، وصندوق النقد الدولي، الذي لعب كل أوراقه لإعادة انتخاب ماكري، وأقرضه حوالي 57 مليار دولار.

بين اليوم والأمس
تعاني الأرجنتين اليوم من الركود الاقتصادي، وواجهت في العام 2018 نسبة فقر بلغت 32 في المئة، وتضخّماً بلغت نسبته 47.6 في المئة والذي أصبح 55 في المئة هذا العام. ولا شكّ أنّ هذا الركود أثّر سلباً على شعبية ماكري الساعي لولاية ثانية. فخلال أربع سنوات رئاسيّة له، منذ عام 2015، أنتجت سياساته الاقتصادية، بالتنسيق مع صندوق النقد الدولي، تخفيضاً للأجور، مئات الآلاف من التسريحات للعمّال، تعريفاتٍ باهظة وضرائبَ موجِعة، وجوعاً وبؤساً في صفوف الشعب الأرجنتيني الذي بلغ عدد فقرائه الجدد أربعة ملايين. بينما حوّلت السياسات نفسها هذه المداخيل لأصحاب الأموال في مجال الطاقة والمناجم والمصدرين الزراعيين الكبار ودعمت خدمات الكهرباء والغاز والماء والنقل التي ارتفعت أسعارها بما يصل حتى ألف في المئة. ما أدّى إلى اندفاع البورصة، وحظر التمويل الدولي وما ترتّب على ذلك من السياسات الجائرة لصندوق النقد الدولي.
وفي تاريخٍ ليس بالبعيد، في كانون الأول/ ديسمبر من العام 2001، شهدت الأرجنتين تمرّداً ضدّ حكومة فيرناندو دي لا روا، بعدما عانت الأرجنتين من أزمة اجتماعية واقتصادية خانقة سبّبتها السياسات النيوليبرالية، وسياساتها التقشفية في محاولة لسداد ديونها الخارجية البالغة 132 مليار دولار أميركي. دفعت الاحتجاجات الشعبية آنذاك الحوكة إلى الاستقالة، ودي لا روا إلى الفرار بطائرة هليكوبتر من لا كازا روزادا، حيث القصر الجمهوري. فاجتمع المؤتمر الوطني وانتخب رئيساً جديداً لمدة ثلاثة أشهر مع الدعوة للإنتخابات ، فجاء إلى سدة الحكم أدولفو رودريغث سا، الذي ما لبث أن استقال بعد ثمانية أيّام، وخلفه على الحكم إدواردو دوالده، الذي انتخبه المؤتمر الوطني عام 2002، واستقال بعد سنة ونادى بانتخابات مبكرة. وتولّى بعد ذلك الحكم نيستور كيرشنير من عام 2003 إلى 2007، ونجح، إلى حدٍّ ما، خلال السنوات الأربع التي قضاها في الحكم في إعادة الاستقرار إلى الاقتصاد الأرجنتيني بعد انهياره إثر الأزمة. وخلفته على سدة الحكم زوجته كريستينا فيرنانديز دي كيرشنر من العام 2007 حتى عام 2011 ، وأعيد انتخابها لفترة ثانية في 2011، وتمثّلت سياساتها الاصلاحية بتوسيع نظام الضمان الاجتماعي وتأميم بعض الشركات، وخلال فترة حكمها، ساءت علاقة الأرجنتين بالولايات المتحدة، واتهمتها الأخيرة بالوقوف وراء الأزمة المالية في بلادها. لم تكن فترة حكم كيرشنر وزوجته مثالية من العام 2003 حتى 2011. فرغم القيام ببعض الإصلاحات، وتحقيق بعض من المطالب الشعبية، لم يتم التمكن من تنفيذ الإصلاحات الهيكلية المقترحة للتنفيذ.
وبحلول عام 2015، عاد أولئك الذين أُجبروا على الفرار بعد أربعة عشر عاماً عبر "الباب الأمامي"، حيث سمحت حكومة «كامبيموس» بانتصار ماكري وتكلله كرئيس. كان الهدف الأساسي للحكومة اليمينية هو الانقضاض على ما تحقّق بعد عام 2001، وإلحاق هزيمة دائمة بالقطاعات الشعبية، وتعزيز إعادة الهيكلة التراجعية للرأسمالية الأرجنتينية، وتعديل النموذج التراكمي على حساب السوق الداخلية، الشركات الصغيرة والمتوسطة، والطبقات المتوسطة والفقيرة من الشعب.


سياسات صندوق النقد الدولي وفراغ السلطة
بالنسبة للنظام الانتخابي الأرجنتيني، شكّلت الانتخابات التمهيديّة استطلاعاً بحدّ ذاته، لكنّها لا تغيّر شيئاً. وهذه الفترة الانتقالية افتراضية، لأنه لم يتم انتخاب رئيس جديد ولا كونغرس جديد. أمّا الانتخابات العامة ستُجرى في تشرين الأوّل/أكتوبر ستحسم الأمر. وإذ دفنت قوة نتائج الانتخابات التمهيدية (47.4 ٪ لفرنانديز مقابل 32.3 ٪ لماكري) فرص المرشح الرسمي، تمّ الحديث عن "النصر الشعبي" بمعزلٍ عن الحكومة التي ستحل محل ماكري، أو المشروع البديل الذي يريده الشعب. وهو ما يجعل الوضع متوتراً وغير واضح المعالم. وليس ما فعله صندوق النقد الدولي، من دعمٍ لماكري، سوى توريط للأرجنتين ووضعها على حافة الانهيار، فلا شكّ أنّها ستتخلّف عن السداد.
وهذا ليس بجديد على الأرجنتين التي شهدت في العقد الأخير من القرن الماضي إفلاساً ماليّاً بسبب ترتب عليه آثار اجتماعية وإنسانية وخيمة بسبب الخصخصة الواسعة التي شملت قطاعات النفط والبنوك والخطوط الجوية، إلى فقاعة اقتصادية مؤقتة، والتي بيّنها أرنست فولف في كتابه «صندوق النقد الدولي قوة عظمى في الساحة العالمية».
ولعلّه في عام 2019 يكون مصير ماكري كنظيره دي لاروا، الذي سقط بسبب "جرعة زائدة من النيوليبرالية" حسبما أفاد الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز، عام 2001، في برنامجه الإذاعي الأسبوعي «ألو بريسيدينتي»، طالباً من مواطنيه "النظر في المرآة المؤلمة للأرجنتين قبل الدعوة إلى التحرير الاقتصادي" لإقناعهم بالحاجة إلى إلغاء السياسات النيوليبرالية. وقد قدّم تشافيز، آنذاك، نصيحة، قائلاً "الاتحاد البوليفاري هو السبيل أمام شعوب أمريكا اللاتينية، ولا يوجد شيء آخر لمواجهة الفقر وعدم المساواة".

آفاق "أرجنتينية"
تشكل هذه الهزيمة المدوية للماكروية في الانتخابات التمهيدية ضربة لليمين ولمصالح الولايات المتحدة في المنطقة، لكنّ هذه الهزيمة لا يمكنها أن تُستكمل إلّا مع التعبئة الشعبية ضدّ سياسات النيوليبرالية وصندوق النقد الدولي. فهل يستطيع الشعب الأرجنتيني الذي حقّق هذه الضربة، أن يوسّع ضربته؟ وهل تتوقف الحكومات المصرة على اتباع وصفات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، قليلاً، للتأمل وأخذ العبرة؟

 

 

  • العدد رقم: 363
`


غدي صالح