لافروف في الخليج.. زمن ملء الفراغ


فتحَ تدخُّل روسيا في الحرب السورية، أواخر سنة 2015، شهية القيادة الروسية للتدخُّل في مناطق نزاع وعدم استقرار أخرى فرأينا موسكو تتدخَّل في ليبيا وفينزويلا، وتسعى إلى إقامة قواعد عسكرية في غير مكان. ومع لامبالاة أميركية تجاه النشاط الروسي المحموم في هذه المناطق، وربما مباركة، ازدادت هذه الشهية إلى درجة إقدام الروس على استغلال الفرصة، بعدما لمسوا قلة اهتمام أميركي بدول الخليج العربي وتعليق بيع أسلحة أميركية لها، فزار وزير الخارجية الروسي ثلاث دول خليجية، لتكون زيارته لافتة لأسباب عدة. فهل يفكر الروس في اقتناص فرصة الفراغ الذي سببه الإحجام النسبي الأميركي من أجل ملئه، وربما ملء جعبة هذا الوزير بعقودٍ واعدةٍ...؟ الفروق بين القوتين تجعل هذا الطريق مليئاً بالموانع السياسية والاقتصادية.


بسرعةٍ كبيرةٍ اغتنمت روسيا الفرصة بعد تعليق الرئيس الأميركي، جو بايدن، بيع الأسلحة للمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة فذهب سيرغي لافروف لعرض أسلحة روسية عليهما، تعوِّض نقصاً وارداً وخطيراً في إمداد أسلحة هاتين الدولتين، ولا سيما من الأسلحة الدفاعية في ظل هجمات الحوثيين المتزايدة على السعودية بمفخخات مسيّرة وأسلحة بالستية. وتُعدُّ السرعة في ترتيب الزيارة، التي بدأها في الامارات، في 8 آذار/ مارس الجاري، وشملت السعودية وقطر، وطرْح العروض الروسية من الأسلحة، انعكاساً للبراغماتية التي تنتهجها القيادة الروسية سياسةً في علاقاتها مع كثير من الدول. وبينما قالت المتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، إن الزيارة ستناقش التعاون في أسواق الطاقة ومحاربة فيروس كورونا، تشير المعطيات أن السلاح قد يكون هو البند الأساس المطروح على طاولة البحث.
لكن، بالنسبة للجانب الخليجي، والسعودي خصوصاً، تخضع علاقة السعودية مع روسيا إلى عاملٍ واحدٍ هو عامل الإقدام والإحجام الأميركي تجاه السعودية، أي إنها ثمرة ردود فعل على السياسة الأميركية، لا أكثر. إذ إن إرثاً من الابتزاز الأميركي للسعودية والتحكّم بسياستها أوجد رغبةً لدى الرياض في موازنة علاقاتها مع القوى الكبرى للحدِّ من تحكُّم واشنطن فيها، لكنَّ هذه المحاولات لم تجدِها نفعاً، كما لم تتوقف عن المحاولة. وبرز الابتزاز بشكل فاقع في عهد الرئيس السابق، دونالد ترامب، الذي بدأ فترته الرئاسية بعقود مهولة، تراوحت بين عقود بيع أسلحة واستثمارات سعودية في أميركا، وصلت قيمتها إلى أكثر من 460 مليار دولار، مقابل تأمين الحماية الأميركية للسعودية، كما ردَّد ترامب مراراً. وكبَّلت تلك العقود السعودية، وجعلتها عرضةً لابتزازٍ لفظيٍّ يوميٍّ مارسه ترامب من أجل ربط سياستها بقراراته واستمراها بـ "الدفع" لواشنطن.
عوامل عديدة تجعل هذه الزيارة سياسيةً أكثر منها اقتصادية، منها أنه ليس لدى روسيا ما تعرضه على دول الخليج من سلعٍ منافسة سوى السلاح والنفط. وإذ تعاني هذه المناطق من كسادٍ في مادتي النفط والغاز، فإن حظوظ موسكو للحصول على حصة من سوق السلاح في الخليج العربي ليست وافرة، لأن هذه الدول اعتادت تاريخياً على السلاح الغربي، ولم تعتَد أن ترى في السلاح الروسي سوى جواد تعبر الإيديولوجيا السوفييتية على ظهره. ومما يؤكد على أن الزيارة سياسية أيضاً هو كلام مصادر سعودية عن أن الرياض تسعى لـ "معايرة" علاقتها بواشنطن بعد إهمال إدارة بايدن للمخاوف التي تخيِّم على المنطقة. ويندرج في هذا الإطار نشر المخابرات الأميركية تقريرها عن حادثة قتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، في اسطنبول، ما اعتبر ضغطاً على ولي عهدها، محمد بن سلمان، وامتناعها عن بيع الأسلحة لها في ظلّ المواجهة مع الحوثيين والتهديد الإيراني الماثل دائماً.
وإذا ما استندنا إلى تجربة تركيا مع شراء السلاح الروسي، وخصوصاً صواريخ أس 400، والعقوبات التي فرضتها واشنطن على أنقرة لدفعها إلى إلغاء هذه العقود، يمكننا القول إن صفقة بيع أس 400 للسعودية والإمارات قد توأدُ في مهدها. إذ بمقارنة طبيعة العلاقة بين تركيا وأميركا من جهة، وبين السعودية والإمارات وأميركا من جهةٍ أخرى، نجد أن تركيا المستقلة بقرارها أبعد استقلال عن القرار الأميركي، والمدعَّمة باقتصادٍ جبَّارٍ بحجمه وتنوّع مصادره وأشكاله، مقارنةً باقتصاد سعودي يعتمد على النفط وحده مصدراً للتمويل، عانت من مشكلات مع أميركا والغرب بسبب هذا السلاح، فكيف سيكون حال السعودية التابعة بقرارها وسياساتها الاقتصادية لواشنطن التي تُحدِّد لها هذه القرارات؟
ولا تستند السياسة الروسية على قوة اقتصادية ثابتة ومعتبرة، كما تفعل السياسة الأميركية؛ إذ يستمر الاقتصاد الروسي عرضةً لتقلبات أسعار النفط. ولم تقدّم روسياً منتجاً آخر غير النفط والغاز تغزو فيه الأسواق الخارجية سوى السلاح، ما جعل اقتصادها بعيداً عن الاستقرار ويعاني من أزمات دائمة. لذلك، ربما تؤدّي أوامر أميركية لدول الخليج بوقف صفقات السلاح مع روسيا إلى انتكاسة لهذا الاقتصاد. من جهة أخرى، يؤكّد حضور الملف السوري في المحادثات، وطرح الروس إعادة سورية إلى الجامعة العربية، وهو ما لَهَجَ به مسؤولو الامارات والسعودية بعد لقاء لافروف، عارضين للموانع التي تقف دونه، على أن الجانب السياسي هو الغالب في الزيارة. كما جاء وصول وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو لعقد لقاء ثلاثي تركي قطري روسي في الدوحة ليجعل الزيارة لا تتعدى الحقل السياسي، خصوصاً بعد إبداء موسكو الرغبة في ركب قطار التسوية الأفغاني الذي وضعته الدوحة على سكة المفاوضات المثمرة مع واشنطن.