الازمة طبقية .. ونص!

خلال العقدين المنصرمين، كان لبنان يترنّح مرّات عدة على شفير أزمات مالية واقتصادية. ومع بدء شعور العديد من اللبنانيين بمضاعفات وتبعات هذه الأزمات، اندلعت احتجاجات شعبية كبيرة في تشرين الأول 2019 احتجاجاً على تدهور الأوضاع الاقتصادية وعلى فساد السلطة السياسية. وفي خضم الأزمة النقدية والاقتصادية، ضربت جائحة كورونا البلد مع بداية ربيع 2020 لتكرّس الأزمات الاقتصادية والمالية وتزيد حدة تبعاتها على اللبنانيين. كلّ هذه التطورات تضافرت لتزيد من حدّة الفروقات بين الفئات الاجتماعية، وبدا ذلك جلياً في ازدياد سوء التوزيع ودرجات التفاوت بين الفئات الاجتماعية من مناحٍ عدة، (فرص العمل، الدخل، الثروة...)  في عدد من المناطق اللبنانية وفي ما بينها، الأمر الذي أظهر إلى العلن الطبيعة البنيوية الهشّة لسياسات الدولة في مسألة إعادة التوزيع.


إنّ وجود التفاوت الاقتصادي والطبقي الشديد، يؤدّي إلى زعزعة استقرار المجتمع بطرق لا تخطر على بال، فالأفراد الذين يشعرون بوضعهم المذري يبحثون عادة عن طرق لفهم العالم الذي يبدو غير عادل في نظرهم، وغالباً ما يفعلون ذلك عن طريق العودة إلى الهويات القبلية أو الأيديولوجية، سواء كانت سياسية أو دينية أو عرقية أو أيّا كان، وبالتالي يصبحون أكثر عرضة للاستغلال السياسي من قبل السلطات الاستبدادية، وأدواتها.

إنّ أولئك الذين يشعرون بخيبة أمل من وضعهم يبحثون عن أنواع مختلفة من الأنماط لتبرير مكانتهم، وهذا غالباً ما يتخذ أشكالاً غير عقلانية مثل نظريات المؤامرة (التي تكون عادة مبنية على التقاليد المجتمعية والأصولية، المستمدة من الهويات القبلية والايديولوجية المذكورة سابقاً). وفي المقابل، يمكن أن يصبح هؤلاء القابعون في قاع المجتمع، عندما يدركون حقيقة وضعهم، أكثر استعداداً للتمرّد على النظام المصمّم ضدّهم، وبالتالي أكثر استعداداً للاصطفاف في صف المعارضات الراديكالية. وفي كلا الحالتين ينجم عن ذلك عواقب سياسية ومجتمعية ليست في صالح الإستقرار دائماً.

"ان استقراركم مبني على الرمال!"، كما قالت روزا لوكسمبورغ. والاستقرار في لبنان بمفهومه المعتاد ليس إلّا هيكلاً هشّاً مبني على أساسات ركيكة، تعصف به الأزمة المستمرة من كلّ حدب وصوب وتلقي بكامل ثقلها ووزرها على كاهل الطبقات الأكثر فقراً من المجتمع. وهذه الطبقات بذاتها هي المُحَفِّز الأساسي في عملية الإنفجار الاجتماعي، فهي التي تتشبّث بالفكر الأصولي حين تشتدّ الأزمات عليها تارةً، وهي التي تكسر أيضاً حواجز الخوف لديها وتتمرّد على من سبّب الأزمة وقيّدها بالواقع الأليم طوراً. وبعيداً عن الأشعار، نلاحظ في يومنا هذا نسبة التفاوت المناطقي والإداري الموسّع في توفير الخدمات، أهمّها التعليم والصحة علاوة على حال البنى التحتية المتقهقرة، والتي تبحث عن بارقة أمل وسط عاصفة من الخصخصة لشركات المقاولة، لا بل بوجود طيف المحاصصة أيضاً كالآمر الناهي في طور العملية ..!!

فعلى صعيد التعليم، أثبتت الأزمة أن المجال التربوي قد صار رهينة الامتياز، فرأينا في فترة الحجر والإقفال اتّباع نمط التعليم الرقمي (أونلاين) التي تنذر بالفشل الذريع مع قدوم امتحانات الشهادة الرسمية وصرخة الطلاب المنتفضين من يأس حالهم. واللافت هنا هو تطبيع الطبقة السياسية لفكرة "العلم للّي بيقدر عليه ..!" خلال الإصرار على إجراء امتحانات الشهادة، مع غضّ النظر عمّن لم تتسنَّ له الفرصة أن يمارس حياته الطالبية الصحية بسبب انقطاع الكهرباء وشبكة الانترنت بين الحين والحين، الأمر الذي عرقل عملية التعليم أمام طلاب الطبقات الفقيرة.

أمّا على صعيد الصحة، فإن جائحة كورونا كانت أيضا بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير، فما رأيناه من جانب الجهات المعنية في ما خصّ التعاطي بشأن هذا الملف كان بمثابة الحرب المطلقة على الطبقات الفقيرة؛ كانت المستشفيات الحكومية أي مستشفيات الفقير حاشدة بالحالات الإيجابية وأسرّة قسم العناية الخاصة في معظم الأحيان لم تكن تكفي لمعالجة جميع الحالات. علاوة على امتناع معظم المستشفيات الخاصة عن استقبال بعض الحالات وكان دافع الربح هو الطاغي على الساحة الطبية، وكانت الجهات المعنية أيضاً كما يقول المثل الشعبي "كالأطرش بالزفة". انصرفوا إلى إعلان حالة طوارئ وتعبئة عامة صحية غير مدروسة، أقرّوا قوانين إقفال وحظر تجوال، غرّموا العمال المتوجّهين لجني قوتهم اليومي، واعتدوا على المصالح الصغيرة كالأفران والحرفيين وغضّوا النظر عن الشركات والمؤسّسات ذوي رؤوس الأموال الكبيرة. ولم تقتصر وقاحة الدولة العتيدة على هذا وحسب، إنّما امتدت إلى فضيحة تلقيح بعض النواب على الرغم من تخصيص الدفعات الأولى من اللقاحات للعاملين في المجال الصحي والمسنين وأصحاب الأمراض المستعصية.

انّ الأداء الرسميّ هذا كان بمثابة صبّ الوقود على نارٍ قد اشتعلت كحرائق الشوف في سنة 2019 وعشية 17 تشرين من العام ذاته. والاستقرار العام أصبح ضحية السياسات التعسفية والقاتلة التي اعتمدتها سلطات بلادنا، والفاجعة هنا كما جرت العادة للأسف هي تحميل الطبقات الفقيرة تبعات الأزمة. وختاماً، لا بدَّ لنا أن نسأل وأمام هول الكارثة المستجدة: ألم يعد المشهد ممّلاً يا رفاق ..؟