الدورتين السنويتين: الصين تتصدى للازمات العالمية

على مدى عدة أيام (من 4 إلى 11 آذار/مارس)، عُقِد في بكين اجتماع "الدورتين السنويتين" للمجلس الوطني الرابع عشر لنواب الشعب الصيني والمجلس الوطني للمؤتمر الاستشاري السياسي. وهو أهم حدث سياسي سنوي يُعقَد في مثل هذا الشهر من كل عام. ترافق اجتماع هذه السنة مع أحداث عالمية استثنائية. فالعالم يشهد أزمات في أكثر من مكان، والاقتصاد العالمي يشهد تباطؤًا وتراجعًا في نسب النمو. كما لا تزال بعض الأماكن تشهد حروبًا مدمرة، وخاصة الحرب الإسرائيلية على غزة. لذا، كانت الدورتين هذه السنة محط انتباه ليس الصينيين فقط، بل ولجميع دول العالم.

وعلى الرغم من أن مواضيع الاجتماعات التي عُقِدت خلال الدورتين تضمنت جميع القضايا المتعلقة بالصين وبعلاقاتها بالعالم، إلا أننا سنركز في هذا المقال على موضوعين رئيسيين كانا نقاط ساخنة على جدول أعمال الدورتين، ويتعلقان أيضًا بشكل مباشر بالعالم العربي. الموضوع الأول هو التحديث الصيني النمطي، والنمو الاقتصادي في الصين وما يوفره من فرص تنموية للعالم وخاصة للعالم العربي. والنقطة الثانية هي الموقف الصيني من الحرب في غزة والذي تحدث عنه وزير الخارجية الصيني خلال مؤتمره الصحفي على هامش الاجتماع.
ولكن بالبداية، لنبدأ بتعريف القارئ العربي بالمقصود بـ "الدورتين السنويتين".
"الدورتين السنويتين"
يُشير مصطلح الدورتين إلى الاجتماع السنوي للمجلس الوطني لنواب الشعب الصيني، والمجلس الوطني للمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني، حيث يُعرض خلاله ما أنجزته الحكومة الصينية خلال العام الماضي، وتُقدم رؤيتها وجدول أعمالها خلال العام القادم. ويعتبر المجلس الوطني لنواب الشعب أعلى سلطة في الصين، حيث يتولى اتخاذ القرارات الكبرى في البلاد. يتم تجديد الدورة للمجلسين كل خمس سنوات، ويمكن تمديدها - في حالات استثنائية - بموافقة أكثر من ثلثي أعضاء اللجنة الدائمة.

الحرب على غزة: مأساة للبشرية ووصمة عار على الحضارة
على هامش الدورتين السنويتين، عقد وزير الخارجية الصيني مؤتمرًا صحفيًا قدم خلاله استراتيجية بكين ورؤيتها بشأن السياسة الخارجية وعلاقاتها الدولية. وكان للعالم العربي وخاصة فلسطين مساحة أساسية في هذا المؤتمر، حيث تستمر الحرب الإسرائيلية على غزة منذ أكثر من 5 أشهر، ما أدى إلى مقتل أكثر من 32 ألف شخص بينهم أكثر من 25 ألف طفل وامرأة.
وكان للصين موقف مميز وداعم لفلسطين منذ اليوم الأول، ففي الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة تحرض وتدعم وتقود حرب الابادة ضد الفلسطينيين في غزة، طالبت الصين ومنذ اليوم الأول بوقف فوري لإطلاق النار، معتبرة أن أحداث السابع من أكتوبر هي نتيجة طبيعية للظلم التاريخي الذي تعرض ويتعرض له الشعب الفلسطيني.
خلال المؤتمر الصحفي، وصف "وانغ يي" الحرب الإسرائيلية على غزة بأنها "مأساة للبشرية ووصمة عار على الحضارة، حيث اليوم، في القرن الحادي والعشرين، هذه الكارثة الإنسانية لا يمكن وقفها". وشدد على أنه "لا يمكن التذرع بأي سبب لقتل المدنيين"، كما أكد مجددًا على الموقف الصيني الداعي منذ السابع من أكتوبر إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة.
وقال وانج يي: "لا يوجد سبب يمكن أن يبرر استمرار النزاع"، مضيفًا، "يجب على المجتمع الدولي أن يتحرك بشكل عاجل، ويجعل من التوصل إلى وقف فوري لإطلاق النار ووقف الأعمال العدائية، أولوية قصوى". وشدد على أن "ضمان الإغاثة الإنسانية هو مسؤولية أخلاقية عاجلة".
وللتأكيد على الوقوف إلى جانب القضية الفلسطينية وإلى جانب الشعب الفلسطيني المظلوم، أكد وانج يي أن بكين تدعم "العضوية الكاملة" لـ"دولة فلسطين" في الأمم المتحدة، لافتًا إلى أن "الكارثة في غزة، ذكّرت العالم مرة أخرى بحقيقة أنه لم يعد بالإمكان تجاهل أن الأراضي الفلسطينية محتلة منذ فترة طويلة".
وأضاف، "إن رغبة الشعب الفلسطيني التي طال انتظارها في إقامة دولة مستقلة لم يعد من الممكن تفاديها، كما أن الظلم التاريخي الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني لا يمكن أن يستمر لأجيال دون تصحيحه".

التحديث الصيني النمط يعطي فرص تنموية للبشرية
واحدة من أبرز القرارات التي أعلنت خلال الدورتين هو أن الصين ستسعى لتحقيق معدل نمو اقتصادي يبلغ 5%. وهذا الهدف يعطي أملًا لباقي دول العالم. عندما يتمكن ثاني أكبر اقتصاد في العالم من تسجيل نسب نمو بهذا المعدل العالي نسبيًا، فإن ذلك سينعكس بشكل إيجابي على مجمل الاقتصاد العالمي. خاصة وأن باقي دول العالم، وفي مقدمتها التي تصنف متقدمة، تعاني من نسب نمو منخفضة جدًا.
كما أنه خلال الدورتين تم التركيز على التحديث الصيني النمط، والفرص التي يوفرها للعالم. وفيما يلي سنقدم لمحة سريعة عن هذا المفهوم وأهميته، وعن الفرق بين التحديث على النمط الصيني والتحديث على النمط الغربي.
وقبل الحديث عن التحديث الصيني النمط، لا بد من الإشارة إلى واحدة من أبرز المبادرات التي طرحها الرئيس الصيني خلال السنوات الماضية، وهي مبادرة "التنمية العالمية". تُعتبر هذه المبادرة وكما غيرها من المبادرات (مبادرة الحزام والطريق، مبادرة الحضارة العالمية، مبادرة الأمن العالمي، مبادرة الصحة العالمية) استجابة صينية للتحديات والأزمات التي تواجه البشرية اليوم. فمعظم دول العالم تعاني من تراجع النمو، ومن ضعف في تحفيز وتمويل التنمية الداخلية. كما أن دولًا عديدة وخاصة الدول النامية تُحرم من الفرصة لمشاركة التجارب التنموية للدول الأخرى، بل يسود العالم منذ فترة طويلة ما يشبه "احتكار التنمية" من قبل دول الثالوث الامبريالي. أما صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فهذه المؤسسات تُعتبر أدوات تستخدمها الولايات المتحدة لتكريس هيمنتها على العالم، تمامًا كما أن حلف الناتو هو الذراع العسكرية للإمبريالية الأمريكية.
تهدف مبادرة التنمية العالمية التي تتعهد من خلالها الصين بتوفير فرص تنموية للعالم من خلال الحفاظ على نسب تنمية اقتصادية مقبولة في الصين (5% عام 2024) إلى تأثير إيجابي على الاقتصاد العالمي، وكذلك من خلال مشاركة تجاربها التنموية مع باقي الدول وخاصة الدول النامية، مما سيوفر فرصًا ثمينة لهذه الدول. هذه المبادرة ستسمح للدول النامية بمشاركة خبرات الصين على مستوى التحديث، أو ما يطلق عليه التحديث الصيني النمط. خاصة وأننا اعتدنا على نموذج التحديث على النمط الغربي (الإمبريالي)، الذي كان قائمًا بكل تاريخه على التوسع الإمبريالي وعلى الحروب الاستعمارية وعلى استغلال ونهب قدرات وثروات الشعوب الأخرى سواء في الشرق الأوسط أو في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا.
وتحديدًا فيما يتعلق بالنمط الجديد الذي تعتمده الصين لتحديث نفسها، يمكننا النظر إليه من زاويتين رئيسيتين. الزاوية الأولى هي الداخل الصيني، حيث يقوم هذا التحديث بنقل الصين من دولة فقيرة متخلفة اقتصاديًا إلى الاقتصاد الثاني في العالم. وتُعتبر هذه العملية مستمرة على مستوى التحديث التكنولوجي وتحسين معيشة الشعب. فخلال السنوات الثمانية الأخيرة، تمكنت الصين من إنقاذ أكثر من 100 مليون شخص من الفقر المدقع، وفي عام 2021 تم التغلب بشكل كامل على الفقر المدقع. وبالتالي، نتحدث عن تحسين معيشة الشعب ليس فقط على مستوى التخلص من الفقر المدقع، ولكن أيضًا على مستوى رفع مستوى حياة الأفراد، حيث ازداد الدخل الفردي بشكل ملحوظ في السنوات العشر الأخيرة.
من جهة أخرى، يمثل التحديث على النمط الصيني نموذجًا مختلفًا تمامًا عن التحديث على النمط الإمبريالي. ومثال على ذلك هو مبادرة الحزام والطريق، التي تفتح الباب أمام العديد من الدول للاستفادة من التنمية الصينية والتحديث الذي تقوم به. في هذا السياق، تقوم الصين بنقل كل التكنولوجيا التي تمتلكها بشكل سلمي إلى جميع دول العالم. وهناك أمثلة كثيرة على ذلك، من إفريقيا إلى دول الشرق الأوسط مثل السعودية والإمارات ومصر، وغيرها الكثير من الدول التي تستفيد من هذا التحديث الصيني والتنمية التي تقدمها.