حكاية صغيرة وقضايا كبيرة

يكاد يكون لي حكاية مع "النداء"! بعد أشهر من صدورها أوائل عام 1959، انتقلتُ إلى "الكلية العاملية" في بيروت لمواصلة تعليمي في المرحة التكميلية. كانت الجريدة الجديدة تصل باكراً منزل أخويَّ المرحومين رضا وعون حيث كان الأخير يتولى توزيعها لمجموعة من المشتركين الرفاق على دراجته الهوائية.

بشكل عفوي، وجدت نفسي، قبل ذهابي إلى المدرسة مشدوداً إلى تصفح عناوينها التي بدأت تساهم في تشكيل إدراكي واهتماماتي. لم يخلُ توزيعُ "النداء"، وأنشطة سواه للشيوعيين في برج حمود، من مشاكل وتوترات مع أعضاء في حزب "الطاشناق". ارتباطاً بذلك بات قلقي دائماً على أخي الذي يجول كل صباح، موزعاً الجريدة إلى قرائها. لكن الحدث الأكبر، قبل وبعد، كان "اعتقال فرج الله الحلو" في دمشق من قبل مخابرات "عبد الحميد السراج" حيث واصلت "النداء" حملة لم تهدأ كانت ذروتها بعد كشف واقعة اغتياله سريعاً، إثر تعذيب همجي واجهه القائد الفذ، بشجاعة وثبات وبطولة...

 

تواصلت صلتي بـ "النداء" حتى عام 1967 حين لفتني في عنوانها الرئيسي خبر قمع الطلاب في صور وسقوط ضحايا... ذهبت إلى مدرستي، ثانوية الأشرفية، مصمماً على التحريض على الإضراب شجباً واستنكاراً. أطلعت زملائي الأقرب، في "الترمينال" على الحادث. تحركنا، فوراً، داعين إلى تنفيذ إضراب احتجاجي. حصل تجاوب سريع وواسع. امتنع الجميع عن دخول الصفوف... استدعاني ناظر المدرسة صباح اليوم الثاني محذراً...

 

بعد ذلك بسنة دخلت كلية التربية في الجامعة اللبنانية. أصبحت عضواً في الحزب الشيوعي. لم تمض بضعة أشهر حتى تقرر إصدار "نداء الطالب" ملحقاً طلابياً تربوياً أُسبوعياً لجريدة "النداء" التي كانت تُوزّع أعداد منها في الكلية. انخرطت في "نداء الطالب" كتابة وتوزيعاً. بعد فترة وجيزة وجدتني أتحمل المسؤولية الأولى عن إصدارها بإشراف الرفيق جوزف أبو عقل... تناول الملحق الوليد الشؤون الطلابية في الجامعة وخارجها. سريعاً وصلت نسخها، بالتوزيع التطوعي المباشر، إلى معظم المؤسسات التعليمية.

 

بعد ذلك كتبت مراراً في "النداء"، وكان ذروة علاقتي بها تعييني مديراً سياسياً لها في أواسط عام 1981.  استمررت في تحمل هذه المسؤولية حتى عام 1987. آنئذٍ كُلفت، مع مجموعة من الرفاق (أبرزهم غسان ناصر)، بتأسيس إذاعة "صوت الشعب". بعد ذلك أصبحت "النداء" أسبوعية فكتبت فيها، لسنوات، صفحتها الأخيرة بترويسة "بلا لعب..".

إلى "معاركي" الخاصة، شاركت مع "النداء" وعبرها في المهمة الكبرى التي كان عليها أن تواجهها ابتداء من صيف عام 1982 حين غزت القوات الصهيونية لبنان واحتلت العاصمة بيروت، بعد نحو 3 أشهر من الحصار والمقاومة. كانت الجريدة صوت التحريض على العدوان: بالمواجهة والمقاومة. في المواجهة مع المحتل وحصاره الهمجي، كانت مكاتب الجريدة تغص يومياً بعشرات الأدباء والمفكرين والفنانين، لبنانيين وعرباً من أبرزهم الشهيد حسين مروة وصديق "النداء" الدائم الشاعر العراقي الكبير الراحل سعدي يوسف...

لم تنقطع الجريدة يوماً عن الصدور وعن التوزيع، مواكبة" نشوء وصعود "جبهة المقاومة الوطنية: (جمول) خصوصاً، وكل أشكال المقاومة السياسية والشعبية حتى اندحار المحتل السريع عن بيروت، وعن معظم المناطق، باستثناء الشريط الحدودي، في عامي 1985-1986، وبعد إسقاط اتفاق 17 أيار في أوائل آذار عام 1983...

 

خاضت "النداء" بمثابرة وفعالية المعركة ضد القوى الفاشية المحلية وضد فرض رئيس على لبنان بقوة الدبابات الصهيونية وضد التدخل الأطلسي الأميركي خصوصاً... وحين تمكن الصهاينة وعملاؤهم من العاصمة (مؤقتا) حضرت قوات فئوية من الجيش إلى مقر الجريدة في المزرعة واعتقلت جميع من فيه من محررين وإداريين وحراس... كان ذلك في نطاق حملة شملت مناضلين وطنيين، بعضهم لم يُعرف مصيره أبداً. أما نحن، معتقلي "النداء"، فقد حظينا بحملة تضامنية سياسية وإعلامية صاخبة، داخلية وخارجية، فرضت الإفراج عن الجميع خلال ساعات... إلى ذلك تصدى محررو "النداء" وإداريوها وحراسها لعدة محاولات حاقدة لاقتحام مقرها بقوة السلاح، ونجحوا في إفشال تلك المحاولات!

 

خاضت "النداء"، خصوصاً، معركة تطبيق مقررات المؤتمر الثاني التاريخي التجديدي لعام 1968. لقد أدت المراجعة النقدية التي كانت من وثائقه الأساسية، إلى مصالحة الحزب الشيوعي مع المشروع التحرري في المنطقة. هي ساهمت وشقيقاتها في تطوير مضمونه، ما أثمر نهوضاً حزبياً مدوياً شمل البرنامج والأولويات والعمل الجبهوي... كما أثمر، خصوصاً،  اشتقاق مبادرات في الصراع مع العدو أو المشاركة النشيطة فيها: تأسيس "الحرس الشعبي" (ك2 1970)، "قوات الأنصار" (آذار 1970)، "الجبهة المشاركة في الثورة الفلسطينية"، ولاحقاً (16 أيول 1982)، تأسيس "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية" التي كان دور الشيوعيين فيها هو الأبرز من ناحية التأسيس والفعالية حتى عام 1993...

 

احتلت "النداء" مكانة مرموقة في الإعلام اللبناني. كانت هي البوصلة الوطنية التي لم تحد عن الوجهة الصحيحة مطورة حضورها اليومي في المشهد الصحافي والسياسي اللبناني. وهي طورت أيضاً قدرتها المهنية والتقنية باعتبارها صحافة رأي وخبر أيضاً. ولقد عوّضت غياب جريدة "الأخبار" تماماً، عبر أعدادها الخاصة الشهرية التي بلغ عدد نسخها الموزعة عشرات الآلاف: في حملات تطوعية شبابية، شبابية خصوصاً، شملت  كل المناطق اللبنانية تقريباً.

 

نهض بالجريدة، إلى جانب محررين مخضرمين، فريق من الشباب الجامعي مختص ومكافح. استطاع هذا الفريق أن يكون علامة فارقة في قافلة محرري الصحافة اللبنانية. وهو غذى الصحافة ومؤسسات إعلامية مسموعة ومرئية، لبنانية وعربية، بالكثير من الكوادر الإعلامية. من هؤلاء، أيضاً، تشكل فريق "صوت الشعب" التي تحولت إذاعةً أولى في لبنان لعدة سنوات!

 

إذا كان للحزب الشيوعي أن يفتخر بمنجزات في تاريخ مسيرته الطويلة والعريقة، فحقل الإعلام هو من أحد أبرز منجزاته: الإعلام المكتوب (نقولا شاوي وجريدة "صوت الشعب") والمسموع، وجزئياً المرئي. هذا طبعاً إلى جانب ريادته في الحقول النقابية والثقافية والتربوية والطلابية، وفي حقل المقاومة ضد العدو الصهيوني.

بيد أن الحزب الذي نهض كله ابتداءً من العام 1968، قد تعثّر جلُّه، خصوصاً، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته أوائل التسعينيات. أصاب التعثر الجسم الأبرز من القيادة، وانسحب على كل الميادين والقطاعات الحزبية ومنها الإعلام الذي دخل في أزمة عميقة ما زال يعاني منها حتى اليوم. هذا ينطبق على "النداء" التي يناضل محرروها، منذ فترة طيلة، كما هو الأمر بالنسبة إلى شقيقاتها، من أجل الاستمرار والحضور والفعالية...

لشهداء "النداء" وخصوصاً لمديرها الحارس الحريص، سهيل طويلة، ألف تحية. ولكل الذين قدموا تضحيات جسيمة ومساهمات قيمة في تاريخ "النداء" وحاضرها، وظلوا أوفياء للقضية التي تأسست وكافحت من أجلها، نقول: كلّ عام وأنتم بخير!

 

* مدير سياسي سابق لـ "النداء" اليومية 1981-1987