نشحذُ الرّغبات بملح البدن والبحر... حين الزّمن كالح، حين لا شيءَ مُتاح، نُحبِّرُ الملاءات بمِداد النجيع، حين يصير الوجودُ عقيماً، والوجوه نواح، والصبر جراح، والمحتاج يذرفُ حياءَهُ لكسرة خبز، لكلمةٍ طيبةٍ تُسكِنُ جزعَ الكبارِ، لنظرةِ تتلفّعُ بمسحةِ حنين...
زماناً، خرجنا بكلِّ الألوان... إلى كلِّ المطارح، وحين انتبهنا لأعراقنا وألواننا تذابحنا حتى الهلاك، حتى الخبز الأبيض والأسمر، والكيك والكاتو والمعجّنات. زماناً، وأدنا ما طاب من البنات، وأعملنا الختان كحالة طوارئ لا تنتهي، ثمّ أبهرنا الجدران بدماء العذارى، بداء الطوائف والمذاهب.
ذات مرُةٍ، قبضتُ على أفكارٍ شتُى، على ضمائرَ منفصلة عن عروشها، على قبلاتٍ ومُقبِّلاتِ مازة عصرية. في تلك النزهة الوجودية، ارتطام المجرّات بكؤوس السهارى، والحياة البسيطة... منبسطة لأبخرة الأنفاس والأجساد. هاك، حين انفطر المطرُ عن عيون العاشقين، وقع الطوفان الأوّل، بعدها تتالت الزيارات للمقابر، تلك الواقعة على هامش الحياة والمؤتمرات.
كان، والحظّ يلوك الضعفاء، فاستسلمتُ لبسمةٍ وقعت من منقار غراب، وجبلتُ دمعةَ تمساحٍ بمخطوطاتٍ هزيلة الحُكّام، ثرية الوقائع، ومن حروب الأساطير والخُرافة، وقعنا في احترابنا، احترافنا الدمويّ، لا نصدّق كيف رؤوسنا تتدلّى في مرايانا، كيف لتلك الحروب الطويلة أسماء بعض الحيوانات؛ فضاعت الحِنكةُ، وصاغ المريدون قصصهم بعجالة التاريخ، حتى مزّقتنا الأوهام والأعوام، والأنام على صورتهم، لا أحدَ يجرؤ على بلوغ الجذور، والفتنةُ على إسمها المبحوح، لا تدَعي أحداً يوقظها يا أُمّاه...!!؟
من يومها، والقرون انحدارٌ غريزيُّ الأهواء والأنواء. عمّا ليلٍ طويل، نفتعلُ جراح الأوزون، ننثال فيها بغيماتٍ عارية، نحاول رفع جُدُرٍ من فضلات الدّمار، وبعض المسافات... أسئلةٌ قرينة العصف والظنّ، وبقايا أقوامٍ قديمة، نتوهّمُ فيها دماءَنا الزرقاء، وتلك الطوابير من وقودٍ وخبزٍ وماءٍ، وكورونا تكسر صمتها في ووهان من بلاد التنين الأحمر والأصفر. تسقط فوق رأسي ورقةٌ صفراء من كتاب دوستويفسكي؛ فتوهّمتُ ساعتي لعلّ... لم أُعلّق كثيراً على الفكرة، أو أعلق في فخها وحبائلها، تبسّمتُ، وقلبتُ الصفحة؛ فوجدتُني عالقاً ما بين كافكا والسيّاب... يحكيان بصمتٍ بلا منازع، من يومها، التزمت خندق كتاباتي، ملاذي من تلاشي الأفكار والمشاعر والحُبّ.
منذ الفتوحات الأولى، انعقدتْ في جيناتنا حكايا الماضي والآتي، ولعناتٌ كثيرةٌ تتحدّى، تحتشد، تملأ فراغ العقول والنفوس، نصوصٌ فردوسية الآمال، فنائية المآل، نهِمةٌ، طمّاعةٌ، خدّاعةٌ، برّاقة، فيها الليلة الواحدة بما لا يُقَدّر في ليالي لاس فيغاس، والمولان رووج، والليالي المِلاح، تُختَتمُ بالفوز بشهاداتٍ ترويضية للسلالات الحاكمة، كذا، للأحصنة، للكلاب والهررة. بِدَعٌ وإبداع، ومِبضع الجرّاح، أو الجزّار، أو سياط الجلّاد، هي رؤية مجتمعية، روايةٌ واحدةٌ وإن اختلف أبطالها، والسّطور التالية لا تُكتَب... فهي بُنْيَةُ السراب والوهم والعدم.
بعد مؤتمرات الإذعان... قُتِلنا طويلاً كثيراً من الماء إلى الماء، وتقاسم الجدلُ القاتلُ عقولَنا وظهورَنا، والتساؤلات القلقة تكشف عن أزماتٍ عميقة، كاشفُها، إنّما هواجسُنا، اضطرابنا وعنفنا، وقد أثقلت علينا التكنولوجيا، لا نلحقُ بها بغير لغة وتقنيات الدّم، تكتسينا أسماءُ فيروساتٍ مزركشةٌ بأحزمة الفقر والخوف.
ليالٍ من الخيال. نُذَوِّبُ فيها ليلةً تلو ليلةٍ... مظروفَ بودرةٍ تمنحُنا بعض رومانسيةٍ مفقودة، أو شيئاً من الغناء الأصيل، أو بعض أملٍ يُهوّن علينا ما نعيشهُ. أملٌ، يحيكُ تحوّلاتنا بخيوط البساطةِ، بزمن الحُبِّ المفقود.