البعد الوطني والمحتوى الطبقي لانتفاضة أكتوبر العراقية

انتفاضة أكتوبر العراقية، هي أبلغ احتجاج شعبي على طغمة الحكم، طغمة الأقلية المستبدة، التي وصلت الحكم وتمترست به، باسم الديمقراطية التي لم يرَ منها الشعب سوى شكليّاتها، مستندة على نهج المحاصصة الطائفية السياسية، والتزوير وتزيف إرادة المواطنين، عبر منظومة انتخابات غير عادلة فرضها المتنفذون بهدف ترسيخ وجودهم بالسلطة عبر تحالفها مع شرائح وفئات طفيلية وبيروقراطية وكومبورادورية، وأصحاب المصارف ومهرّبي النفط وتجّار الصفقات المشبوهة، مشكّلين جميعاً منظومة فساد نخرت مؤسسات الدولة.

وكوّنوا تبعا لذلك أتباع، ثم فئاتٍ اجتماعية فاسدة، ارتبطت مصالحهم ضدّ مصالح الشعب الذي نُهبت ثرواته. استعصى على طغمة الحكم، والفاعلين الخارجيين، فهمَ سمات ومحتوى الانتفاضة ومحتواها. إذ لا زالوا غير مدركين مآلها، وتجدهم غارقين في مأزق استيعابها ويتخبّطون في التعامل معها. لا تصريحاتهم المؤيّدة لها صادقة؛ سرعان ما تكشفها ردود أفعالهم المعادية لها، ولا هم قادرون على إجهاضها، رغم أساليب البطش التي لجأوا اليها، حتى سجل القتل أرقاماً مخيفة، ويهمني هنا التركيز على البعد الوطني والمحتوى الطبقي للانتفاضة التي أكّدت في شعارها الأساسي على "نريد وطن".

البعد الوطني للانتفاضة

عندما شخّصت الانتفاضةُ أزمةَ النظام السياسي على أنّها متشابكة ومعقدة وخطيرة، فقد قصدت بذلك أنّ الحلول الجزئية للأزمة غير مجدية، ما يتطلّب استبعاد كلّ فكرة لا تعالج جذر الازمة، ووضع سياسات بديلة ترتقي إلى مستوى التشابك والتعقيد والخطورة في المشهد السياسي. وفي الوقت الذي نرى فيه أنّ أزمةَ النظام السياسي بنيويةُ وهيكلية، وأنّ بنية المحاصصة الطائفية هي حجرُ أساس الفشل والكوارث التي حلّت بالبلاد، فإنّه علينا إدراك أنّ لا مفرّ من وقوع أزمة كارثية، ذات وقعٍ أقوى وأعم وأشمل من كل ما شهدناه، إذا لم تتم قطيعة كاملة مع نهج المحاصصة، وإعادة بناء النظام السياسي وفق المواطنة.
وبهذا حمّل المنتفضون طغمةَ الحكم مسؤوليةَ نشوء الأزمة وإعادة انتاجها، وترسيخ نهج المحاصصة الذي صار سلّماً يصعده أتباعهم لبلوغ أعلى الدرجات الوظيفية. هكذا ركّزت الانتفاضة، في بعدها الوطني، على تعرية وفضح وتفنيد أسانيد دعاة المشروع الطائفي الذين رسّخوا فكرة الطائفية السياسية بدلاً من فكرة المواطنة، وصاحبَ ذلك جملة من الصراعات، كان محورها الأساس في المطاف الأخير، التنافس على السلطة والثروة والقرار. لذا لم يكن في صالحهم بناء وطن يتساوى فيه الجميع في الحقوق والواجبات. ولعلّ أكبر درس كتبته الانتفاضة بحروفٍ من ذهب، ولم تستوعبه طغمة الحكم، هو درس الوطنية والتمسك بالهويّة الوطنية، وترسيخ التعامل على أساسها، والانتماء إلى العراق وطناً للجميع، والحرص على وحدته. هذا الدرس الذي أخاف الطائفيين الذين لا رصيد لهم سوى التمترس وراء الطائفية والانقسام.
شطبت الانتفاضة من القاموس السياسي والاجتماعي مفاهيم "الروافض والنواصب"، وأتت على الصراع "الشيعي – السني" لكن هذا الوعي المتقدم لا يروق لمن لا يريد رؤية الشعب العراقي موحّداً، يتجاوز الانقسام الذي عمل الطائفيون على ترسيخه في المجتمع، يتوحّد بالدفاع عن مصالحه العامة ببسالة نادرة. جعلت الانتفاضة من شعارها الأساسي (نريد وطن) أساساً فكرياً وأخلاقياً لرؤيتها التي تستند إليها في التعديلات الدستورية المطلوبة، بهدف ترسيخ مبدأ المواطنة وتحقيق العدالة الاجتماعية. وقد بينت أنّ لا تغييراً إن لم يأتِ على إعادة بناء العلمية السياسية، وفقاً لمبدأ المواطنة، وتخليصها من الطائفية السياسية وكل أشكال الانقسام. فالمواطنة التي هي حجر أساس الوعي الجديد الذي برز بوضوح تام عند شباب الانتفاضة، فجعلها عزيزة تكسب تعاطفاً واعياً مشحوناً بعاطفة مرهفة.
لم يقف هؤلاء متفرّجين أمام تنامي وعي التغيير المنطلق بأفقٍ جديد مقدام، يتقدم وهو يحمل رياح تجديد الخطاب الوطني. خطاب الانتفاضة الوطني استفز كل من لا مصلحة لهم في استقرار العراق، سيّما الدول الخارجية والإقليمية التي حاولت عبر أذرعها وامتدادها إجهاض الانتفاضة، عبر شتّى صنوف القمع والتخريب والتشويه، وكان أبرز أساليب إجهاض الانتفاضة، هو التدخل بالشؤون الداخلية وجعل العراق ساحة لصراعات المصالح الخارجية، والاستهتار بانتهاك السيادة الوطنية.

المحتوى الطبقي للانتفاضة

وفّرت السلطة و نهج المحاصصة أرضية كبيرة لتوسع ثراء المسؤولين الجدد الذين كوّنوا ثرواتهم وراكموها عبر الرواتب والامتيازات الكبيرة، والعطاءات المشبوهة الوهمية، وحصصهم وتابعيهم وأزلامهم ومحازبيهم من مقاولات التجهيز والإعمار، وصفقات الفساد المالي والإداري، التي تعاظمت مدياته وتحول الى (مؤسسة) قوية لها مخالب وخطاب سياسي مداهن، منتجين فئات اجتماعية غير منتجة وفاسدة. ازداد عدد أصحاب الملايين والمليارات من الدولارات الأمريكية، ممّن اغتنى على حساب الشعب والاستئثار بالأموال العامة بالطرق غير الشرعية، بشتّى الطرق، في حين تعيش فئات واسعة من الشعب العراقي، على مستوى خط الفقر أو دونه. فاتّسعت تبعاً لذلك الهوّة الاجتماعية بين طغمة الحكم وحلفائها من جهة وعامة الشعب العراقي من جهة أخرى. واتّسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتعمّقت إشكالية سوء توزيع وإعادة توزيع الدخول والثروات بين أفراد المجتمع العراقي. فتفاقم التفاوت الاجتماعي وتعمّق الفرز الطبقي والاجتماعي، ممّا ولّد السخط وعدم الرضا. وكانت السمة المميزة لهذا التفاوت هي تصاعده لصالح طغمة الحكم، في مقابل زيادة نسبة الفقر وارتفاع خط الفقر، وتزايد نسبة البطالة، خاصة بين الشباب الذين انسدّت أمامهم فرص العمل. وأغلقت في وجوههم سبل العيش الكريم، وطحنتهم البطالة وصعوبات الحياة. شباب واقعه مؤلم ومستقبله معدوم. شباب فقدوا الامل، ولم يجدوا ضوءاً في نفق المحاصصة المظلم. لم يبصروا حلّاً في نظام رسخ اللاعدالة، وكرس الهوة الطبقية والفوارق الاجتماعية والفجوة المعيشية بين طغمة استأثرت بموارد البلد وأمواله وإمكانياته، وبين ملايين الشباب العاطلين عن العمل، وسكنة العشوائيات التي هُدّمت على رؤوس ساكنيها بأقسى صور الظلم، دون توفير بدائل تليق بمواطني العراق الغني بتنوع وامكانيات سكانه، وثراء موارده الطبيعية. وفشل نظام المحاصصة في ادّعائه المداهن أنّه جاء لإنصاف الشعب ورفع الحيف عنه، ونقل العراق نقلة نوعية بعد السنوات العجاف التي عاشها تحت حكم النظام الدكتاتوري الذي حكم العراق بالنار والحديد.
إنّ العامل الطبقي هو أهم الفواعل المحركة للانتفاضة الباسلة، بوجه الفساد والمفسدين والمحاصصة. وهكذا رفض شباب العراق من أقصاه إلى أقصاه النهج الذي سار عليه النظام، والذي أرسى عدم العدالة والتمييز والتهميش، وأنتج الفساد والفقر، وجعلوا العدالة الاجتماعية، العنوان الأبرز في انتفاضتهم الباسلة أمام نظام غابت فيه العدالة والانصاف.

انتهاكات وخرق السيادة

إنّ أحد أهم أهداف التصعيد بين واشنطن وطهران هو إجهاض الانتفاضة، وذاكرة العراقيين طريقة كي تعيد أحداث انتفاضة اذار ١٩٩٠، التي كان، من بين أسباب فشلها، التدخل الإيراني والتواطؤ الأميركي الذي أطلق أيادي النظام الدكتاتوري بقمع الانتفاضة الباسلة، التي هدفت تغيير النظام من الداخل في وقت لم ينضج مشروع الاحتلال آنذاك. وهكذا جاءت انتهاكات واشنطن وطهران لسيادة العراق خلال الأيام القريبة الفائتة، منذ أن قامت القوات الامريكية بعملية اغتيال راح ضحيتها عدد من الشخصيات الرسمية العراقية والقيادية في الحشد الشعبي والتي كان لها دور في التصدي لداعش الاٍرهابي وتحقيق النصر عليه. إنّ مسلسل الانتهاكات السافرة والخطيرة المتبادلة خلال الأيام الأخيرة يؤشّر تحول العراق أكثر فأكثر إلى ساحة تصفية صراعات إقليمية ودولية، ويدفع ثمنها الباهظ شعبنا بالدم والدمار. ويؤشّر إلى ازدياد حدة التوتر في المنطقة وتعاظم مخاطر زجّ العراق في الصراع الأمريكي- الإيراني، في ظلّ غياب أيّ جهود جدية لبناء موقف وطني عراقي شامل ينطلق من المصلحة العليا لشعبنا ووطننا يجنبه ويلات نزاعات دولية وإقليمية والعمل على نزع فتيلها وتسويتها بالطرق السلمية والدبلوماسية واحترام القوانين والأعراف الدولية وصيانة السلم وأمن الشعوب.
فالمواجهة اليوم بين الولايات المتحدة وإيران، تعرّض الانتفاضة إلى مخاطر كبيرة. منها محاولاتهما المشبوهة بحرف الصراع الأساسي الدائر بين الشعب المطالب بكرامته وبين طغمة الحكم الفاسدة المتحكمة بمصيره. وتعمل على تحويل هذا الصراع الأساسي الذي أحرز الشعب فيه نجاحات ملموسة، إلى صراع تبعية وموالاة، وذلك بافتعال انقسام خبيث، وكأنّ العراقيين طرفان، الأول يوالي المشروع الأميركي والآخر يوالي المشروع الإيراني، بقصدية واضحة هدفها إعادة تأهيل نظام المحاصصة والفساد الذي وصل إلى ذروة أزمته البنيوية، وأصبح مشلولاً أمام انتفاضة الشعب العراقي الباسلة.

الانتفاضة تستمر ويتجدد عنفوانها

خابت لغاية الآن مآرب الصراع والتصعيد، كذلك فشلت محاولات طغمة الفساد في إعادة تكليف عادل عبد المهدي رئيس الوزراء المستقيل، الذي وجد هو وكل القوى الداخلية والخارجية التي لها مصلحة في بقاءه بالحكم، في هذا الصراع والتصعيد فرصة لترتيب الاوراق، وتبددت مساعيهم، وصابهم الذهول، وذلك عندما انطلقت تظاهرات كبيرة يوم الجمعة ١٠/١/٢٠٢٠ بعزيمة راسخة وإصرار عجيب، رافعة شعارات الانتفاضة الوطنية، وكأنّها تتجدّد مرة أخرى بعنفوان وقوة، ما أعاد البريق إلى المنتفضين وخطابهم الذي أكّد أنّ لا مشروع يقبل به المنتفضون سوى المشروع الوطني، وأنّ العراقيين، الذين ما برحوا المعاناة من الحروب وتداعياتها وخسائرها البشرية والمادية الفادحة، لا زالت ذاكرتهم طرية وهي تحمل ذكريات الفقدان وخسائر الحروب وجروحها الغائرة التي مست كل العوائل العراقية.
يستمر الشعب في انتفاضته، ويواصل أنشطتها ويطور من أساليب التصعيد السلمي، إذ تتّسع الاحتجاجات، وينزل المتظاهرون إلى الساحات والشوارع بقوة. لم يبخل المنتفضون بشيء للتعبير سلميّاً عن حبهم لوطنهم الذي يتطلّعون إلى رؤيته آمناً مستقرّاً ومزدهراً. لم يردعْهم قمع وإرهاب طغمة الفساد وأساليبها المشينة. يواصل المنتفضون كفاحهم اللاعنفي بهمة ونشاط وصبر لافت للنظر، ولم يفت في عضدهم ما رافق ذلك من حملات تشويه وضغط وإكراه وتهديد وخطف وقتل في أكثر من مكان.

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 371
`


د. جاسم الحلفي (عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي)