لا سيادة ولا وحدة داخلية في نظام طائفي

المشهد اللبناني الذي يضجّ بتخبّط وتناقضات سلطوية، فوق الطاولة على الأقل، يتماثل مع مشهد برج بابل. ويجري ذلك في ظلِّ تضاؤل وانحلال دور الدولة، والضغط على القضاء، وازدياد الفلتان الأمني، وأسعار الحاجات المعيشية، واللعب بسعر الدولار، والتراجع في المجال الصحّي والتربوي، واشتداد الخناق على حياة الشعب.

وفوق ذلك، تقوم الأطراف السلطوية بالتحايل على الشعب وتحميله وبخاصة المودعين في المصارف، القدر الأكبر من كلفة الخسائر والانهيار الذي تسبّبوا هم به وليس المودِعون. وهذا ما أدّى بمجمله إلى نقمة شعبية عارمة بدأت في انتفاضة 17 تشرين وتستمرّ اليوم في النفوس، وتتجلّى أيضاً في الاحتجاجات والإضرابات اليومية في عدد كبير من القطاعات، رفضاً للوضع البائس.

ومع ازدياد القلق الذي ينتاب الأطراف السلطوية إزاء الوعي الشعبي، تقوم بعض القوى السياسية التي تدّعي أنها "سيادية" بطرح نزع سلاح المقاومة كأولوية، وتلتقي في ذلك مع هدف الرسالة الخليجية الأميركية الإسرائيلية لتنفيذ القرار 1559 الصادر عام 2004، الرامي إلى نزع سلاح المقاومة.

ومع أنّ المقاومة الإسلامية تستقوي بسلاحها أيضاً لتعزيز نفوذها ودورها على صعيد السلطة، وضدّ التحرّكات الشعبية ومن يخالفها الرأي. وإنّ ذلك يخلق اشمئزازاً على صعيد لبناني وشعبي واسع، فمن غير الجائز إغفال أنّ المقاومة بطابعها الوطني ثم في مرحلة بنيتها المذهبية نشأت ردّاً على اعتداءات وحروب العدوّ الصهيوني واحتلاله لمناطق ولأرض لبنانية وصولاً إلى عاصمتنا بيروت عام 1982 من جهة، وعلى تخاذل سلطة الدولة واستنادها إلى "أوهام" الضمانات الدولية و"مقولة" لبنان قوي بضعفه من جهة أخرى.

وإذا ما كان استخدام المقاومة الإسلامية خارج نطاق دورها لبنانياً ضدّ الاحتلال، وتبعاً لمصلحة الطرف الإيراني في الصراعات الإقليمية ضدّ دول عربية وما يولّده ذلك من ضررٍ بمصلحة لبنان واللبنانيين، ومن زيادة في تعقيد الوضع اللبناني المأزوم، فلا يعني ذلك إنهاء الحاجة إلى دور المقاومة لبنانياً. فإسرائيل لم تنفّذ حتى الآن القرار 425 بكامله. فثمة أرض لبنانية محتلّة مثل الغجر وقرى مزارع شبعا وكفرشوبا، إلخ. وإنّ إسرائيل طامعة بأرض لبنان ومياهه وثروته الغازية. وليس مقبولاً التغاضي أو التخلّي عن شبر أرض أو مياه بحرية لبنانية لصالح العدو الاسرائيلي. وليس خافياً أنّ الذين يرفعون الآن شعار نزع سلاح المقاومة يعرفون جيداً أنّ تحقيق ذلك حالياً هو أمرٌ غير ممكن، ويؤدّي إلى خطر تصادمات وحرب أهلية. والغرض من ذلك الآن هو تحوير المناخ الشعبي الناقم منذ انتفاضة 17 تشرين وخلق عنوان آخر عشية الانتخابات النيابية إذا ما جرت، يستخدمونه معياراً بديلاً في الانتخابات لخيار تغيير الطبقة السلطوية ونظامها الطائفي العاجز.

ويأتي تمسّك أدعياء السيادة وأمثالهم من السلطويين بنظام التحاصص الطائفي، ليكشف أنّ تناقضات وانقسامات هذا النظام، قد حالت دون جعل الكيان وطناً والسلطة دولةً، وبدونهما يبقى شعار السيادة كلاماً فارغاً لا أساس له. وبالتالي من حق الناس التساؤل أيضاً، هل أنّ قيام قادة تيار "السيادة" باستقدام التدخّل العسكري السوري عام 1976 ضدّ الحركة الوطنية اللبنانية ومنع تحقيق برنامجها في بناء لبنان السيّد العربي الديمقراطي العلماني هو موقف سيادي؟ وهل كان نقل البندقية وتوجيهها ضدّ سوريا عند رفضها السير مع مخطّط كامب دايفد موقفاً سيادياً؟ وهل تنسيق التيار المذكور مع الغزو الصهيوني للبنان وعاصمتنا بيروت عام 1982 هو حرص على السيادة؟

لا مخرج للبنان من دوّامة الأزمات والانقسامات ومن البقاء ساحة صراعات خارجية وداخلية إلّا باعتماد المواطنية وليس الطائفية أساساً لبناء وحدة لبنان الوطن والدولة. وكلّما تعزّز دور الدولة الوطنية وقدراتها على حماية لبنان أرضاً وجوّاً وبحراً، كلّما تضاءلت الحاجة إلى مقاومة من خارج الدولة وصولاً إلى زوال أسباب وجودها.