بيت الموسيقى: الهواية والهويّة

"في عام ٢٠٠٨، أسّس الدكتور هيّاف ياسين *"بيت الموسيقى"*، بالتعاون مع النجدة الشعبية في عكار، وبرعاية الطبيب غسان الأشقر؛ وهو عبارة عن مدرسةً موسيقيةً مختصّةً بتعليم التقليد الموسيقيّ المشرقيّ العربيّ، أي الموسيقى الكلاسيكيّة العربيّة، متيحًا التخصّص العزفيّ على آلآلات مختلفة مثل: السنطور والقانون والعود والبزق والكمنجة، والرقّ والدربكّة والمزهر كما الناي والغناء العربي الأصيل. كما تتيح المدرسة تعلّم الموسيقى الكلاسيكيّة الأوروبيّة من خلال آلات البيانو والغيتار والكمنجة الغربية والساكسوفون والترومبيت وغيرها...

يشغل الدكتور هيّاف ياسين منصب المدير العام لبيت الموسيقى منذ إنشائه، وقد حاوَرتْه النداء بُغية الاطّلاع على التجربة الأكاديمية الموسيقية الأولى من نوعها في عكّار بالإضافة إلى تجربته الشخصية، بحكم علاقة الأولى بالثانية. يَروي لنا ياسين نشأة الفكرة وانطلاقة المشروع، فيقول: ”كنتُ أتكبّد المشقّة والمذلّة خلال سنوات دراستي في العاصمة. كعكّاري فهمتُ أن التكلفة ستكون عاليةً حتماً على ابن وابنة الأطراف إذا ما قرّر/ت اللّحاق بطموحه/ا واحتراف هذا المجال. وهي ليست تكلفة ماديّة فحسب، بل سيضطر لبذل وقتٍ وجهدٍ لحضور حصّتَين أو ثلاث أسبوعياً في بيروت، والموسيقى تتطلّب حداً أدنى من الراحة النفسية والجسدية لتُثمر مَلَكات وقدرات في الإنسان. في ظلّ الافتقار لأبسط مقوّمات العيش في المحافظة، أدركنا أن سدّ الفراغ الثقافي يتطلّب مبادرة جديّة وشجاعة. لذا شرعنا نبحث عن جهة نتّفق وإياها فكرياً للتعاون معها على تحقيق الهدف، رافضين التموضع سياسياً مع طرفٍ دون آخر لا سيما أن لبنان كان يمرّ بحقبة سياسية عصيبة وبالغة الحساسية، من اغتيال الحريري، إلى عدوان تمّوز، ومعارك نهر البارد، ثم أحداث ٧ أيار، وصولاً إلى اشتباكات الجبل والتبّانة في طرابلس. رغم ذلك كلّه ثابرنا على النضال، وأردنا للموسيقى أن تكون عنوانه. وقع الاختيار أخيراً على جمعية النجدة الشعبيّة، إيماناً منّا بالقيم والمثل التي تحملها وتطبّقها، فبدأ التواصل والتعاون. في البداية لم يتجاوز عدد الطلاب االسبعة، واليوم بعد عقد ونيف، تخطَّوا الألفي طالب وطالبة من المنطقة. بالنسبة لنا، يمثّل هذا الرقم ألفا أسرة عكّاريّة آمنت بنا، خاصة مع نقص الأندية التربوية والرياضية والترفيهية التي يكمن دورها في احتواء الشباب العكاريّ وإرشاده وتمكينه وصقل قدراته.“

يوفّر بيت الموسيقى دروساً أسبوعية مكثّفة لطلّابه، في حقلَي الموسيقى العربية الشرقية والأوروبية الغربية، وقد بات بوسعه اليوم تخريج طلّاب وطالبات أتمّوا المنهاج الأكاديمي الذي يشتمل على ثمانية أعوام. والجدير بالذكر أن الأطفال يقومون بتقديم حفلات دوريّاً، وهو الشرط الأساسي للترفع من سنة إلى أخرى، الأمر الذي يساهم في تعزيز قدراتهم النفسية واختبار معارفهم الفنيّة وتطوير أدوات التواصل والتخاطب لديهم. علاوة على ذلك، يشارك الأطفال الموسيقيون في مناسبات رسميّة واجتماعية متنوعة، كلّما أُتيحت لهم الفرصة، رغم انعدام المسارح المؤهّلة والمراكز الثقافية في عكّار. ذلك بالإضافة إلى مشاركتهم في مهرجانات عالمية في قبرص وكاتالونيا خلال العام المنصرم، وقد أحرزوا نجاحاً مبهراً. يشتكي د. ياسين من المركزية الإعلامية، قائلاً: ”يعود استخفاف الوسائل الإعلامية بنشاطنا الثقافي إلى عدم إيمان القيّمين عليها بقيمة هذا الإنتاج الموسيقي. فهم لا يتخيّلون أن مجموعةً من الأطفال، من أبناء الأطراف المحرومة، تقدّم عملاً فنياً متكاملاً ذا مستوى رفيع ومتميّز.“

كما يلفت انتباهنا د. ياسين إلى أن الطاقم التعليمي بأكمله مؤلّف من خرّيجي وخرّيجات بيت الموسيقى الذين تابعوا دراستهم الجامعية في مجالَي التربية الموسيقية والمعالجة بالموسيقى، ممّا يجعلهم مؤهّلين للتعاطي مع حالات نفسية وجسدية خاصة. فيُطلعنا ياسين على حالة طفلة تعاني من قصور في نمو أصابع يدها، ولكن هذا لم يمنعها من متابعة دروس العزف على البيانو مع أستاذة متخصّصة.

في مطلع الشهر الجاري (تمّوز) افتَتحت جمعية النجدة الشعبية اللبنانية فرعاً جديداً لبيت الموسيقى في طرابلس - منطقة الزاهرية، بتعاون مع المجمع العربي للموسيقى ومركز العزم والاتحاد الوطني للعمال وبلدية تاراغونا ومؤسسة CCOO. وقد تمّ ترميم إحدى المباني في المنطقة لهذه الغاية. وقد أحيا طلبة بيت الموسيقى العكاريّون حفل الإطلاق في بيت الفن في الميناء، على أن تبدأ الدروس خلال شهر بعد الانتهاء من عمليّة الإنتساب والتسجيل الأولية. عند سؤال د. ياسين عن سبب وقوع اختيارهم على طرابلس لإنشاء فرع ثانٍ، أجاب: ”إن التوسّع باتجاه طرابلس بديهي. فهي الإمتداد الجغرافي الطبيعي لعكار، وأول مدينة يحتكّ بها العكاري بحكم دورها الاقتصادي والحيوي في الشمال ككل. وللمدينة وضع خاص على المستوى السياسي والاجتماعي، الأمر الذي دفعنا إلى اختراق الجمود الثقافي والفني المهيمن عليها. ونأمل مستقبلاً بإنشاء فروع أخرى في بيروت والبقاع والجنوب متى توفّرت الظروف المؤاتية.“

يحدًّثُنا د. هيّاف ياسين عن آلة السنطور التي تعود جذورها إلى العصر القديم (الباليوثي). وقد عرفَها في البدءِ سكانُ بلاد فارس وما بين النهرين، ثم انتشرت وتطوّرت على مرّ الزمان حتى اتّخذت أشكالاً مختلفة. فنجدها اليوم بنسختها الهندية والإيرانية (بالفارسية تسمّى "السنتور") كما الأوروبية الشرقية وتُدعى “Cimbalom”. اقتصر استعمال السنطور عربياً على العراق دون سواه لا سيما في المقام العراقي، فهو مكوّن أساسي للجالغي البغدادي (التخت الموسيقي) بالإضافة إلى آلات الجوزة والدُمبُك والطّبل والدفّ المُرافِقة لقارئ المقام، أي المغني. إن الشبه بين السنطور والقانون بعيد المدى. فكلتا الآلتَين تنتميان إلى عائلة ”قيثارة الطاولة“ بحسب عِلم الأُرغَنوة (Organology)، وتختلفان شكلا -فالأولى شبه منحرفة متساوية الضلعَين فيما الثانية شبه منحرفة مستطيلة- وعزفاً بحيث تُضرب أوتار السنطور المعدنية بمضربَين خشبيَّين فيما تُنقر أوتار القانون المصنوعة من النيلون بالريشة.

أمّا عن بدايات رحلته مع السنطور، فيقول ياسين: ”كنت طالباً في الجامعة حينها، أعزف الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية والجاز على البيانو، وأطمح بالسفر خارجاً لمتابعة تخصّصي في الموسيقى الكلاسيكية. سنة 2002، تعرّفت صدفة على السنطور الفارسي المُستخدَم في موسيقى الرّديف الإيرانية وأحببتُ صوت الآلة. سألتُ أستاذي، نداء أبو مراد، عن إمكانيّة عزف الموسيقى العربية عليها، فأجابني مستسهلاً: ”طبعاً، شغلة دوزان“. لعلّ ردّه المبسّط جاء بنيّة حثّي على التجربة والمغامرة. كما أعطاني سنطوراً فارسياً يملكه، وهو يتألّف من تسع دامات (نسبةً لقطع الداما، أي القِطَع الخشبيّة التي تستند عليها الأوتار). أنا لا أجيد عزف الموسيقى الفارسية إلى اليوم، فهي تختلف عن العربية كاختلاف لغة عن أخرى. إلّا أنّني كنتُ ملمّاً ببعضٍ من أصول الموسيقى العربية. اجتهدتُ لأطوّر قدراتي، حتى اكتشفتُ أن الأمر يتطلّب تطويراً في شكل السنطور الفارسي، فأضفت إليه خمس دامات مع أوتارها وغيّرتُ ما يتوجّب، فكان ما أسمَيتُه ”السنطور المشرقي العربي“ الذي أُدرج رسمياً في الجامعة الأنطونية (قسم الموسيقى) واللبنانية (قسم التربية الموسيقية). كما قمتُ باختراع آلة ”السنطور التربوي“ للاستخدام المدرسي ممّا يتيح للتلميذ لعب المسافات العربية عليه. وقد نلتُ براءة اختراع بها في العام ٢٠٠٥.“ وعند استفسارنا عن كيفيّة تصنيع السنطور المشرقي المحترف والتربوي، يخبرنا د. ياسين عن افتتاح مصنع خاص في الشوف يتمّ الترويج له عالمياً.

ختاماً، لبيت الموسيقى دور جوهري، -بسيط طبعاً إذا ما نظرنا إلى صورة الواقع الكاملة- في إشباع الجوع الثقافي، كما في إعادة إنتاج وعي جماعي للفئة الناشئة من أهالي المنطقة. يشبههم، له أن يحدّد هوية محليّة حقيقية، ترتكز على الإرث الثقافي التاريخي الغني للمشرق العربي، دون التقوقع في التقليد والرجعية الأصولية بالضرورة. إذ أنّ الانفتاح على الحداثة لا يكون بمجرد لعب دور المتلقّي والمتلقّن السلبي للثقافة الاستهلاكية الرأسمالية المبتذلة التي تحاصرنا من كل حدب وصوب، أو بالانسلاخ الكلّي عن ماضي هذه المنطقة قبل الاستعمار. في هذا السياق، يشير د. هيّاف ياسين إلى سوء توزيع التمويل على الإنتاج الموسيقي في لبنان، والذي لا يقتصر فقط على الموسيقى الرائجة الخفيفة، بل يتعدّاها إلى ما يسمّى اصطلاحاً بالموسيقى الجديّة، الهادفة والملتزمة، رغم أنّها لا تتعدّى كونها اجتراراً فارغاً للإنتاج السالف؛ ولهذا انعكاس صريح ووقح على واقع الموسيقى في لبنان اليوم.

 

  • العدد رقم: 361
`


فاطمة فؤاد