مجرمون .. نيرون وجنون العظمة ..!!

... مسرحية الوطن الكبير، يستمرُّ عرضها منذ سنةٍ ومائة. السنة تقترن بصيغة العجِاف، والعام بالسِمان، وفوق المسرح كائنات أرضية، كائنات متى تعارفوا .. وقعوا يخوضون في عمائهم الوجوديّ، والذاكرة تحكي هباءً منثوراً .. رمادُهُ يُستنشقُ ودخانَهُ، وليس بخسَ الثمن، فهو أرواحٌ وأجسادٌ وأحلام، هو مادةٌ لا تُعادَل بكيف أصناف المخدرات، مخدرات تُنقل عبر رياح المعمورة برعاية القادرين الكبار. كلّ شمّةٍ ومجّةٍ منها تُكسِبُ صاحبَها جنونَ العظمة.

 

ثمة محترقون، يتراقصون، يصدحون، يصرخون طرباً، وهم في همروجتهم، تتطاير الأشلاء، تُبتر الأطراف، فهل من صفحات تحتملُ هذا القتلَ والبُهتان، لا نهاية لخطّ الوصول ..!؟

حين تبدّى الوطن، كنّا نطلع من هذا الرحم المُبارك إلى موتنا اليومي، وفي المُحصّلة، تفتّحتِ المسامات ثقوباً سوداء، والبيوت والعقول والنفوس أكلها الصدأ، وما جثمَ فوق الصدور أشباحٌ يُصلّى لها؛ وقد أصلتِ العبادَ شرورَها، جحيمَها وجنونَ عظمِتها، منذها، نقع في تلك النظرات، في وأد أرواحنا بنفثاتِ معطوفةِ الفخامة والمعالي والسعادة، وعطوفة الكريم لا يكفُّ عن ترويض الكائنات، هنا فوق مسرح الحياة، هنا، تمسرخٌ غريزيُّ الأهواء والأمزجة، رحيلٌ مبكّرٌ للوقت للنفس للإرادة، للضحايا .. ينتظرون تواقيع مجلس المِلَل. والأقدار في مِزودِ البلاءِ واسترجاعِ القتلِ، يذهبُ في الآخر والآخر حتّى عجزٍ باعثِ الإشمئزاز والقرف، وبعض الضحكات بألوانها الساخرة، تصير معمودية الدّم المُهرَّبَِ، عبر إراداتٍ منزوعة القيم، فنام نواطير البوابات والعتبات لشياطين الإنس، يؤدّون عروضهم وعراضاتهم الدمويّة بإتقانِ وافتتان.

 

هنا، بين الجلود المشوية، بين المُتّشحة بالهول والصدمة والشواظ هنا، غربةٌ، غراباتٌ واحتراب. هنا محيطاتٌ شعوبيةٌ تتلاطم وأمواجهَا السوداء. هنا لا ليلَ ولا نهار، مجرّد كومبارسٍ - تدفعهم غرائزهم الحياتية الأولى؛ فلا يلتفتُون لقاتليهم عن سبق إصرارٍ وترصّد. هنا .. بَعْدُ لا مكانَ، لا زمانَ، واللحظة بسِني أعمارِنا، تلك، لم نعِش، نقبسُها عن طباعةٍ انكسرت أبعادُها، روّادُها نحن وسوادُها، نقيم مجالس العزاء .. ولا عزاءَ لهذا الموتِ الطقوسيّ الوثنيِّ، يُخشخِشُ بيباس الروح. أرواحٌ محكومةٌ بالتلفُّتِ لشعوب المسكونة، لقمم الكبار، ولا بأس صوب مختلف الكائنات، لعلَّ دموعاً حبيسةَ العيونِ تذرفُ جثثُها النافقة.

 

كان الوقتُ انتظاراً لمّا انفجر، وقد جاسَتْهُ أرتالُ الحشودِ النافرةُ بالدّهماء، وحين همّوا لأثقالهم، باغتتُهم الرزايا، تنشطر بعتيقها وجديدها، وصائدو الجوائز يقبضون بسعر السوق السوداء. وليس غريباً كيف نحضر جنازاتنا، إنّما كي نؤكّد على موتنا في الحياة، لأجلهم، كيف يستسهلون الأحاديثَ المُفتعَلة، الفتاوى المُجترأة، الدّمَ، الذاكرة، الحقَّ .. كيف يدور مقتولاً .. كيف نرفعُ كتلَ الجوع والقهر فوق الكواهل .. كيف وبدفعةٍ واحدةِ وحسب وقوعنا هنا في المجهول .. كيف لا نحاول الخروج من جلباب العَتَهِ والنفاق والإنكسار .. كيف نقضي لأتفهِ الأسباب .. كيف الرؤوس بين مدٍّ وجزرِ .. بين كرٍّ وفرِّ ..!!؟

 

ثمة لعناتٌ نجمعها كي نبزَّ العوالم ونضعها في موسوعة غينيس، هي العبقرية التي يُحكى عنها منذ ما قبل الميلاد، ما بعده .. رُحنا تلذُّذاً للقلوب والأحشاء، نحتشي الأفكارَ بنيرونيّةِ أخّاذةِ الحِمامِ والجماجم. هاك، حتّى صرنا وسط هذا الكوكب، تنتابنا أعراض الجنون، ومكبّرات الصوت لا ينقطع لها قتيلٌ شهيدٌ كيف ما كان، والأسماء الألقاب - الكبار جداً حتّى مائة وثمانون درجة، رقم يعني انبساطاً يتلامس وقيعان النفوس، يتوافدون إلى حلقات الذِكرِ تناتُشاً تكاثُفاً للهموم والظنون وجنان عظمتهم النيرونيّة.

 

هنا، فوق مسرح الحياة، تلتحم الآلام بالآمال، فِرَقٌ من زمن المتصرفيات؛ فلا انصرافَ عن كلِّ ما يؤلم، وصافرة الناظرِ أو الإنذارِ معطوفةٌ على حواجز الصخور والتراب والإطارات، حتّى وجوهٍ بلا ملامح، حتّى وجودٍ صار أعباءً بلا تصريفٍ لفعلٍ وجنسٍ وإسمِ وضمير. تمسرحٌ، نُعاوِدُ اندلاقَنا فيه، وكلّما ضاق علينا .. لا نقاوم، لا يكفُّ عن القبض علينا، ننهب الأرضَ كرمى نيرون الأكبرَ وبالتدرُّج؛ فلا يسقط كبيرٌ سهواً، ولأنّا من حركة موج البحر الأبيض المتوسط تَنكّرنا لكلِّ ألوان البحار، وأتبعنا تمسرحنا بالخنادق والنيران تناكفُاً وتنافراً وتنابزاً بالألقاب والصفات، لكأنّما إعجازٌ بلاغيٌّ جديدٌ يفوق بلاغةَ السماءِ والأرض؛ فالذي يقع غداً .. وقع في الأمس. ثمة بحرْ أبيضُ تتدافع أمواجُهُ بإكسير الحياة الأسود.