غنى وتعقيد الصراع أمام عمى العقل الميكانيكي

سوف لن نخرجَ عن سياق المقالات الماضية، والتي فيها نحاول أن نضع شرطين ضروريّين اليوم، الأوّل هو إنتاج قانون المرحلة التاريخية الراهنة على مستوىً شامل، أي موقع هذه المرحلة في التاريخ، والتناقضات التي تطبع الصراع فيها. والثاني، التشديد على أن يكون استناد أيّ مشروع سياسي وممارسة الحزب إلى هذه الرؤية الشاملة بما لا يتعارض مع قانون المرحلة. فكلّ تعارض يضع الحزب في كبحٍ عن الممارسة، والأخطر أنّه يؤدي به إلى أخطاءٍ سياسية قاتلة (مراجعة المقال السابق في النداء).

في المادة الحالية سنحاول التركيز على فكرة واحدة، هي: الخطأ في عدم فهم جدلية الصراع وتعقيده، والاستناد إلى منطق: إمّا أبيض أو أسود. هذا الفهم الميكانيكي الخاطئ بـ: إما/أو، هو في جوهر الفكر الذي يقع اليوم في الخطأ القاتل "المتطرّف فكريّاً"، و"الصبياني" سياسيّاً، والذي لا يمايز بين طبيعة القوى التي تصارع في العالم. وسيكون المثال هنا، بشكل عام، الصين، لخصوصية تجربتها المتداخلة بشكلٍ كبير في النظام الرأسمالي العالمي. هذا التداخل هو ما يدفع البعض للاستنتاج "السهل" والميكانيكي بأن الصين كونها جزء من الاقتصاد العالمي، إذاً هي رأسمالية، و"معركتها" مع الامبريالية ليست إلّا محاولة للحصول على حصّتها من الثروة العالمية، وبالتالي فنحن غير معنيّين بهذه المواجهة التي يعتبرها هؤلاء غير تقدمية سياسيّاً، وفي أحسن الأحوال ينظرون إلى هذه المواجهة من موقع: اضرب الظالم بالظالم، في إشارة إلى أنّ القوى كلّها، بما فيها الصين أو روسيا أو إيران أو... هي قوى ظالمة كما الولايات المتحدة أو قوى رأس المال العالمي. وهذا الموقف، بحدّ ذاته، هو السقوط في فخ عدم التمييز بين القوى المتصارعة. وفي عدم التمييز هذا، يضعُ هذا الفكر نفسه في مواجهة الصراع ككل، فيبقى خارجه من موقع المتفرّج العاجز.
الصين وخلال "مرحلة الانفتاح" انتقلَتْ إلى اقتصاد رأسمالي مع مميّزٍ أساس أنّه ممسوكٌ من الدولة. وكونه كذلك، أبقى على القرار السياسي التخطيطي بيد الدولة، وكبحَ التوسّع الرأسمالي الخاص في حدود معينة. هذا الطابع أسّس لنهوضٍ كبير اقتصاديّاً طوال العقود الأربعة الماضية، وترافق مع خروج مئات الملايين من الفقر والجوع وتحسّن المستوى الصحي والتعليمي والتكنولوجي. ولكن هذا الإنتاج قامت به الصين فقط لأن الثورة الاشتراكية أسّست إمكانية للاستقلال الاقتصادي السياسي ضمن المنظومة الامبريالية. إذاً: سارت الصين على أساس ما ورثته من تحرّرٍ تاريخي في طريق الانخراط بالسوق العالمية، حيث شكّلت فيها الصين ميداناً رخيصاً للإنتاج العالمي والشركات العابرة التي استفادت من رخص اليد العاملة. ولكن بسبب الدور التخطيطي الاقتصادي، تمكّنت الصين من أن تستفيدَ من دخول رأس المال الأجنبي لكي تطوّر هي قطاعها التصنيعي والتكنولوجي المنافِس، وصارت مُنافِساً تجاريّاً عالميّاً يهدّد احتكار قوى رأس المال ليس للمنتجات البسيطة التصنيع، بل في المجال التكنولوجي الذكي والمتطور. بالرغم من أنّ المسار الرأسمالي داخل الصين ولّد تناقضاتٍ كبيرة أهمّها الفروق الطبقية والتراجع الزراعي لصالح الصناعي واستهلاك الطبيعة لناحية المعادن مثلا بشكل كبير(التلوث المرتفع).
الأزمة وانفجار الصراع
تعايشت الامبريالية والصين نفسها طوال العقود الماضية مع هذه الصيغة إلى حدّ انفجار الأزمة الرأسمالية في عام 2008، والتي فتحت مسارين في العالم: الأول هو انهيار العديد من اقتصادات الطول الطرفية المستباحة من رأس المال العالمي، نتيجة تعفّن أنظمتها وانفجار البؤس الاجتماعي والسياسي ما دفع بالحركة الشعبية إلى الفعالية العالية، والثاني، هو أن الرأسمالية تحرّكت لكبح التغيير في هذه الأنظمة من خلال تفتيتها، والهجوم على التقدم الصيني الاقتصادي في الوقت عينه. وترافق ذلك مع انهيار في السوق العالمية. هنا عمليّاً دخلت الصين أزمةَ حماية السلم العالمي ودفع النمو وذلك للحفاظ على استقرارها ووجودها. فلم يعُدْ التعايش السابق بين العلاقات الامبريالية والصين ممكناً كما السابق. وما أزمة خواواي إلا مؤشر على الانفجار، مضافاً إليه الحرب التجارية التي أشعلتها الولايات المتحدة. ليس ذلك فقط، بل إنّ هذه الأزمة في العالم ومحدودية دور الصين كمصدر للبضائع صار مهدّداً ممّا يهدّد أزمة جديّة في الصين نفسها، إضافة إلى أنّ إمكان استمرار منافسة الصين يؤدي إلى احتدام تناقضات أي مجتمع رأسمالي، لناحية رفع الأجور، وخروج أعدادٍ من العمال نتيجة تراجع الصنيع، ودخول التكنولوجيا المتطوّرة ممّا يقلّل من الحاجة لليد العاملة، إضافةً إلى تصاعد الفروقات الطبقية.
محاولة للخلاصة
الوضعية أعلاه تبرز مدى التعقيد الناتج عن ترابط الصين الشديد مع الاقتصاد العالمي، فهي من جهة تعتمد عليه لناحية التصدير، ومن جهة أخرى أصبح النظام الرأسمالي العالمي غير قابل للاستمرار بما يهدّد هذه العلاقة ويهدّد الصين نفسها. فالصين اليوم لكي تمنع الانهيار العالمي من جهة، والحفاظ على إمكانية أن تبيعَ وتصدّر، عليها أن تحافظَ على وجود الدول الذاهبة للانهيار، وهنا لا يمكن أنْ ننسى أنّ بقاء هذه الدول المهدّدة غير ممكن دون الانتقال إلى نموذجٍ اقتصاديّ مستقل وطنيّ عادل كسوريا والعراق وتونس وفنزويلا والسودان والجزائر ولبنان... إذاً الضرورة الموضوعية تفرض أنّ أي حفاظ على السلام العالمي من جهة، والحفاظ على المجتمعات من جهة أخرى، يجبر الصين كما كلّ الدول على الصراع عمليّاً مع سياسة الامبريالية التهديمية، ولكن أيضاً يطرح نظاماً عالميّاً اقتصاديّاً عادلاً قائماً على التحرر من الامبريالية ورأس المال، فلا استمرار للدول الطرفية في أفق العلاقة الرأسمالية.
إنّ رؤيةَ الصراع والتناقض أعلاه ضروريٌّ، ولكنّ العقلَ الميكانيكي يبدو عصيّاً على فهمها.

  • العدد رقم: 359
`


محمد المعوش