الأنفلونزا الفاشلة!


كثيرةٌ هي المواضيع التي تطرّق إليها الشهيد المفكر حسين مروة بدءاً من كتاباته الصحفية اليومية حول قضايا اجتماعية، حياتية، سياسية، ثقافية، أدبية ونقدية ..... وصولاً إلى ما أنجزه في مجال الدراسات الفكرية التراثية ... في إحدى مقالاته اليومية في الخمسينيات من القرن العشرين، تحدّث عن مرض الأنفلونزا الذي كان منتشراً يومها في لبنان وفي العالم وكأنه يحكي عن وباء الكورونا في يومنا هذا ... المقالة كتبها في جريدة "الحياة" البيروتية ـ زاوية "مع القافلة” بتاريخ 3/9/1957 بعنوان: " الأنفلونزا الفاشلة! " وهنا نصّها:


*******
لا أدري أيّ شيطان أغرى هذه "الأنفلوانزا" المسكينة وغرّر بها ، فحملها أن تغزوَ الناسَ في بيوتهم ومتاجرهم ومصانعهم ومدارسهم وملاعبهم ، أينما كانوا من قارات الأرض ، وكيفما اتفق لهم أن يكونوا ، ومن أية الجهات الأربع أو الست أقبلتْ عليهم ...
لا أدري : أقَصدَ شيطانُ هذا الوباء أن يعبثَ بالناس، أم يعبثَ بالوباءِ نفسِه ؟ ..
لا أدري: أقَصدَ أن يعرضَ على الناس شبحَ "الغزو" من جديد، تهويلاً على الناس، وتوهيناً لعزائمهم ، وإضعافاً لثقتهم بالعلم الجديد وبالحضارة الجديدة وبالعصر الجديد كله ... أم قَصدَ أن يعرضَ على كل "الغزاة" قي الأرض ، أنّ عصر "الغزو" قد انقضى ، وأنّ كلَّ "غازٍ" في هذا العصر، مهما عتا واستكبر وامتدّت سطوته، لا يد ينتهي إلى الخيبةِ والإخفاق، أو إلى نوعٍ غريبٍ عن الانتحار ؟ ..
أحسَبُ أنّ ذلك الشيطان قد أوقعَ هذا الوباءَ الغبيّ بالورطة ، ليتّخذَ منه أُمثولة ، ولْيجعلَ الأمثولةَ وفقاً لأسلوبِ العصر ، أعني أسلوبَ التجربةِ والاختبارِ العملي المادي ... لقد أغرى (ذلك الشيطان) هذه "الأنفلوانزا " أن "تغزوَ" الأرضَ من أربعِ جهاتها ، وفي خَمس قارّاتها ، فانخدعتْ به ، وراحتْ تمسحُ وجهَ الأرضِ كلِّها بهذه اليد الأثيمة الملوّثة، وهي تخالُ أنّ في يدها الموتَ كلَّه، تنشرُه في الناس، فسرعان ما يتهاوى الناسُ صرعى على قدميْها، ثم تقفُ هي تقهقهُ للنصرِ على الإنسان، كما كانتْ تفعلُ "الأوبئة" كلُّها في قديم الزمان !
ولكنه شيطانٌ معلِّمٌ صارَ وهو ـ مع ذلك ـ ثقيلَ الظل ، باردَ الوجه ... غير أنه قد بلغّ القصدَ الذي أراد، فإذا الخدعةُ التي حملت الوباءَ على "غزوِ" الإنسانِ في هذا الزمن، قد علَّمتْه أنّ إنسانَ اليوم لا تقوى "الأوبئةُ " و "الجراثيمُ" أن تنتصرَ عليه بعدُ ، وأنّ حضارةَ هذا الإنسان قد أعدَّتْ لكلِّ "غزوٍ " يأتيه بأيِّ نوعٍ من الأذى، سلاحاً منَ الحياةِ نفسِها، ومِنْ طاقاتِ العقل البشري، ومِنْ أساليبِ العيش الإنساني، وذلك سلاح ٌ قد ردَّ الوباءَ فاشلاً لم يستطع أن يفتكَ بالناس، كما يفعلُ قبل هذا الزمان ..
تلك هي الأمثولة ... أرادها شيطانٌ معلّمٌ صارم، ولكن هل هو شيطانٌ حقاً ؟ ...
نعم، وإن قد جاء بالأمثولةِ المَعلِمةِ الصارمة ، نعم ، هو شيطان .. لأنّ "الغزوَ" بذاته ، مهما تكن غايتُه ، لا يأتي إلاّ فعلَ شيطان ! ..
خسئ الوباء، خسئ الغزاة، والنصرُ أبداً للإنسان ..