سماع سحر طه...

كان أوّل عهد الوسط الثقافي البيروتي بسحر طه، في ثمانينيّات القرن الماضي، في "لقاء الجمعة الثقافي"، وكانت من مؤسِّسيه ومستضيفته في منزلها مع شريك حياتها سعيد طه. كانت بيروت آنذاك قد نفضت عن كاهلها الاحتلال "الاسرائيلي"، مثل طالع لتوِّه من تحت الأنقاض، ينفض الغبار عن كتفيه بخنصريه، في حين كان الذين ظنّوه باقياً تحت الأنقاض إلى الأبد لا يزالون يفترشونها مأخوذين بتقاسم تركته، مثلما جرى تقاسم رداء المعلّق على الصليب.

هكذا كانت بيروت قد ازدوجت ومعها ثقافتها. كانت بيروت جديدة في صدد إعلان قيامتها، أو بالأحرى ميلادها. بينما كان دأب أصحاب ثقافة الشعارات أن يكرِّروا القديم. أن يتقاسموه ويعيدوا اقتسامه. كان هؤلاء قد حسموا خيارهم الثقافي إلى الأبد، متعلِّقين بالطوائف التي وَرِثَتْهم واستورثتهم، واعتبروا الأمر منتهياً.
أمّا الثقافة الوليدة فكانت ولا تزال تطلع من تحت الأنقاض، متعرِّفة طريقَها، لغتَها، نفسَها. كانت تختار مثقّفاتها ومثقّفيها بلا استئذان، تتعرّفهنّ وتتعرّفهم في أعمال بسيطة طالعة من القلب، لا تبغي ظهوراً ولا شكوراً. تبغي فقط الوصول إلى القلب، كي ينبض، كي يفرح بالحياة، نافضاً عنه بعض الوجع، كالطالع من تحت الأنقاض ينفض الغبار عن كتفيه.
هل كانت سحر طه تدرك أنّها مِمَّن وقع عليهنّ وعليهم خيار الثقافة الوليدة، بهنّ وبهم تولد، من القلب؟ تُرَجِّح سيرتها البسيطة – الغنيّة في بساطتها – أنّها كانت تُدرك.
لدينا من إرث سحر طه ما يضعنا على مشارف عالَم غير محدود انطوى القلب عليه، ويمكن استقراؤه دون الحاجة إلى تشريح العضلة النابضة.
ترتسم في الذهن وِسْعَ الكون علامةُ استفهام كبيرة مع سؤال التصوّف في هذا الإرث. ما الذي جاء به؟ وكيف؟ مَن الذي، أو ما الذي استدرج تلك الشابّة البغداديّة إلى غناء النصّ العربيّ الصوفيّ، منظوماً ومنثوراً، وهي التي جاءت بيروت ولم تكن تملك ما تقدّمه للثقافة البيروتيّة سوى أن تغنّي بغدادي، كي يأتي الغناء من القلب إلى القلب؟
سؤال التصوّف هذا في الغناء لم يكن عارضاً. ليس عبثاً ذلك الحرص منذ البدء على ألّا يُترَك للمصادفة أمر وصول الغناء إلى القلب، وليس صدوره فقط، بعفويّة. فقد اقترن الغناء في بيروت، لبيروت، منذ البدء، بدراسة الغناء. لكنّ السؤال يكبر، متّخِذاً بُعداً كونيّاً، إذ تُخبِرنا سيرة حياة سحر أنّه سبق ظهور المرض الخبيث. لكن يبقى أن نستوعب أثر هذا الظهور كربط الشخصيّ بالعامّ، الملموس بالمجرَّد، القلب بالعقل...
لنا أن نتصوَّر ارتباط مقاومة مرض الجسد بحكاية المقاومة تتجدَّد في وعي الشابّة البغداديّة وهي تتعرّفها في بيروت كثقافة وليدة تخاطب الفرد المؤهّل كأنّها تستدعيه إليها عاشقاً على مدى الكون.
هل نلمح ذلك الخيط الذي يشدّ شاعرات التصوّف بعضهنّ إلى بعض فتغنّي سحر عشقهنّ من القرن الثاني للهجرة حتّى القرن العشرين؟
هل نقرأ الصلة بين الحلّاج وابن الفارض والألماني غونتر غراس مروراً برياض فاخوري وسامي مكارم؟
هل نرافق سحر في جولاتها العربية والعالميّة، ونستمع إليها في أمسياتها الغنائيّة وألبوماتها، ونتمعّن في مؤلّفاتها وكتاباتها النقديّة، فنتعرّف وحدة الوجع العربي والانساني في فرح اللقاء المتجدّد مع الحياة، من بغداد، إلى صبرا وشاتيلا، إلى اليمن حيث غنّت لغونتر غراس في حضوره انحيازَه الكوني إلى فلسطين؟
حتماً، لا نزال، في معرفتنا لسحر طه وإرثها الغني، على عتبة عالمها الشخصيّ والعامّ، وسيكون التبحّر في قراءة سطورها وما بين السطور غَوْصاً على كنوز تشير معطيات كثيرة إلى وجودها في الأعماق، هناك حيث أودعتها الثقافة الوليدة كي تستكشفها الأجيال الشابّة، مستعينة بالمفاتيح التي تركتها سحر وراءها عند العتبة.

 

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 364
`


الياس شاكر