أول من أيار: هل هذه هي أزمة الرأسمالية الأخيرة...؟

أمام المشهد الساخن الذي يمرُّ به البلد والعالم، لا بدّ من وقفة عقل "باردة" كما دائماً حسب بيرتولد بريخت: "الشيوعي هو: قلب حامي، عقل بارد، وكفّ نظيف"، ونسأل، أين أصبحت معادلة: الصراع بين رأس المال والعمل في الرأسمالية التي قالت بها الماركسية؟ ما هي تحوّلاتها التاريخية وما هي آفاقها؟

ليس الأسئلة بجديدة ولا حتى محاولات الإجابة عنها. ولكن هناك ضرورة لطرحها مجدّداً لأنه هذا الجديد التاريخي لم يسلك طريقه بالشكل المطلوب إلى مضمون رؤية القوى الثورية، وبالتالي إلى برنامج وخطاب وشعار وممارسة هذه القوى، وإلّا فإن الأزمة ستبقى مستمرة في ظلّ دفعها نحو التوتير والانفجار، المطلوبين لقطع الطريق على أي تطور تقدمي في الصراع. ولا نملك رفاهية الوقت.

مجدّداً: في توصيف المرحلة التاريخية
لا زلنا خلال العقد الماضي نخوض نقاشاً نظرياً وفكرياً وسياسياً حول توصيف المرحلة التاريخية التي نحن فيها، وبالتحديد، حول طبيعة الأزمة الرأسمالية التي تطبع المرحلة. فالأزمة هي تعبير عن تناقضات في المجتمع كلّه، من الاقتصاد إلى الاجتماع إلى السياسة. أما الاقتصار على جزء منها (الاكتفاء بالمستوى السياسي الفوقي مثلاً) يعني تخفيض واختزال الرؤية، وهو ما سيؤدي الى استنتاجات منتقصة، وخاطئة حكماً. فالتوصيف "السياسي الفوقي" للإمبريالية، أي في اعتبارها صراعاً خارجياُ بين القوى، هذا مثلاً يجعل هذا التوصيف يفصل بين الإمبريالية والرأسمالية كتشكلة اقتصادية - اجتماعية مبنية على نمط الإنتاج الخاص بها. أي أن ما يقوم به هذا الفكر المثالي "اليساري - الماركسي" هو مماثلة العلاقات الإمبريالية مع الدول نفسها، وتصير بالنسبة له الإمبريالية هي دولة أو مجموعة دول، بينما هي بالفعل بنية علاقات تتمثّل فوقياً بأطر سياسية كالدّول.
وعلى الرغم من العبارات الاقتصادية في هذا التحليل، إلّا أنه يبقي على العلاقة الإمبريالية كـ "سياسية خارجية"، نقضه لينين في "بصدد الكاريكاتور عن الماركسية، وبصدد الاقتصادية الإمبريالية"، أنه: "تعريف سياسي صرف، سياسي فقط للإمبريالية... يتملّص من التحليل الإقتصادي"، واعتبره "يخلط بين جوهر الإمبريالية الاقتصادي وبين اتجاهاتها السياسية"، وهذا الفهم المغلوط تكرار لـ "المتردّد كاوتسكي" باعتبار الإمبريالية "مجرّد نظام للسياسة الخارجية". وهذا التماثل يجعل هذه القوى غير قادرة على فهم موقع الدول الإشتراكية السابقة في المعادلة (الصين وروسيا تحديداً)، فتظهر هذه الدّول بالنسبة لهذا الفكر كرأسماليات خارج الإمبريالية، لا كدول ضمن البنية الإمبريالية وخاضعة لقوانينها الاقتصادية "الاحتكارية".
وهذا التطرف "السياسوي" يؤدي بدوره إلى تطرف "إقتصادوي". فالاقتصار على التحليل السياسي الفوقي يجعل من فهم التناقض التحتي (التناقض بين العمل ورأس المال، بين علاقات الإنتاج والقوى المنتجة) وكأنه لا زال يتكرّر دون تطور، بل بتماثل خارج التاريخ.
هذا نفي لتطوّر التناقض ضمن الرأسمالية نفسها. فالتعريف "السياسي الصرف" للإمبريالية يعني تلقائياً الفصل بين الرأسمالية وبين الإمبريالية. وكون الإمبريالية لا تتطوّر بنيوياً يعني أنها تتجدّد بلا حدود، وهكذا يسقط تلقائياً مفهوم تراجعها التاريخي، ويعني تالياً تخفيض السقف السياسي للصراع ضدها، ويَفقِد الصراع طابعه الثوري، أي نفي احتمالية استنفادها لأفقها التاريخي. هذا بذاته يسقط نقيض الإمبريالية من الاحتمال، أي الاشتراكية. وهكذا يسقط مجمل البناء الفكري والسياسي للماركسية - اللينينية. هكذا ينحصر الصراع مع الإمبريالية بتغييب طرح نقيض للرأسمالية كبنية سياسية - اقتصادية بديلة. هذا هو "التطرف الاقتصادوي" عبر نفي ضرورة التحوّل السياسي نفسه، وتخفيض سقف الصراع السياسي، وتفريغ الممارسة من جوهرها السياسي الثوري، والتركيز على تعديلات في البنية الرأسمالية نفسها على مستوى الاقتصاد وليس على مستوى الإنتاج ونمط العلاقات الاجتماعية الناتجة عنه. وهنا أصل القناعة الضمنية لهذا الخط الاقتصادوي / السياسوي بعدم القدرة على القطع مع الرأسمالية اليوم. وهنا يطل لينين مرة جديدة، عندما اعتبر ان الصراع مع الامبريالية هو ذاته صراع مع الرأسمالية كشكل حضور العلاقات الامبريالية في دولة ما. أي ما يمكن التعبير عنه بالـ "الفهم الداخلي" للإمبريالية بدل "الفهم الخارجي" الذي نقده لينين سابقاً.

ما الجديد؟..
وهذا يأخذنا إلى خصوصية الأزمة أخذت كثيراً من النقاش والتعمّق. أي كونها أزمة عميقة للرأسمالية، ليس كأزمة دورية فيها، بل كأزمة نهائية. أي أن إمكانية إعادة إنتاج الرأسمالية فقدت هوامشها (هوامش التوسع السابقة)، فهي قد استهلكتها كلها، على مستوى الطبيعة والإنسان. وإذا أخذنا هوامش توسّعها على مستوى الإنسان للتدليل على انغلاق هوامش التوسع: كانت الإنتقالة من الاستغلال المادي المباشر، إلى مستوى معنوي أعمق - يتشارك مع الإستغلال المادي، تمثّل في الليبرالية الفردية التي أطلقت حركة الذات، ولكن منعتها من التحقّق، تلك الإنتقالة استنفدت مستويات التوسّع على صعيد الفرد، وهي لذلك اليوم صارت مهدّدة للبنية العقلية والجسدية للفرد.
إذا نحن أمام أزمة موضوعية مادية في المجتمع، كنمط حياة شامل، كحضارة. ولهذا قلنا سابقاُ ومنذ سنين أن حلّ هذه التناقضات العميقة يتطلب ليس فقط تحوّلات كميّة في الرأسمالية، بل تحوّلاً نوعياً في نمط العلاقات الاجتماعية التي هي تعبير عن نمط من علاقات الإنتاج، باتجاه الاشتراكية بالمعنى الممارسي الغرامشي اليومي لحياة الناس على صعيد أدوارها وعلاقتها بالعام، بنفسها وبغيرها، أي ولادة معاني جديدة للحياة تحمي الإنسان أولاً من الدمار الوجودي، وتحرّر طاقته الكامنة، أي قوة عمله التي شفطها العمل المأجور الرأسمالي، وحطّمها في ذات الوقت. أي عدم كفاية إعادة توزيع نسبي للثروة كما حصل في الموجة الثورية الأولى خلال القرن الماضي، عدا بعض خصائص الحكم الشعبي في التجارب الاشتراكية. أي نموذج حياة يتحوّل عن اقتصاد السوق والاستهلاك والعمل المأجور والإنتاج البضاعي المُغرَّب، هذا النموذج الذي لم يكتمل تطوّره. وها نحن اليوم أمام مفترض تاريخي بسبب هذه الأزمة بالذات، إما الفناء (وليس فقط البربرية) أو الإشتراكية.

من الرؤية إلى البرنامج...
معالم الرؤية العامة تفرض برنامجاً مناسباُ لحل هذه التناقضات، وقادر على توظيف التناقض العالمي المتمثّل في صعود تيار عالمي يعكس التناقض في البنية الامبريالية، الذي يمثّله قطب الشعوب وقوى دولية مدفوعة بحكم صراعها الوجودي نحو خوض مواجهة الفوضى والانهيار الذي تخلقه الأزمة الامبريالية عالمياً، وكلّ تبعتها الصحية والاجتماعية والعسكرية والاقتصادية. ويمكن مراجعة التحوّل في طروحات الهيئات الدولية كالأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية الأخيرة في سياق كورونا، كمؤشر على هذا الخط العقلاني عالمياً. هذا الطرح يجب أن يتضمّن أقصى التحوّلات الضرورية في الانفكاك عن آليات النهب كالدولار والقروض المرهقة، والإنتقال إلى تكامل مع التحوّلات التي تطرحها القوى الصاعدة من تبادل في العملات الوطنية، وهذا يتطلب تعظيم دور الدولة في الحياة الاقتصادية، كالإمساك بالتجارة الداخلية والخارجية، وانتقال إلى اقتصاد يؤمّن النمو السريع والأمن الغذائي والطبي والطاقوي، وتأميم القطاع المالي، والإمساك بالتمويل. والأهم هو تعديل في آليات الحكم، وتوسيع قاعدة الحكم الشعبي المباشر وآلياته، والتي ستحقق شعار "التوزيع العادل للثروة والإدارة" وهو ما يفتح طريق كسر الاغتراب الخاص بالعمل المأجور ومصادرة الممارسة الحيّة في ظلّ التقسيم الحالي للعمل. هذا يجيب عن التناقضات التحتية والفوقية، والمادية والمعنوية، التي ترسم معالم نمط حياة جديد، عن حلم جديد، يتخطّى الاختزال الاقتصادوي.

نحو الحل...
ماذا نهدي العمال، والشعب بأكمله، في عيد بناء الحياة الجديدة الذي يمثّله الأوّل من أيار...؟ أولاً، يجب أن نثبّت عملية التغيير في مسارها الذي يتناقض مع التصعيد والتوتير، واستغلال الحركة الشعبية من قبل ما يريد المساومة على مصير المجتمع بكامله. هذا يتطلب ما لم يتم تقديره حق تقدير إلى اليوم، وهو تطوير الصراع السياسي الذي يغير المشهد السياسي، وأرضية جديدة ضدّ الانقسامات العميقة في جسم المجتمع التي لا يمكن للقوى المتصدّرة المشهد على أخذنا نحوها بسبب هويتها "الطائفية" سياسياً.
هل نسينا الحكومة الانتقالية؟ ما هي؟ إن المخرج السياسي يتمثل في حكومة أزمة إنقاذية تفرض نفسها كخيار عقلاني على الجميع. هكذا طرح سيشكل معركة لفرز القوى المتشدّدة والقوى العقلانية في القوى كلها. حكومة سقفها برنامج تغييري، تستفيد من الخط الدولي الداعم للحلول السياسية والاستقرار. ومدعومة من المهدَّدين الطامحين للتغيير، وأساسهم أصحاب العيد إيّاه.

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 376
`


محمد المعوش