جريمة مرفأ بيروت: التداعيات الاقتصادية

مائتي شهيد وأكثر من ستة الاف جريح حصيلة ضحايا التفجير الأضخم في مرفأ بيروت، يضاف اليهم حوالي ثلاثمائة الف شخصاً تضررت منازلهم بشكل مباشر وأصبحت غير قابلة للسكن وأصبحوا دون مأوى، يضاف على ذلك تدمير مرفأ بيروت ومنشآت اقتصادية مجاورة تدميراً شبه كامل، في مشهد يعيد للذاكرة مشاهد بيروت ابان نهاية الحرب الاهلية، وكأنّ هذه المنظومة الحاكمة أبت أن تسلّم البلاد إلاّ أسوأ مما استلمتها من الوصي السوري، حيث رسى أسطول متعدد الجنسيات على أنقاض مرفأ بيروت بدا أشبه باستعراض عسكري يحمل أبعاداً سياسياً خطيرة أكثر منه تقديم العون والمساعدة الانسانية. اذاً، وفي النتائج المباشرة 15 مليار دولار كلفة إصلاحات وإعادة اعمار بيروت كلفة تضاف على الاقتصاد المتهالك للبنان.


التكاليف المباشرة
محافظ بيروت مروان عبود قدّر كلفة الاضرار الأولية للانفجار بين ثلاثة وخمسة مليارات دولار طالباً من المجتمع الدولي والاغتراب اللبناني المساعدة. هذا الاغتراب الذي تم تهجير جلّه عمداً عبر سوء الإدارة وانعدام فرص العمل في اقتصاد ريعي غير منتج وغير قادر على خلق فرص العمل، في وقت لا زال فيه يحرم هذا الاغتراب كما المقيم من ودائعه لدى المصارف اللبنانية التي وبالتكافل و التضامن و الشراكة مع مصرف لبنان وأوليغارشيا الحكم تمتعت لسنوات طوال بأموال المودعين في ما سيعرّف قريبا بانه سرقة العصر من قبل الاكاديميين والباحثين. من جهة أخرى، قدّر بعض الخبراء الاقتصاديين تكاليف الانفجار والتعويضات بما يقارب الخمسة عشر مليار دولار. القطاع الصحي المتهالك أصلاً نال قسطه من التدمير اذ تضررت بشكل كامل مستشفيات الجعيتاوي والروم وغيرهما من المستشفيات المعنية بعلاج المصابين بفيروس كورونا المستجد، ممّا استدعى نقل المصابين إلى مستشفيات أخرى وهذا ما قد يفاقم المشكلة في وقت تتزايد فيه أعداد المصابين بشكل كبير. الانفجار أثّر أيضاً على العمليات في ست مستشفيات و أدى لحدوث اضرار كبيرة في أكثر من عشرين عيادة وأكثر من 55 منشآة طبية متضررة كما أتى في تقرير الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (اوتشا).
ولأن المصائب لا تأتي فرادة على هذا الوطن واقتصاده المنهك فلقد تدمرت اهراءات القمح (والتي بالمناسبة بنيت في أواخر ستينيات القرن المنصرم على يد شركة تشيكية ولم يبنها العثمانيون كما اشيع)، مدمرّةً معها الاف الاطنان من القمح. وهنا نطرح بضعة تساؤلات: كيف سيكون الوضع عقب تلف الاف الاطنان من القمح؟ التركيز على القمح والدواء نظراً لأهميتهما ودورهما في الامن الغذائي والصحي للمواطن من جهة، ولانّ فارق كلفتهما يتحملّها كافة شرائح المجتمع كونها سلع يؤمّن مصرف لبنان استيرادها بالعملة الصعبة (بما تبقى من أموال المودعين). وكان برنامج الأغذية العالمي في وقت سابق قد توقّع نفاذ الخبز في غضون أسبوعين ونصف فيما تجمع المطاحن في لبنان أكدّ أن الطحين الموجود لديهم يكفي لما يزيد عن شهر.


بيوت دون زجاج

من نافل القول أنه يوجد أكثر من ثلاثة أسعار لصرف الدولار في السوق وبما أنّ أسعار مواد البناء المستوردة وأسعار الزجاج كلها مدولرة هذا فإنّ هذا يحيلنا إلى مشكلة كبيرة كون الاف البيوت والمؤسسات والمنشآت على اختلاف أنواعها باتت بحاجة إلى زجاج. وفي هذا الاطار، ارتفع سعر متر الزجاج من 40-45 دولار قبل الانفجار ليلامس 65 دولار بعد الانفجار، حسب سعر الصرف في السوق السوداء. كل هذا والحسابات بالدولار محجوزة لدى المصارف أو ما تبقى منها. وقد يخرج علينا أحد الجهابذة باقتراح إعطاء قروض بالدولار الأمريكي للمتضررين من التفجير بدل تحرير ودائعهم! من جهته، مدير أحد مصانع الزجاج في بيروت أشار إلى أنّ أسعار المواد الأولية ارتفع تبريراً لرفع سعر الزجاج بعد الكارثة متابعاً أنّ الكمية المتوفرة لا تكفي لأكثر من عشرين بالمئة من الوحدات السكنية المتضررة.

المساعدات والهبات بالأرقام

سارعت دول العالم كافة وب "إنسانية غير مسبوقة" إلى الاجتماع عبر الاثير الافتراضي وأقروا هبات تصل قيمتها مجتمعة إلى 252.7 مليون يورو مقدمة على الشكل التالي: فرنسا 30 مليون، الاتحاد الأوروبي 63 مليون، النروج 6.5 مليون، الدنمارك 20 مليون، سويسرا 3.7 مليون، قبرص 5 مليون كما وضعت مرفأها ومطارها في خدمة لبنان، بريطانيا قدمت 20 مليون جنيه إسترليني ، الولايات المتحدة الامريكية وعدت أن تساهم دون تحديد المبلغ، ألمانيا 10 مليون دولار و اكد معظم المجتمعين تقديم مساعدات عينية من طبية و غذائية و مواد بناء. أما الدول العربية فقد شملت مساعداتها: قطر قدمت 50 مليون دولار والكويت 41 مليون مقسمّة على أغذية و مواد طبية، وباقي الدول العربية مجتمعةً ما مجموعه 11 مليون دولار. المشترك الأهم بين الجميع كان اجماعهم ان المساعدات و الهبات لن تعطى للدولة بل عبر مؤسسات المجتمع المدني والأمم المتحدة، مما يوحي بعدم ثقة المجتمع الدولي بالسلطة القائمة و هم بهذا مصيبون. لا بد هنا من عدم التغاضي عن المساعدة التي أتت من دولة بنغلادش التي بدورها تعاني من أزمة اقتصادية، ودولة مصر أرسلت مستشفى ميداني، كما دولة العراق التي قدمّت المحروقات وغيرها الكثير من الدول من غير البشرة البيضاء أو دول صغيرة الحجم لا تركّز وسائل اعلامنا عليها – لاعتبارات نجهلها.
التداعيات الاقتصادية
الانفجار الذي خلّف مئات الضحايا والاف الجرحى وعشرات الاف من المشردين لن يقتصر تأثيره على ما ذكر آنفاً، بل لسوء حظنا سيعمّق أزمتنا الاقتصادية. هذه الحقيقة تخالف ما أشاعه بعض المواطنين و "الخبراء" بأن الدولار سيأتي إلينا وسنخرج من أزمتنا "بحسنة اللي راحو". قبل الانفجار، كانت توقعات معهد التمويل الدولي تشير إلى انخفاض الناتج المحلي بـ ١٥ ٪ نمو سلبي (-15%)، أمّا بعد الانفجار فسينخفض هذا المعدّل إلى ٢٤ ٪ نمو سلبيّ ( -24 %). هذا مع العلم أن المؤسسات الدولية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي كانت تحجم عن تقديم المساعدات قبل بدء السلطات الرسمية برزمة إصلاحات جذرية.
استشراف للمستقبل؟
لبنان قد يكون أوّل دولة في تاريخ المنطقة تدخل ما يعرف بالتضخم المفرط (Hyperinflation). كان هذا كان قبل انفجار بيروت بحيث يوجد من يبيت ليله دون غذاء مع أسعار جنونية للأغذية ومعدلات بطالة غير مسبوقة. وأتى الانفجار ليخنق الاقتصاد أكثر فأكثر بحيث ان 70 بالمئة من تداولات لبنان التجارية تجري عبر مرفأ بيروت في وطن يستورد اكثر من 75 بالمئة من استهلاكه المحلي. المحال التجارية والشركات المتضرّرة والتي كانت تؤمّن فرص العمل للكثيرين أصبح مصيرها مهدّد بالاقفال وبالتالي تنامي نسبة البطالة. في هذا السياق، أعلنت نقابة أصحاب المطاعم والمقاهي والملاهي والباتيسري أنّ خسائرها تقدّر ب ٣١٥ مليون دولار. في بيروت الكبرى لوحدها، تضررت ١٤٠٨ مؤسسة منتمية إلى هذا القطاع، من أصل ٢١٠٣ مؤسسة موجودة! قطاع المطاعم وحدّه يوظّف ٥٥ ألف موظّف واذا أضفنا اليهم العمّال والموظفين في المقاهي والملاهي، فإن الرقم يصبح عشرات آلاف. من يتصفّح التقارير الدولية عن لبنان يقرأها صراحة، لبنان دولة فاشلة (Failed state) هذا هو الواقع الذي اوصلتنا اليه هذه المنظومة. لا يفرح أحد بالأموال القادمة بحيث انها لا تشكّل ما نسبته عشرة بالمئة من قيمة الخسائر المباشرة أولا و ثانيا الأموال التي ستاتي، وفي حال أتت في بادىء الامر ثم أتت ولم تترافق مع تغيير اقتصادي وسياسي جذري، فإنّ أحداً لن يخرجنا من أزمتنا.


خاتمة
إذاً ها هي بوارج واساطيل متعددة الجنسيات تعود لشواطئ بيروت و ترسو على مينائها المدمر، في مشهد يعيد للذاكرة الاجتياح الإسرائيلي وخروج منظمة التحرير. فلا الحرب بعدها توقفت ولا حصل الاستقرار في الداخل. واذا كنّا في هذا المقال استطعنا إحصاء ومسح آلاثار الاقتصادية والمادية المترتبّة عن الانفجار، فإنّنا لن نستطيع أن نحصي آلاثار النفسية. تلك فاتورة أخرى سندفعها نحن – الأحياء الأموات – في حياتنا اليومية من آلان فصاعداً.