العالم .. بين التفسير والتغيير

 

في الكلمات القليلة العميقة التي قدّم بها الشاعر "أدونيس" لحديثٍ لي مع المندوب الأدبي لجريدة "لسان الحال" ( العدد 20268 ، 9 كانون الثاني ـ "يناير" 1966 ) بشأن النقد الواقعي والواقعية في الأدب والفن ، تفضّلَ الشاعر بتقديرٍ مشكور لكتابي " دراسات نقدية في ضوء المنهج الواقعي" ، ثم ناقش منهجي للواقعية بمعنى الواقع في الإبداع الشعري والفن بوجهٍ عام ، كما ظهر له هذا الفهم خلال الفصول التي عقدتُها في الكتاب لنقد الشعر.


تتضمّنُ مناقشة الشاعر "أدونيس" هذه ، عدةَ قضايا في باب الأدب والفن والإيديولوجيا والمنهجية ، هي من الدقّة والتعقّد وتعدّد الزوايا والجوانب بحيث ترتفعُ عن مستوى المعالجةِ العابرة في مجالٍ قصيرٍ كهذا. غير أنّ قضيةً واحدةً من تلك القضايا يمكنُ الاكتفاءُ بمعالجتها بذاتها في هذه الزاوية، دون النظر إلى الملابسةِ بينها وبين المفهوم الصحيح وغير الصحيح من الواقعية في الأدبِ والفن .. أعني بها قضية كوننا صرنا في مرحلةٍ من التطوّر التاريخي " لم تبقَ (فيها) المسألة أنْ تفسّرَالعالم ، بل أن تغيّر" كما قال ماركس ..
نفهمُ من وضع الشاعر "أدونيس" هذه القضية في مجرى النقاش حول مفهوم الشعر الواقعي أو مفهوم الواقع الشعري ، أنه يرى كلمة ماركس تعني ضرورةَ الانصراف في عصرنا عن تفسير العالَم وحصر الجهد في تغيير العالَم.
وبناءً على رؤية الشاعر "أدونيس" للقضيةِ على هذا الوجه ، وجّه إلينا قوْلَه بأنّ "الشعرَ الواقعي ليس الشعرَ الذي يكرِّرُ الواقع ، أو يصِفُه ، أو يمجِّدُه .. فهذا عملٌ يدخل في مجال تفسير العالَم " ..
في جوابنا على ذلك القوْل:
أولاً : إنّ الشعرَ الذي يكرِّرُ الواقع ليس هو ـ في رأينا ـ الشعر الواقعي من جهة ، وليس هو مما يدخلُ في مجال تفسير العالَم من جهةٍ ثانية. أمّا الذي يصفُ الواقعَ أو يمجِّدُه ، فقد يكون وصفُه أو تمجيدُه خارجياً مسطَّحاً لا يدخلُ في أعماق الواقع ولا يستكشفُ أبعادَه ، ولا ينفذُ إلى جوهرِ معناه وحركتِه وتطوّره .. فهذا أيضاً ليس ـ في رأينا ـ بالشعر الواقعي ، وليس هو كذلك مما يدخل في تفسير العالَم ..
أما ثانياً، فإنّ صيرورتَنا إلى مرحلةِ " لم تبقَ ( فيها) المسألة أن نفسِّرَ العالَم بل أن نغيِّرَه " ليست تعني أنَّ مهمةَ تفسيرَ العالَم قد انتهت وأُلقيتْ عن عاتقنا ولم تبق علينا سوى مهمة تفسير العالَم ..
أعتقد أنّ هذا المعنى بعيدٌ جداً عن قصدِ ماركس ، لأنّ ماركس نفسَه اكتشف تفسيراً جديداً للعالَم ، ولأنّ فلسفتَه بمجملها قائمةٌ على هذا الاكتشاف التفسيري .. ولكنّ الفرقَ بين التفسير الماركسي وغيرِه، هو الفرق بين تفسيرٍ يكون وسيلةً للتغيير وإنارةً لطريق العاملين للتغيير، وبين تفسيرٍ يقصد لذاته ، فهو غايةٌ لا وسيلة ، كما هو شأنُ الفلسفة القديمة بمختلف أصنافها ومدارسها ونزعاتها ، أو تفسيرٍ يقصدُ لإبقاءِ القديم على قِدَمه ، ولتخليد الأنظمة الاستقلالية الطبقية ، كما هو شأنُ الفلسفة المثالية المحدَثة التي يقومُ على رعايتها مفكِّرو الإيديولوجيا الرأسمالية المتطوّرة ..
فالمسألةُ ، إذن ، ليست هي أن نفسِّر العالَم ليصبحَ أمراً مفروغاً منه ، وأنّ كلَّ أثرٍ فنّي يحومُ على الواقع بنحوٍ من التفسير ، وإنْ كان تفسيراً ثورياً يمارسُ التغيير، لا يستحقُ أن يكونَ فناً ذا قيمةٍ إنسانية ، كما نفهم من كلمة الشاعر الأستاذ "أدونيس" .. بل المسألةُ على العكس . فإنّ ممارسةَ التغيير ليستْ شيئاً إذا لم تتضمّنْ في ذاتها، تفسيراً أي كشفاُ لما في الواقع من زوايا وعلاماتٍ تُلحُّ في طلبِ التغيير ..
ولعلّ الشعرَ بالخصوص، من أحبِّ الفنون أنْ تُؤدّيَ هذه المهمةَ الثورية بما في طاقاته الإيحائية من قدرةٍ على النفاذِ إلى أخفى تلك الزوايا وأدقّ تلك العلاقات ..
هكذا نرجو أن تكونَ مفهومةً " قضيةُ تفسير العالَمِ وتغييره " ..

* كتب هذه المقالة المفكر الشهيد حسين مروة في جريدة " الأخبار" ( جريدة الحزب الشيوعي اللبناني آنذاك) ـ زاوية " قضية " بتاريخ 16/1/1966.