شفطوا أموالنا بذريعة الدين العام، فلمن ندفع هذا الدين؟

الدين الحكومي في نهاية الامر، ليس إلا ديناً مستحقاً على جزء من البلد (الذين يدفعون الضرائب) لصالح جزء آخر من البلد (الذين يحصلون على الفوائد).

توماس بيكيتي – رأس المال في القرن الواحد والعشرين

نحن مديونون، ويتم تذكيرنا بذلك على مدار الساعة. وللمفارقة إن الفاشلين الذين تسببوا بتفاقم هذا الدين، هم أنفسهم يذكروننا بذلك يوميّاً. هل تتخيّلون ذلك؟ مجموعة استلمت البلد منذ ما بعد الحرب، وكل التجارب تقول أن أي بلد يمرّ بحرب، تشهد مرحلة إعادة إعماره نموّاً متصاعداً (ألمانيا واليابان الخاسرتان في الحرب العالمية الثانية سجلتا نسب نمو بعد الحرب وصلت إلى الـ7% لمدة ثلاثين عاماً) خاصة وإن كانت هذه المرحلة تمت بتوافق دولي، بمعنى توقف الحرب لم تتبعه حرب إقتصادية مثل العقوبات. اذا استلمو البلد في ظل هذه الظروف التي تسمح بالنمو السريع، ولكنهم يتباهون اليوم بأن هذا البلد مديون بأكثر من 85 مليار دولار وأنه مشرفٌ على الانهيار. أي يتباهون بفشلهم. وأمام كل استحقاق يطلبون من الناس أن تجدد لهم. ما هذه الوقاحة!
في المقابل، هم لا يقولون لنا لمن نحن مديونون. من هو هذا الدائن الذي ندفع له، ليس الدين الذي أقرضه للدولة فحسب، بل وفوائد الدين، ونحن نقوم بذلك منذ 29 سنة؟ وإذا استمر الوضع على ما هو عليه، سنبقى ندفع إلى ما لا نهاية. لذا فهم يحاولون إيهامنا أن اموالنا يأكلها الفساد. طبعا الفساد مصيبة، ولكن مصيبتنا الكبرى هي النموذج الاقتصادي المعتمد، الذي يشرع النهب المنظم، ومن أساليب النهب هذه الدين العام. فلا يغشكم أحد، العلة هي النظام، وكل شيء آخر ما هو إلا نتيجة طبيعية له.


الدين العام يؤدي إلى زيادة الثروات الخاصة


في معرض بحثه في تاريخ الثروة، يقول الباحث الاقتصادي الفرنسي "توماس بيكيتي"، أن الثروة في القرن التاسع عشر كانت تأخذ أحد هذين الشكلين: أراضٍ أو سندات حكومية. وبالتالي فهي كانت موجودة لإنتاج الريع، أي مداخيل مضمونة ومستقرة بالنسبة لحائزها. ومن ثم يتوسع في بحثه لدراسة العلاقة بين الدين العام والثروات الخاصة، من خلال أخذه لعيّنتين من الدول، فرنسا وبريطانيا. يخلص بيكيتي في دراسته هذه إلى الآتي:
في الحالة الفرنسية، تم التخلص مرتين من الدين العام. الأولى كانت سنة 1790، حيث تراجع الدين العام إلى الثلث (أقل من 20% من الدخل القومي). حصل ذلك نتيجة لقرار سياسي ثوري، يسميه بـ"الافلاس الثوري"، حيث امتنعت الدولة عن سداد ثلثي الدين العام، ترافق ذلك مع نسب تضخم عالية ساهمت في تقليص هذا الدين. أما الثانية، فكانت بعد الحرب العالمية الثانية، حيث ساهمت نسب التضخم العالية (50% سنويّاً) بين أعوام 1945 – 1948، إلى تراجع الدين العام إلى مستويات منخفضة نسبيّاً (30% من الناتج القومي سنة 1950 بعد أن كان 80% سنة 1913). وبالتالي، في كلتا الحالتين (الامتناع عن الدفع و التضخم)، تمكّن الاقتصاد الفرنسي من الانطلاق مجدّداً متحرّراً من الأعباء الثقيلة للديون.
أما بريطانيا، فعلى النقيض تماماً، حيث تعتبر مثالاً تاريخيّاً على دولة تتعايش مع دين عام عالٍ جدّاً ولم تتعثّر بسداد هذا الدين، فمن جهة حافظت حكومات القرن التاسع عشر على معدلات تضخّم منخفضة جدّاً، وفائدة على الدين مرتفعة نسبيّاً (4-5%)، ومن جهة أخرى كان الاقتصاد البريطاني يعمل بكامل طاقته الانتاجية، فلم يسجّل أي عجز في الموازنة على امتداد كل تلك الفترة. وهذا طبعاً يعتبر "صفقة رائعة" للمقرضين، حيث أن الدولة من خلال فوائض الموازنة يمكنها أن تستمر بالدفع دون توقف طالماً أنه لا يوجد قرار سياسي يناقض ذلك، ومن جهة أخرى الفوائد العالية نسبيّاً وتجعل الدين العام يتراكم، فعلى مدى مئة عام لم تتمكّن بريطانيا من دفع القيمة الأولى للدين العام، بل فوائد هذا الدين. لذا تطلب الأمر مئة سنة (1815 - 1914) من الفوائض في الموازنة كي ينخفض الدين العام إلى 30% من الدخل القومي. وكان نتيجة ذلك أن الثروات الخاصة للمقرضين، أي للأثرياء البريطانيين، ارتفعت 800%. فيقول بيكيتي "لا شك أن هذه الاستدانة الحكومية الكبيرة زادت من وزن الثروات الخاصة البريطانية". وبالتالي فإن المستفيد الأول والوحيد من الدين العام كان أصحاب الثروات في بريطانيا وورثتهم.


كيف تنهب شعب لمئات السنين؟


قبل دراسة حالة لبنان، لنحاول استخلاص بعض الدروس من هاتين الحالتين. سنة 1914 وبعد قرن من دفع الديون، لم تتخلّص بريطانيا من دينها العام (سنة 1815 كان هذا الدين مليار جنيه استرليني، وسنة 1914 بقي نفس المبلغ)، بل من فوائد دينها فحسب، وهنا لا بد من التشديد على أن بريطانيا في ذلك الوقت كانت من أهم البلدان الصناعية، ونمو الناتج المحلي الاجمالي والدخل القومي كان يسجل حوالي 2.5% على امتداد كل تلك الفترة. كما أن الموازنة لم تسجّل أي عجز. ولولا هذه الخصائص التي تمتّع بها الاقتصاد البريطاني آنذاك، لما تمكّن حتى اليوم من تسديد هذا الدين الضخم (أو بشكل أدق فوائده). ففي حال عجز الموازنة، سيكون هناك طلب متزايد على الاستدانة، وهذا يفاقم المشكلة أكثر.
بناءً عليه، سنلخص كل ما سبق بأربع نقاط، تسمح للمقرضين بأن يستمروا في "شفط" كل إنتاج البلد، وبالتالي في أن يحافظوا على قيمة دينهم للدولة لا بل ومضاعفة هذا الدين عشرات المرات. والآليات المثالية للنهب كالتالي:
1- الحفاظ على معدلات تضخم منخفضة خاصة إذا كانت الاستدانة بالعملة المحلية.
2- الاستدانة بالعملات الأجنبية، ممّا يحافظ على قيمة الدين لأمد طويل جدّاً، ويعطّل أي تأثير للتضخم على قيمة الدين.
3- رفع معدّلات الفائدة على الأوراق الحكومية إلى حدّها الأقصى الممكن.
4- المحافظة على معدّلات العجز في الموازنة، مما يزيد الطلب على الإستدانة، وهذا يصب في صالح أولئك الذين يلبّون هذا الطلب.
5- اعتماد نظام ضريبي يحمل كلفة العجز والدين إلى كل الشعب ما عدا المقرضين.


هندسة النهب في لبنان: الدين العام هو الدجاجة التي تبيض ذهباً


منذ العام 1993، أبدعت الحكومات المتعاقبة، وخاصة الحريرية منها، في تطبيق آليات النهب المذكورة أعلاه. فبالطبع الخزينة اللبنانية كانت تعاني من عجز، خاصة وأن البلد خارجٌ من حرب، وهو يحتاج إلى إعادة إعمار. فما هي الخيارات المطروحة لسد هذا العجز في حينه؟ الخيار الأوّل هو طبعاً الاستدانة، وهذه الاستدانة ممكن أن تكون محلية (أصحاب الثروات ورؤوس الأموال)، أو خارجية (من دول أو منظمات دولية). أما الخيار الثاني فهو فرض ضريبة عالية جدّاً على الثروات (هذا ما حصل في الدول الاسكندنافية بعد الحرب العالمية الثانية)، وبهذه الحالة لا تحتاج الدولة إلى الاستدانة، وبالتالي لا تترافق مرحلة النهوض بعد الحرب مع أثقال كبيرة ينتجها الدين.
طبعا النظام اللبناني اختار الاستدانة. فمن جهة، المقرض هو أركان السلطة وحلفاؤهم (مصارف، شركات عقارية،...). ومن جهة أخرى، من سيختار الضريبة أو القرض، هم أنفسهم الذين سيدفعون الأموال على شكل ضريبة أو على شكل قرض. هل تعتقدون أن "ملائكة" النظام اللبناني سيختارون أن يدفعوا ضرائب مرتفعة لسد احتياجات الدولة؟ قطعاً لا، فهذه الضرائب لن يكون لها أي عائدٍ مالي لهم. وانطلاقاً من خلفيات جشعهم وسعيهم لمراكمة الأموال، اختاروا القروض، فبهذه الحالة سيحصلون على عوائد مالية لعشرات السنين (بريطانيا مثالاً).
لذا هذه الاستدانة التي تقدر بـ 2.5 مليار دولار سنة 1992، كانت بمعظمها بالليرة اللبنانية، وسعت السلطة إلى تثبيت سعر الصرف، وبالتالي إلى الحفاظ على معدّلات تضخم منخفضة، ومعدّلات فائدة على الأوراق الحكومية (سندات الخزينة) مرتفعة. وكان هذا الوضع مثاليّاً للمقرضين. لذا ارتفع الدين العام من ما نسبته 50% من الناتج المحلي، إلى أكثر من 100% من الناتج المحلي سنة 1997. وممّا زاد من مثالية هذا الوضع، الموازنات الحكومية التي سجلّت في تلك الفترة عجوزاتٍ متتالية (24% سنة 1997)، ممّا يعني طلب متزايد على الاستدانة.
وللمزيد من الإبداع في النهب والحفاظ على مصالح الناهبين، بدأت السلطة الاستدانة بالعملات الأجنبية، وتحوّل نصف الدين تقريباً من الليرة اللبنانية إلى العملات الأجنبية (وهو ما يقوم به المصرف المركزي من "إبداعات" للحفاظ على مصالح المصارف). هذا على الرغم من أن الراحل رفيق الحريري كان قد تعهّد بعدم الاستدانة سوى بالليرة اللبنانية. إلا أنه يبدو أن الممسكين حينها بالقرار السياسي-الاقتصادي، قد درسوا التجارب التاريخية جيّداً، وعلموا أن الاستدانة بالعملة المحلية يهدد باب رزقهم، حيث أنه في حال ارتفاع التضخم ممكن أن يؤدي ذلك إلى تبخر الدين العام، وبالتالي تتبخر أداة النهب و"الشفط" الذي يستخدمه هؤلاء. فكان الهروب إلى الاستدانة بالعملات الأجنبية كخط دفاع أساسي إلى جانب سياسات المصرف المركزي.


خاتمة: فلنقاتلهم


يقول بيكيتي واصفاً حال القرن التاسع عشر "كان الثمن الباهظ لسداد الدين هو الأمر الجوهري، فقد كان التضخم منعدماً تقريباً خلال تلك الفترة، بينما معدل الفائدة على الأوراق الحكومية مرتفعٌ للغاية (4-5%)، وهو بالتأكيد أعلى من معدل نمو الاقتصاد. في مثل هذه الظروف يصبح الدين العام صفقة رائعة بالنسبة لحائزي الثروات وورثتهم". فماذا كان ليقول حول واقع لبنان خلال السنوات الثلاثين الماضية؟ في لبنان معدلات التضخم منخفضة (إنهاء الدين عبر التضخم أصبح مشكوكاً بنجاحه نتيجة النسبة المرتفعة للدين بالعملات الاجنية). ومعدلات الفائدة على الأوراق الحكومية سيتم رفعها إلى الـ 10%، كما أن معدلات النمو منخفضة جدّاً. وضف إلى ذلك عجوزات متتالية في الموازنة. وهذا يعني استحالة تسديد الدين العام. وللدقة، طالما أننا نستمر بنفس لعبة وشروط الناهبين، فلن نتمكّن من تسديد هذه الأموال، أي لن نستطيع توقيف النهب. الحل يتمثّل في الرفض الواضح والصريح لدفع المزيد. لقد أخذوا أموالهم مضاعفة مئات المرات. الآن عليهم أن يدفعوا هم. ولكن هل السلطة ستقوم بذلك؟ مستحيل، فهذا ما يسعون جاهدين لتجنبه، بالرغم من أن استمرار نهبهم مرتبطٌ بعدم انهيار البلد، ولكنهم يفضّلون سد العجز من خلال فرض ضرائب على الشعب، على أن يفرضوا ضريبة ولو متوسطة على ثرواتهم.
إن النموذج الاقتصادي الذي تم تكريسه منذ العام 1993، أدّى من خلال العديد من السياسات وأهمها الاستثمار الإجرامي بالدين العام، إلى تعاظم ثروات التحالف الحاكم، حيث تشير الدراسات التي أجريت عن توزع الثروة والدخل في لبنان (ليديا أسود، 2017)، إلى أن الـ 10% الأغنى في لبنان يملكون 70% من الثروة في هذا البلد، وتضيف لم يستفِدْ من النموذج الاقتصادي اللبناني إلّا قلة قليلة من السكان، بينما يعيش أكثر من 50% من اللبنانيين في أقصى حدود الفقر.
هذا النموذج تم تكريسه من خلال تحالف الناهبين الذي ضُمّ إلى أمراء الحرب "المنتصرين" وحاشيتهم (بري، جنبلاط،...)، رموز السلطة الجدد (الحريري، السنيورة،...)، والطغم المالية اللبنانية، من أصحاب الثروات المتوارثة (500 عائلة أي ما نسبته 0.3% من السكان يملكون 48% من الثروة)، من ضمنها المصارف ممثلة بجمعية المصارف (حكّام الظل) وأصحاب الاحتكارات، وبتغطية من المنظومة الأمنية التي أشرفت على لبنان (معظم الضباط السوريين أو المسؤولين الأمنيين الذين أشرفوا على لبنان في تلك الفترة، كانوا يحصلون على حصتهم من النهب من قبل السلطة اللبنانية)، وطبعاً بإشراف المنظمات الدولية ومباركتها. واليوم يستمر هذا التحالف من خلال الناهب "الأصيل" أو الورثة.
أخيراً، بلغت كلفة خدمة الدين العام منذ 1992 حتى 2017، 77 مليار دولار، بينما ارتفع الدين العام من 4.4 مليار(1993) إلى 85.1 مليار دولار(2018). لقد دفعت الاكثرية الساحقة من اللبنانيين (90%) هذه الأموال إلى قلّة قليلة منهم (10%). وحتى بين هؤلاء هناك تركز في الثروة، الـ1% الأغنى يملكون أكثر من نصف ما يملكه هؤلاء). ولهؤلاء أسماء، فبالإضافة إلى الذين ذكرناهم أعلاه، نضيف، على سبيل المثال لا الحصر، رئيسي الحكومة السابق والحالي. حيث بلغت ثروة نجيب ميقاتي 2.7 مليار دولار، وثروة سعد الحريري 1.5 مليار دولار. إن محاكمةَ كل هؤلاء أصبحت واجباً والعدالةَ الشعبية لمن "شفط" أموال الشعب وقتله بالحرب الاقتصادية ضرورةٌ ملحة، لذا يجب أن يُواجَه هؤلاء بكل عنف. من باع الوطن للمحتلّ، قاومناه وقدّمنا آلاف الشهداء لاستعادة أرضنا. ومن باع هذه الأرض عبر الاقتصاد، ويقول لنا اليوم أننا مفلسون وأنه باعنا للخارج (هذه طبقة تاريخيّاً عميلة للامبريالية)، يجب أيضاً مقاومته، وبنفس القوة. نحن لا نملك شيئاً لنخسره، فلنأخذ منهم أموالنا، بكل الطرق المتاحة، ضريبة عالية على الثروات، والتوقف عن دفع الدين العام. بكلمة واحدة، فلنقاتلهم.

المصدر: تقارير صادرة عن وزارة المالية اللبنانية (2006، 2019). إعداد: النداء.

يظهر هذا الرسم البياني تطور الدين العام في لبنان منذ سنة 1993 (4.4 مليار دولار) حتى 2018 (85.1 مليار دولار). كما يظهر حصة الدين العام المصدر بالليرة اللبنانية من إجمالي الدين العام، وكذلك حصة الدين العام بالعملات الأجنبية من إجمالي هذا الدين. ويبدو واضحاً كيف ازدادت الاستدانة بالعملات الاجنبية، خاصة بين الاعوام 2000 – 2007، حيث أصبح إجمالي الدين العام موزعاً بالتساوي على العملات الاجنبية والليرة اللبنانية.

 

المصدر: تقرير صادر عن وزارة المالية اللبنانية (2006). إعداد: النداء.

يظهر الرسم البيان الإنفاق الحكومي على خدمة الدين العام من جهة، وعلى الرواتب والأجور وملحقاتها من جهة أخرى، وتظهر الأرقام أنه في الفترة بين العام 1997 و 2006، كان الإنفاق الحكومي على الدين العام دائما أعلى من الانفاق على الرواتب والأجور، وهو مستمرٌ على نفس الحال. وهذا يُعرّي منطق السلطة بأن الأزمة اليوم ناتجةٌ عن إقرار سلسلة الرتب والرواتب، بينما تظهر هذه الأرقام أن المشكلة الحقيقية هي في خمة الدين العام، خاصة وأن هذه الأموال تذهب إلى قلّة قليلة جدّاً من المقرضين، بينما الرواتب والأجور تغطّي مئات آلاف الاشخاص. مثلا، سنة 2003 كانت حصة خدمة الدين العام (3.2 مليار دولار) من الإنفاق الحكومي توازي ضعفي حصة الرواتب والأجور وملحقاتها (1.6 مليار دولار).

 

المصدر: إدارة الاحصاء المركزي. إعداد: النداء.
  • العدد رقم: 356
`


أدهم السيد