دولة المحتكرين

يوم انتهت الحرب، ظنّ المواطنون أن أبو الجواهر فقد وظيفته. لكن أبو الجواهر لا يموت، في بقعة جغرافية لا يُعلم أسباب بدء وانتهاء أي حدث فيها. رمى سلاحه، وخلع بزّته العسكرية، ودخل إلى مرافق الدولة، موظّف أو محتَكِر. لم يعد يقفل طرقات، ولا يتزّعم خطوط التماس، بات ركناً أساسياً في الدولة العميقة. يسيطر على ثلاث قطاعات حيوية في حياة الناس، الدواء، القمح والنفط. وإن حاول أحدٌ ما المسّ بمصالحه، يشلّ القطاعات كما هي. هذه دولة أبو الجواهر.

 أزمة الدولار والكارتيلات ...

بدأ شح الدولار في السوق يظهر منذ عام 2016، وأتى الحلّ بالهندسات المالية لتأمين دولار، وفي بداية شهر أيلول من عام 2019، بدأت ظواهر أزمة القمح والمشتقات النفطية - أزمتان مرتبطتان ببعضهما البعض، وبعد إعلان إضراب مستورّدي المشتقات النفطية، الذي عادوا وتراجعوا عنه، أعلن مستورّدو القمح الإضراب. كانت المشكلة في ارتفاع سعر صرف الليرة من 1515 إلى 1620، فخسر المستوردون 5%، فأصدر مصرف لبنان تعميماً يعلن أنه سيؤمّن المال للمستوردين عبر اعتمادات من البنوك، لثلاثة قطاعات، القمح والدواء والمشتقات النفطية. إلّا أن هذا الدعم يأتي من أموال المودعين، المُسمّاة - موجودات مصرف لبنان القابلة للاستعمال، لحماية الكارتيلات.

ينصّ التعميم على أن يؤمّن المصرف المبلغ المطلوب بالدولار ويصرف على 1515 من البنوك، عبر الدفع بالاعتمادات المستندية وهي تعهد من قبل البنك بصرف المبلغ بعد تأمين المستندات اللازمة لإتمام صفقة البيع، فتكون الأموال ضمانة عند البنك وهو يقوم بالدفع. ولكي يتمكّن المصرف من ضبط هذه العملية، طلب من المستوردين تأمين 15% من ما يوازي القيمة المستوردة بالدولار، ويؤمّن مصرف لبنان 85% من القيمة بالليرة. 

 عند كلّ استحقاق يعود الحديث عن قدرة المصرف بفتح الاعتمادات وعن كمية الاحتياطي من العملة الأجنبية. تقلّ كميات المحروقات، ويلوّح المستوردون بالإضراب، فتهافت المواطنون لشراء البنزين وبدأت ظاهرة طوابير السيارات أمام المحطات، وتجمّع الناس عند الأفران خوفاُ من فقدان الخبز. لعبة الكرّ والفرّ بين المستوردين والدولة وضعت الناس رهينةَ قلّةٍ من الجشعين فاقمت معها النقمة الشعبية التي أدّت بعد أيام، في 17 تشرين، إلى اندلاع الانتفاضة الشعبية. منذ منتصف عام 2020 بدأ الشح في هذه المواد الأمر الذي فاقم أزمة إضافية تقع على كاهل المواطن اللبناني.

المحتكرون هم مجرّد تجارٍ بالنسبة للدولة، ويتمّ التفاوض معهم على نسب مئوية لربحهم. في دراسة أعدّها .. الخبير الاقتصادي توفيق كسبار ومؤسسة البحوث والاستشارات عام 2003، بعنوان "المنافسة في السوق اللبنانية"، كشفت أن أكثر من نصف المبيعات في الأسواق الداخلية في لبنان تسيطر عليها شركات احتكارية.

 

النفط: تركة ميليشيات الحرب ...

لا تستورد الدولة المشتقات النفطية مباشرة، وهذا يزيد من الأعباء على خزينة الدولة لأن التجار لا يسمحون للدولة باستيراد النفط، هم يتحكّمون بالأسعار والكمية، وهذا القطاع لا يزال يخضع لسلطة الميليشيات منذ الحرب الاهلية.

يوم حاولت وزارة الطاقة إطلاق منصة لاستيراد 150 ألف طن بنزين، تكاتف المستوردون بحجة عدم قانونية الخطوة، وأعلن أصحاب المحطات الإضراب ليومين. تستورد 13 شركة النفط وتسيطر على 55% من محطات الوقود المرخّصة، كما أنها متعاقدة مع معظم صهاريج النقل والتوزيع.

ليس سهلاً الحصول على رخصة استيراد، إذ يتطلب توفّر خزانات على الشاطئ لتفريغ الحمولات، في وقت بات من الصعب استحواذ مساحة للتخزين لقلّة الأراضي المتبقية على الشاطئ. أما الدولة فتمتلك قدرة تخزينية إجمالية تبلغ 730 ألف طن متري، وهي تستورد فقط المازوت.

عصابات الأدوية ...

يستورد لبنان ٩٠ ٪ من الادوية بكلفة تتراوح سنوياً بين مليار وثلاثمئة مليون دولار ومليار وخمسمائة مليون دولار. هذا الرقم يعد مرتفع جداً نظراً لعدد السكّان في البلد هذا مع العلم أنّ بعض الادوية لا حاجة سوقية لها، إذ لكلّ دواء 5 أصناف مشابهة، وهناك أدوية لا أمراض لها، والدولة لم تعمل على إنتاج الأدوية "الجينيريك" وهي صناعة مهمّة في دول عدة. قبل الأزمة، كان يستورد لبنان أدوية بقيمة 1.33 مليار دولار، 80% من هذه الادوية هي "البراند" و20% منها "الجينيريك"، وهي أرخص ثمناً، إذ يسيطر 5 شركات على استيراد 53% من الأدوية "البراند"، ويعملون على ترويجه، بالتعاون مع الأطباء، رغم توافر الدواء "الجينيريك" بالفعالية نفسها.

المتاجرة بلقمة عيش المواطنين ...

ينتج لبنان بين 50 ألف و60 ألف طن قمح سنوياً ويستورد 900 ألف طن، وتسيطر 5 مطاحن على كمية ونوعية الطحين. كما تستورد القمح بأسعار متفاوتة، وبالتالي يؤثّر الأمر على التسعيرة، فكلّما ارتفعت النوعية ترتفع التسعيرة إلى حد 3 آلاف دولار. تبلغ قيمة مستوردات القمح سنوياً 2.5 مليار دولار، وتتراوح نسبة أرباح الكارتيلات بين 30 و100%، في وقت يربح هذا القطاع عالمياً بين 3 و5%.

الاحتكار حتمية رأسمالية ...

يسمح الاحتكار للشركات القوية تحقيق المزيد من الأرباح من خلال دفع أجور منخفضة. ويفترض الاقتصاد الكلاسيكي أن أسواق العمل مرنة تماماً، وإذا دفعت الشركة أجوراً منخفضة، يمكن للعامل الذهاب والعمل في مكان تكون فيه الأجور أعلى. ولكن، إذا نشأت في مدينة حيث 80٪ من الوظائف في منجم فحم محلي مثلاُ، فليس لديك أي بديل. لا يمكن لعاملٍ، للعمّال الانتقال بسهولة إلى مدينة أخرى آملين في الحصول على وظيفة بأجر أفضل. لذلك، عليهم القبول بأجورٍ أقل.

قد تكون أفضل طريقة للمنافسة هي إبعاد المنافسين عن العمل. وبدون تنظيم حكومي، قد تقوم أكثر الشركات عديمة الضمير والأقوى بفعل ذلك. فرص حرة متساوية. جانب آخر للرأسمالية هو أنه من غير المحتمل أن تحدث فرص حرة متساوية.

تبقى الأسعار، في ظلّ ظروف الاحتكار، غير محدّدة وبالتالي غير مستقرة. عندما يمكّن التركّز للرأسماليين من تحقيق أرباح أعلى من المتوسط​​، يتعرّض المورّدون والعملاء لضغوط لإنشاء مجموعات مضادة تمكّنهم من تخصيص جزءّ من الأرباح الإضافية لأنفسهم. وهكذا ينتشر الاحتكار في جميع الاتجاهات من كلّ نقطة منشأ. وعن حدود الاحتكار، يقول الاقتصادي النمساوي رودولف هيلفردينج "يجب أن يكون الجواب على هذا السؤال هو أنه لا يوجد حدّْ مطلق للتكتل. ما هو موجود بالأحرى هو ميل إلى استمرار انتشار الكارتبلات. الصناعات المستقلة، تقع أكثر فأكثر تحت سيطرة الكارتيلات، وينتهي بها الأمر في النهاية بضمّها إلى الكارتيلات. ثم تكون نتيجة هذه العملية تكتّلاً عاماً. يتمّ التحكّم عن وعي في الإنتاج الرأسمالي بأكمله من مركز واحد يحدّد كمية الإنتاج في جميع مجالاته... إنه المجتمع الخاضع للسيطرة الواعية في شكل عدائي".

يوم قتل المحتكرون الشعب ...

خلال الحرب العالمية الأولى، أدّت المجاعة التي ضربت جبل لبنان بين عامي 1915 و1918 إلى موت نصف السكان. تظهر شهادة الأب أنطوان يمين مسؤولية حوالي 16 محتكر وأزلامهم عن تلك المأساة. يصف الأب يمين الوضع قائلاً: "هذه كانت حالة الشعب البائس من الجوع والتعاسة، بينما كان القسم الأكبر من أغنياء البلاد وزعمائه يتنعّمون بكلّ الملاذ، يولمون الولائم الفاخرة ويحيون ليالي الطرب ويختلفون إلى المنتديات العمومية ونوادي اللعب حيث يقتلون أوقاتهم وينفقون أموالهم الطائلة غير عابئين بإغاثة الملهوف ولا مبالين بدموع اليتيم وبكاء الأرملة وعويل العاجز والمُقعد.... هناك تحت دور المرابين والمحتكرين من ضاقت خزائنهم بالذهب والجواهر ومن ادّخروا لنفوسهم ولذويهم الحبوب وكلّ لوازم الحياة، هناك العذارى النادبات والأرامل الثاكلات واليتامى المتضورون جوعاً والفقراء المستَعطون الملتمسون فتاتاً من الخبز متساقطاً عن موائد أولئك الطمّاعين المُستكلِبين... ومخصصات مستخدمي الحكومة الذين كانوا يقدّمون كلّ يوم إسماً جديداً (لا وجود لصاحبه) يأخذون بموجبه وثيقة بكمية وافرة من الحبوب. ومبادلة الحبوب ــ على قلة كميتها ــ بالزيت والصابون والدبس والأقمشة كلّ ذلك كان من أكبر مسبّبات الشقاء والموت جوعاً في لبنان إذ إنه لا يخفى أن الذين تولّوا مسألة تبديل الحبوب بالمواد المشار إليها وفي مقدّمتهم الياس عبد جدعون صهر نجيب الأصفر ــ باعوا ثلاثة أرباع الحبوب بأفحش الأثمان ــ ووضعوا تلك الأثمان في جيوبهم الواسعة ــ وصرفوا الربع الأخير في سبيل المبادلة بتلك المواد."