ألبير منصور: الميكانيكي، صانع الأعواد

ننزل الدرج إلى مشغله، فنجده ينتظرنا، هو والأعواد المعلّقة حوله وتلك التي تنتظر صنعها مع "جمال"، تلميذه الميكانيكي.
بينما تصنع المعامل اليوم ما يعادل مائتي عود في الشهر، يشعر ألبير منصور بالرضى لصنعه ستة أعواد في السنة، "ماكسيموم". لكن الفارق بين عود المعمل و"عود ألبير" كبير جداً، كالفارق بين شال مطرّز باليد وذلك المصنوع على الماكينة...تماماً كالفارق بين أحياء بيروت اليوم وأحيائها القديمة.

يدير ألبير مشغلاً، "محافظاً عليه ضد المدّ الموجود" كما يقول عنه الباحث والموسيقي غسّان سحّاب. سمّاه على اسم عماد حشيشو، عازف العود الشاب الذي أحبّه من عرفه ومن لم يعرفه، حتى بعد أن رحل. بدأ ألبير منصور عمله كميكانيكي سيارات في "كاراج" في منطقة الباشورة، بجانب المعلّمين ليون وديكران، صانعيّ الأعواد.
لكن كيف انتقل من السيارات إلى الأعواد؟
"بحب العود عشان بحب غنّي." كنت دائماً في سعي لتعلّم العود. في لبنان، جرّبت التعلّم عند سعيد سلام. لكن لم يكن هناك تركيز على العود، بل على الغناء. وكان أن كسرت يدي، فبقيت سنة ونصف بلا عود ثم مات سعيد سلام. "انقهرت كثير. وراحت."
"في بيتي، عمّرت غرفة لصناعة الأعواد في حديقة المبنى." طلبت من أصحاب المبنى أن أبنيها فقبلوا. ثم انتهت الحرب، فهدموها. يومها كان مارسيل خليفة المحرّض الأكبر إذ كان يقول لي "تروك (إترك) الوسخ (العمل في الميكانيك) وعمول (إعمل) عوّاد."
"كنت عامل أوضة بالبيت أعمل فيها أعواد. ومن عشر سنين، وقّفت شغل بالميكانيك، وكان تقاعدي هو المشغل."
يخبرنا عن المشغل الذي أصبح اسمه اليوم "أتولييه عماد حشيشو"، ذلك المبدع الشاب الذي كسر قلب الجميع عندما رحل باكراً جداً.
"إبني الروحي كان" يقول ألبير، "يجلس هنا، يتربّع ويعزف....ويلوم نفسه عندما ينشغل عن زيارتي. عود عماد هون كمان، وصورته. تسمية المشغل كان تحية لروح عماد."
لكن من علّمه حرفة صناعة الأعواد؟
"ما حدا بيعلّمك إذا ما بتحب الشغلة. العود والقانون، الآلة الموسيقية عامّة، ما بتتعلّم كيف تصنعها، بتشوف."
تعلّمت قليلاً عند أبو جمال- محمّد النجّار- في منطقة الملعب البلدي. كنت أتفرّج عليه وهو يصلّح عودي، وكان عندي أسئة كثيرة: "ليش هيدي هيك؟ وليش العود بيطبّ زنده؟" (مع الوقت، ينكسر زند العود، وهي عملية تحصل بسبب وقوعه تحت قوة شدّ الأوتار). كان أبو جمال، كلّما سألته عمّا لا يعجبني في صناعة الأعواد، يجيب بلهجته الشحيمية:"هيدي خشيب، شو إشبيك؟" فأجيبه "لأنه خشب، لازم نقدر نتحكّم فيه."
قلت يوماً لأبي جمال بأنّي سأصنع عوداً لا "يطبّ زنده"، فضحك وقال "بقص زندي إذا زبط معك." عملت على زند وأردت أن أريه لأبي جمال، لكنني عرفت بأنه لن يأتِ ليراه. وكنت أعلم بأن "كاربوراتور" سيارته فيه عطل. فاتّصلت به قائلاً: "تعا، لقيتلك واحد يزبّطلك إيّاه." فلما جاء ورأى العود، سألني "مين عملّك إيّاه؟" قلت بأنّي صنعته بنفسي، فنظر إليه وهزّ برأسه ثم طلب فنجان قهوة...لم يعجبه الأمر. (ويضحك ألبير) وكنت كلّما تناقشت معه عن تفصيل وتمسّك هو برأيه، تقول له زوجته "ألبير عم يحكيك صح."
بالإضافة إلى ال"زند اللي ما بيطبّ. وكان الزند يطبّ لحدّ ما عمله ألبير"، ماذا طوّر في صناعة العود؟
الريَش -أي الأجزاء الخشبية التي تصنع طاسة العود- فأنا أصنع العود بعدد أقلّ من الريش -11 ريشة- فأوفّر "غري". وكلّما قلّت الريّش كلّما كان صنعها أصعب.
كما أنّني صنعت الطاسة المضلّعة، " شكل العود القديم كان مثل الصاج. معي العود بيطلع مبروم من ورا، فلمّا ينحضن، ما بيفلت." استوحيت هذا التغيير من عمل صانع الأعواد العراقي محمد فاضل الذي لم ألتق به يوماً للأسف. كنت أسأل عنه الناس كلّما ذهبت إلى العراق لكنني لم أستطع لقاء من يعرفه أو يعرف أين يعيش.
لكن أعواده عريضة، وأنا لم أرد أن يكون العود عريضاً. بقيت القصة في بالي فترة طويلة...أفكّر كيف أصنع عوداً بطاسة مضلّعة دون أن تكون عريضة. "شغلة صعبة". كنت أفكّر بالعملية وأنا نائم، فجاءت الفكرة. قمت من نومي صباحاً، صنعته و"زبط". "كلّه من ورا الميكانيك."
كنت أيضاً أعمل مع الراحلة سحر طه، وكانت الأوتار تعلق بكمّها. فجلسنا هنا نفكّر سوياً، حتى جاءت الفكرة: ثقبت فرس العود وأدخلت الأوتار فيه.
كما أنّني طوّرت في مفاتيح العود، بحيث أنّ حلّها وشدّها كان صعباً، فجلخت الخشب حيث تتركّز المفاتيح وجعلته أقلّ سماكة، فأصبح الحلّ والشدّ أسهل.
"العود اللي باعمله وزنه بين 800 و900 غرام. (وهذا وزن خفيف جداً، مقارنة مع أعواد ممكن أن تتخطّى الكيلو)" وقالب العود، طوّرته أيضاً. "كانوا يقولولي "ما بيهمّ شكل العود، المهم صوته." طيب يعني إذا حلو شكله بيكون مش منيح؟ (ويضحك) هاي تفاصيل صغيرة وبسيطة. شغلة العود بتصير إدمان ومرض لذيذ. ببقى نايم وعم إهدس كيف بدّي إشتغل."
ذهب منذ سنة 1960 حتى 1980 إلى الكويت وعمل في تصليح السيارات هناك. أي أنّه قرّر العودة في عزّ الحرب. شو رجّعك بعزّ الحرب؟
"الَلي ترّكني الميكانيك والّلي ترّكني الكويت هو ذاته. كنّا بعدنا عم نزبّط البيت، كلّه جديد. بعنا كل شي وطلعنا بالرينو 12 وجينا بالبرّ. غلّوا عليي أجار الكاراج، وأسعار قطع الغيار."
وماذا عن الحرب؟ لماذا بقي "هنا"، في بيروت الغربية بين مارالياس ووطى المصيطبة؟
"ماشاركت بالحرب...عصفور ما بقوّص. إجا لعندي شاب بيعمل قوس ونشّاب. عمل عود، منيح أحسن ما يعمل سلاح." يقول وهو يضحك.
"ليش بقيت؟جاوبتك بالأول، معقول عيش "هونيك"؟
و"بالأول" كان حديثه عن النداء، وكيف كان يوزّعها مع رفيقاته ورفاقه، والكثيرين من الشيوعيين القدامى الذي عرفهم وعرفوه جيداً.
وماذا عن صناعة الأعواد اليوم؟
"صوت العود هو الأساس في التخت الشرقي، هلق صار الغيتار." سيباستيان هو من أشهر صانعي اليتار من ألمانيا، جاء تدرّب عندي. كما جاء شخص من سويسرا، قضى هنا فترة مع عائلته، وكان يأتي كل يوم منذ الصباح ليتعلّم. ثم عاد إلى سويسرا وأنهى صناعة عوده هناك، فأرسله لي وبداخله مكتوب اسمي واسمه كصانعيه. لكن قليلون هم الشابّات والشباب من منطقتنا الذين يريدون تعلّم الحرفة. إبن صانع الأعواد الشهير، ابن زحلة، ربيع حدّاد، أحدهم.
"كان عندي عود بحالة سيئة، والناس يقولولي كبّه. إجا مرّة واحد بده عود لإبنه الصغير، حملته لأعطيه اياه، لقيت من جوا مكتوب "ربيع حداد"...فاحتفظت فيه."
"هاي المهنة، لازم تكوني تحبّيها، مش لتصنعي وتبيعي. أوقات بيحارجوني إنه العود غالي فبيقولولي "قديش آخد خشب هيدا؟" بقلهم "ع قدّ ما الرولز رويس آخدة حديد."
ماذا عمّا يجري اليوم في العالم؟
"فيه دينين ببلدنا: دين الفقراء ودين الأغنياء. والأغنياء أغنيا مدى الدهر. هيدول المطارنة اللي لابسين ذهب، والمشايخ اللي بيروحوا عالعزايم، ما بيستحوا من الفقراء؟ ما بيستحوا من ولد ماشي بالصحرا بأفريقيا عم يموت من الجوع؟"
موقفه من الدين والله والإيمان وطلب العجائب واضح ومنحاز للأضعف، "اللي بدّه يعمل هالعجايب، يصلّح كل هالشّحار والفقر والقهر."
"أنا اليوم باعمل أعواد، هيدا شغلي السياسي." يقول ألبير منصور، وهو يفرّغ ما نواجهه كلّنا من إحباطات وهزائم وقهر ممّا يجري ومن الظلم الموجود، في حب ما، في شغف، في خلق الأعواد.
لكن مع من يحبّ العمل اليوم؟
"استفدت كتير من مصطفى سعيد بالمهنة. أي شي ما بيعجبه، بيعطي فيه رأيه، بقوم أنا بجرّب. بينتبه كتير للتفاصيل." أحياناً أغيّر تفصيلاً صغيراً في العود الذي أصنعه، فيمسكه مصطفى ويكتشف التغيير، ويكتشف المدرسة الذي يتبع لها هذا التغيير. "مصطفى سعيد يمكن يعمل موسيقى ما يستسيغوها هلق...لأنه الدير القريب ما بيشفي."
يحدّثني غسّان والعاملة في القطاع الثقافي أريج أبو حرب، فيقولان بأن علاقة ألبير منصور بمصطفى سعيد-عازف العود الشهير ومؤسّس مجموعة "أصيل"-، واصفين إياها بأنها نوع من التكامل، يعلّم الإثنان بعضهما البعض، يطوّران بعضهما البعض و يكمّلان بعضهما البعض. وهي علاقة أصيلة تربط الحرفي\ة صانع الآلة بالفنان\ة الذي يستخدمها، "كلّ منهما بحاجة للآخر، كلّ منهما هبة للآخر." علاقة نخسرها مع خسارتنا للحرفيين والفنانين في آن معاً، في واقع يكون فيه تعلّم حرفة أو فن ما بحدّ ذاته، عمل جبّار ضد المدّ الاستهلاكي والحاجة المستمرّة للإنتاج بكثرة. عمل ضد التخمة من جهة، والقحط من جهة أخرى، ضد تسطيح الفكر ومن أجل الإبداع.

  • العدد رقم: 360
`


جنى نخال